ليس من قبيل المبالغة إطلاق اسم "الشهيد الحي" على الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد. دفع أبو زيد ثمنا غاليا لدراساته حول النص الديني من خلال اعتماد منطق ومنهج وتوجه مخالف للتقليد السائد. "أقيمت الدنيا عليه ولم تقعد" حتى الآن، وسخّر القضاء المصري نفسه في تلفيق التهم بالردّة والإلحاد ضدّه فأصدر قرارا تعسّفيا بتفريقه عن زوجته. وضع على لائحة المطلوب تصفيتهم جسدياً بعد أن أفتى رجال دين ينتمون إلى أزمان القرون الوسطى ومحاكم التفتيش بهدر دمه. صحيح أنّ "حكم الإعدام" الذي صدر بحقّه من خلال اتهامه بالهرطقة والزندقة لم يجد طريقه إلى إزاحة أبو زيد من هذه الحياة، لكنّ تطبيق هذا الحكم اتّخذ شكلا مؤلما لأبو زيد عندما أجبر على مغادرة بلده مصر والالتجاء إلى بلد أوروبي من أجل أن يدرأ الموت الذي كان محتّما فيما لو بقي مقيما في مصر، خصوصا أنّ مصير الكاتب فرج فوده وغيره من المتنوّرين كان لا يزال ماثلا وأنّ دمه لم يجفّ بعد. هكذا اختار أبو زيد تنفيذ الحكم ضدّه بنفي نفسه من بلده وارتضاء العيش في العالم الغربي، وهو أمر أتاح له أن يستمرّ في عطائه وفي مقارعة التخلّف الثقافي والفكري الذي تقبع فيه المجتمعات العربية بشكل عامّ، وأن يستكمل مقارعته للأصولية الإسلامية وفكرها الظلامي. السياق التاريخي لزمن أبو زيد برزت طروحات نصر حامد أبو زيد ودراساته في الربع الأخير من القرن العشرين، وهي فترة تميزت بخصوصيات في العالم العربي عموما وفي مصر خصوصا. عربيا كانت تلك الفترة تشهد ذروة انهيار مشروع التحديث العربي والبرنامج القومي والاشتراكي الذي ساد في أعقاب تحرر البلدان العربية من الاستعمار وإقامة الدولة الوطنية فيها. فشلت الأنظمة والسلطات والطبقات السائدة في إنجاز مشروع التحرر الوطني والقومي، وعجزت عن مواجهة المشروع الصهيوني بل تكبّدت خسائر إضافية في مواجهته، وعجزت أيضا عن إقامة مشاريع تنموية تسهم في نهضة المجتمعات العربية وانتشالها من الفقر المدقع، كما فشلت في وعودها بتحقيق الديمقراطية والعدالة والمساواة والحفاظ على حرية التعبير. فما حققته هذه الأنظمة جاء معاكسا لوعودها في جميع المجالات، فالقهر القومي والوطني تصاعد في ظلّ استسلام عربيّ أمام العدو الصهيوني والامبريالي، والتقدم الاقتصادي المنشود تحوّل إلى مزيد من البؤس الاجتماعي من خلال مستوى الفقر المدقع الذي يطال معظم الشعوب العربية، مضافا إليه أرقام خيالية في البطالة ومستوى الأمية. أمّا على صعيد إقامة الديمقراطية، فالفاجعة أكبر من أن توصف، فجرى قمع الحريات وفتحت السجون وعلّقت المشانق ضدّ المعارضات إلى أيّ نوع انتمت، ومن لم يكن في السجن كان مصيره القبر أو المنفى، بحيث أمكن لهذه الأنظمة إبادة قوى المعارضة بما سمح لها باسترخاء واطمئنان إلى سيادة سلطتها. في هذا المناخ من العجز تقدّمت الحركات الإسلامية الأصولية لتقدم نفسها جوابا عن فشل المشاريع القومية والاشتراكية وطرحت شعار "الإسلام هو الحل"، وتمكنت عبر ازدياد نفوذها من فرض تشريعات وسلوكيات ليس أقلّها فرض الأحكام التي تراها مناسبة بواسطة القوّة والتصدي لكلّ مخالف لرأيها في هذا المجال. أما مصريا، فقد شهدت تلك الفترة حكم أنور السادات في أعقاب وفاة جمال عبد الناصر، حيث استحضر السادات الحركات الإسلامية، خصوصا منها حركة الإخوان المسلمين، وأعطاها دوراً كبيراً في الحياة السياسية والفكرية والثقافية في مصر، وذلك في سياق صراعه مع بقايا الناصرية واليسار. وأرفق السادات هذا التوجّه بعقد حلف مقدّس مع المؤسسة الدينية الرسمية تقوم هذه المؤسسة بموجبها بدعم سياسات الرئيس المصري، الداخلية منها والخارجية، مقابل إطلاق يد المؤسسة الدينية في فرض تشريعات تستند في رأيها إلى الدين الإسلامي، ومكافحة ما تراه يمسّ في دور هذه المؤسسة في الهيمنة على الحياة الثقافية والفكرية في مصر. استفادت الحركات الإسلامية ومعها المؤسسة الدينية من الغطاء السياسي الذي وفّره لها نظام السادات في شنّ حملات متواصلة ضدّ الكتّاب والمفكّرين ورجال الصحافة من الذين ترى أنهم يناوئون سيطرة المؤسسة الدينية على الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في مصر، أو من الذين يعارضون السياسة العامة للسادات خصوصا في مجال الصلح مع إسرائيل، حيث تبرع شيخ الأزهر آنذاك بإصدار فتوى تجيز هذا الصلح وتقرنه بما قام به الرسول محمد في زمن الدعوة الإسلامية. هكذا جرّدت حملة شعواء من رجال الدين واستحضرت دعاوى "الحسبة" ووضع القضاء في خدمة هذه الحملة منعا لبروز أصوات معارضة ضد النظام وسعيا لسيادة ما تقول به المؤسسة الدينية