كانت وفاة نصر حامد أبو زيد في مصر البلد الذي خرج منه طريداً منبوذاً ويستقبله ميتاً. رفضه حياً ويسترده جسداً هامداً. الحُرم الذي ضرب على نصر حامد أبو زيد لم يكن أقل من إعدام. حكم التطليق لا يخرجه من الدين ولكن أيضاً من الإنسانية، إنه تجريد من حقوقه وترك له في العراء. أفكار حامد أبو زيد الأساسية معروفة إنها جزم بتاريخية النص الديني وقابليته لقراءات متعددة ولقراءات متجددة. بيد أن أبو زيد لم يكن فقط أفكاره، كان أكثر منها إصراره الذي لم يتراجع على قولها، ما قاساه كان بالدرجة الأولى انتصاراً للحرية. حريته وحرية خصومه بالدرجة نفسها، كان أيضاً حقه في أن ينشق وأن يخرج وأن يقول كلمته التي تخالف الإجماع وتخالف الجماعة، كان أيضاً دعوة لإنقاذ الثقافة من التابوات والتحريمات والرطانة الأيديولوجية والعقائدية. لم يكن نصر حامد أبو زيد كاتباً فحسب كانت الكتابة ذراعه وجسده وحياته. كانت الكتابة والتفكير معوله ومطرقته، أي أن الكتابة كانت دخوله في الكون وفعله فيه. لذا يبدو موت نصر حامد أبو زيد وكأنه يشبه إحراق بيكون وإعدام مور وتسميم سقراط. الذين يستقبلونه الآن ميتاً أرادوه فقط ميتاً. كانوا مستعدين فقط لإعدامه أو طرده حتى الموت. أفكار نصر حامد أبو زيد للنقاش اليوم وغداً. أما الثابت فهو بطولته، بطولة التماهي مع أفكاره، بطولة الدفاع عن الحرية وممارستها حتى الموت. أحب نصر حامد أبو زيد مصر والمصريين والإسلام والمسلمين لكن أفكاره كانت التزامه. أحب أكثر من الجميع، وحتى أكثر من نفسه العدل والحرية. وشجاعته الصامدة أعطت لهذين ولنا جميعاً أملاً ومعنى. ع. ب. صادق جلال العظم: النقدي الأول رحل النقدي الأول وترك غيابه ثقباً أسود في ثقافتنا النقدية المعاصرة وفي نفوس أصدقائه وزملائه ومحبيه وفي نفوس المعجبين بشجاعته وجرأته والمتأثرين بفكره الحداثي وحسه النقدي الراقي ومواقفه المتقدمة والمستنيرة دوماً. هؤلاء ليسوا قلة قليلة بالتأكيد وأعرف ذلك من التجربة الشخصية الحية. أعتز كثيراً بأن أول لقاء حواري كبير أجراه نصر حامد أبو زيد مع جمهوره العربي بعد خروجه الاضطراري من مصر الى منفاه الهولندي بسنوات كان في دمشق في شهر أيار (مايو) 1999. زحفت دمشق يومها باتجاه المركز الثقافي الفسيح في ضاحية المزة للاستماع الى نصر ومناقشته ومحاورته، بعد طول غياب، في طروحاته الفكرية النقدية اللامعة حول قضايا الحداثة والنص الديني والتأويل وروح العصر عموماً، وفي ذلك التعصب الديني الأعمى الذي أجبره على مغادرة وطنه وجامعته نتيجة تطليقه عرفياً من زوجته الأستاذة الدكتورة إبتهال يونس بلا سؤال او إذن او استئذان من الشخصيين المعنيين بالأمر حصراً وهما، أولاً وأخيراً، ابتهال ونصر ولا أحد غيرهما. زحفت دمشق الثقافة لتحاور نصر حامد أبو زيد بمناسبة الأسبوع الثقافي الذي أقامته وقتها دار المدى للثقافة والنشر في دمشق امتداداً طبيعياً للأسبوع الثقافي الشهير الذي دأب قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في جامعة دمشق على إحيائه في الربيع لسنوات عدة (1993 1998). تشرفت يومها بتقديم الصديق نصر الى الجمهور الدمشقي في تلك الأمسية الحوارية النقاشية الحارة التي استمرّت ما يقارب ال4 ساعات على الرغم من الحر الشديد في ذلك اليوم، وعلى الرغم من اكتظاظ القاعة الرئيسية في المركز الثقافي بالحضور مما استدعى تشغيل أجهزة التلفزيون الداخلية في قاعات المركز الأخرى لنقل المشهد وتوجيه مكبرات الصوت الى الخارج حيث احتشد جمهور غفير في الهواء الطلق لمتابعة جلسة الحوار والنقاش والسؤال والجواب. كان نصر رائعاً وألمعياً كعادته وما زالت تلك الأمسية راسخة في الذاكرة الجماعية لدمشق الثقافة والفكر وهموم الشأن العام عربياً ومحلياً. عالج نصر «مفهوم النص» دون ان يخلط المفاهيم بعضها بالبعض الآخر فبقي واضحاً في مفاهيمه، ودون ان ينتفخ النص عنده ليتحول الى كل شيء وبالتالي