ومعها الحركات الإسلامية السائدة. في هذا المناخ انطلقت الحملة ضد نصر حامد أبو زيد، حيث كان هناك إجماع من المؤسسة الدينية والحركات الإسلامية على خطورة طروحاته التجديدية والتنويرية، وما يمكن أن تشكل من أثر إيجابي في الحياة الثقافية في مصر. جرى تصويره عدوا للدين وحاملا معول هدمه، فكان لا بدّ من وضع حدّ لهذا الرجل والتمثيل به عقابا له ودرسا لأمثاله في مصر وخارجها. فما هي مفاصل خطاب أبو زيد الذي استوجب هذا الحقد وهذا الانتقام في الوقت نفسه؟. سلطة العقل في مواجهة سلطة النص تركّز قسم كبير من عمل نصر حامد أبو زيد على قراءة النص الديني من جميع جوانبه التاريخية واللغوية والأهداف الدينية التي سعى إليها، وكان سلاحه في مقاربة هذا النص اللجوء إلى العقل ليمكن عبره وحده فصل الأمور المتداخلة عن بعضها بين ما هو ديني وما هو دنيوي. لذلك احتلت قراءته لمفاصل الخطاب الديني أولوية في مقاربة سائر المسائل التي يفرزها هذا النص على صعيد النظرية والممارسة. يحدد أبو زيد في كتابه:"نقد الخطاب الديني" هذه المفاصل بأربعة. يتعلق المفصل الأول بمقولة "التوحيد بين الفكر الديني وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع" (ص14)، حيث يشير إلى إدراك مبكر لدى المسلمين أن "للنصوص الدينية مجالات فعاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، ولا تتعلق بها فعالية النصوص" (ص28). في هذا المجال كانت هناك تساؤلات عن مواقف النبي نفسه وتصرفاته وما إذا كانت محكومة بالوحي أم بالخبرة والعقل. لكن الخطاب الديني اتخذ منحى مختلفاً بعد رحيل الرسول تمثل في تحوله إلى سلطة خصوصا منذ العهد الأموي وما تلاه في العهود اللاحقة. سعى الخطاب الديني إلى التوحيد بطريقة آلية بين النص الديني وبين قراءاته وفهمه له. وبهذا التوحيد لم يعد الخطاب الديني يقوم "بإلغاء المسافة المعرفية بين "الذات" و"الموضوع" فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ادعاء- ضمني – بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النصوص" (ص28). تكمن خطورة هذه الوجهة في القراءة من كون الخطاب الديني المعاصر يتحوّل إلى اعتبار نفسه "متحدّثا باسم لله" بكلّ ما يعنيه ذلك من تسليط سلطة هذا الخطاب على الفكر والاجتهاد واستخدام العقل في تحكيمه سلطانا على صحّة هذه القضية أو تلك. المفصل الثاني في الخطاب الديني يتناول مسألة "تفسير الظواهر كلها بردها جميعا إلى مبدأ علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية" (ص14). تسود الخطاب الديني مقولة عن وجود إسلام واحد لا يبلغه إلاّ العلماء، تحوي هذه المقولة أبعادا خطيرة "تهدد المجتمع، وتكاد تشل فاعلية "العقل" في شؤون الحياة والواقع. ويعتمد الخطاب الديني في توظيفه لهذه الآلية على ذلك الشعور الديني العادي، فيوظفها على أساس أنها إحدى مسلمات العقيدة التي لا تناقش. وإذا كانت كل العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أو مبدأ أول – هو الله في الإسلام- فإن الخطاب الديني — لا العقيدة – هو الذي يقوم بتفسير كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية، بردها جميعا إلى المبدأ الأول. إنه يقوم بإحلال "إله" في الواقع العيني المباشر، ويرد إليه كل ما يقع فيه. وفي هذا الإحلال يتم تلقائيا نفي الإنسان، كما يتم إلغاء "القوانين" الطبيعية والاجتماعية ومصادرة أية معرفة لا سند لها من الخطاب الديني أو من سلطة العلماء"(ص32). ترتبت على هذه المقولة نتائج خطيرة لدى وضعها موضع التطبيق وعلى الأخص منها نظرية "الحاكمية الإلهية" نقيضا لحاكمية البشر التي ازدهرت لدى الحركات الإسلامية في العالم العربي والأسيوي، خلال القرن الماضي، والتي عادت تتجدد بقوّة مع الإسلام الأصولي في شكله المتطرف خصوصا في فكر "تنظيم القاعدة" وغيرها من الحركات الدينية السياسية المشابهة. وهو منحى في القراءة كان من الطبيعي أن يصل بأصحابه إلى الهجوم على العلمانية القائلة بسلطة الإنسان وعقله، انطلاقا من اتهام هذه العلمانية بالانسجام مع الفكر الغربي الذي ينظر إلى الله على أساس خلقه للعالم ثم تركه لشؤون البشر لإدارته. فيما تقوم نظرة المسلمين إلى لله على ما يورد يوسف القرضاوي "بأنه خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبّر الأمر، الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، ووسعت رحمته كل شيء، ورزقه كل حي. لهذا أنزل الشرائع، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وفرض على عباده أن يلتزموا بما شرع، ويحكموا بما أنزل، وإلاّ كفروا وظلموا وفسقوا" (ص33-34).