الى لا شيء فظل «النص» لديه نصاً بحدود معروفة ومعان مفهومة ودلالات معينة. تناول «الخطاب الديني» نقداً دون ان ينفلش الخطاب عنده ويتضخم ليصبح ألف الأشياء وياءها ودون ان يعلن «موت» أصحاب الخطاب وكُتّابه او يُروِّج لاضمحلال معانيه الى درجة الصفر او ربما تحتها حيث يصبح المعنى هو اللامعنى والعكس بالعكس، ودون ان ينبهر بسحر الخطاب وبيانه أو يفقد وعيه بتأثير من أفيونه. نقد الخطاب الديني المعاصر وآلياته دون ان يكون النقد عنده تجريحاً أو تهجماً او إلغاء لأحد ودون ان يكون الديني عنده مطلقاً متعالياً يُفرض عنوة وقسراً على الناس والمجتمع والحياة عموماً. يبقى نصر في ذلك كله نموذجاً يحتذى لكل مفكر وناقد ومثقف. كاظم جهاد: التفكير في زمن التكفير ندرَ أن أقرأ اسمَ الفقيد نصر حامد أبو زيد أو أسمع به في السنوات الأخيرة من دون أن أتذكّر تلك الأمسية من أحد أيّام صيف 1995، التي جاء فيها هو وزوجته الدكتورة ابتهال يونس يعرضان على الجمهور الثقافيّ بباريس أجواء الحملة المناوئة والشديدة العنف التي انتهت بتكفيره في بلده. وإذ لم يجد أعداء الكلمة الحرّة في القانون المصريّ ما يسمح لهم بمقاضاة من هو متّهم مثله بالارتداد، فقد التجأوا إلى الفقه الحنفيّ ونبشوا فيه عقوبة تدعى ب «الحسْبة»، جعلوا بموجبها يطالبون بالفصل بينه وبين زوجته باعتباره لم يعد مسلماً. في تلك الأمسية، راحت الدكتورة ابتهال يونس، وكانت يومها أستاذة للأدب الفرنسيّ في إحدى الجامعات المصريّة، تشرح للحاضرين في «المركز الوطنيّ للآداب» بباريس ملابسات القضية التي وجدا نفسيهما مزجوجَين فيها لأسباب محض فكريّة، وإلى اضطرارهما إلى مغادرة بلادهما حفاظاً على علاقتهما وتفادياً للمخاطر، هما اللذان لم يفكّرا بذلك قطّ ولا كانا يتوقان إليه. كانت ابتهال تتكلّم، والدكتور أبو زيد يستمع مثلنا، لا لأنّه لا يفقه الفرنسيّة، بل لأنّ مهمّة عرض مأساته والدفاع عن حقّه الطبيعيّ في التفكير كانت تبدو له نافلة، هو الذي جعل من فاعليّة التفكير طبيعته الأولى وباعث وجوده، أي ما لم يكن ليخطر له على بالٍ أنّه سيكون ذات يومٍ مطالباً بتبريره كما لم لو يكن هو البداهة بالذات. إلى ذلك بدا لي هو نفسه مغزوّاً بكآبة عميقة سرعان ما فرضت نفسها على المكان، كآبة نابعة من رؤية حياة الفرد الخاصّة أو الحميمة وهي لم تعد في مأمن من العسف. كان في تلك المطالبة بالفصل بين زوجين عقوبةً على ما لا يحتمل أيّة عقوبة، أي التفكير العميق والاجتهاد الحرّ، أقول كان فيها ما يُنذر بخراب متدرّج ومريع هو ذا نحن غائصون في أتونه حتّى الرّقاب. لحظة استثنائيّة أخرى جمعتني بالفقيد، تمثّلت في قراءتي مجموعة دراساته المعنونة «إشكاليّات القراءة وآليّات التأويل». يندر في اعتقادي أن تجد في الدراسات الحديثة والمعاصرة كتاباً أكثر إضاءة منه لبعض أخطر مسائل البلاغة العربيّة وتداعياتها الفكريّة. وعلى رأس هذه المسائل يقف ثنائيّ المجاز والحقيقة، يعرضه أبو زيد عبر الفكر العربيّ القديم كلّه، اللغويّ منه والدينيّ، مع تركيز على الأشاعرة والمعتزلة، بلغة جمع فيها التبحّر إلى الكثافة العالية والتعليل الرّصين. والدراسة الطويلة التي يخصّ بها في الكتاب نفسه تفكير عبد القاهر الجرجانيّ (توفي في 1078 م.) تجلو غوامض كثيرة في فكر هذا المنظّر الكبير الذي يعرف كلّ من ارتاد نصوصه التباس بعض عباراته ووعورتها. أمام القائلين إمّا بخطاب المجاز وإمّا بخطاب الحقيقة، يبين أبو زيد في فكر الجرجانيّ عن حيويّة عالية يعقد فيها مناط القول للسياق: فتعبير بذاته يمكن أن يبدو لمتكلّم أو سامع ما في موقف معَّين واجبَ الأخذ على المجاز، ولمتكلّم أو سامع آخر في موقف سواه ملزِماً بالأخذ به على الحقيقة. وعليه، فالسياق والقرينة والعلاقة والمناسبة والموقف، هذه المفردات المتواترة في الفكر البلاغيّ والأسلوبيّ والتأويليّ المعاصر إنّما كانت تشكّل في فكر الجرجانيّ من قبل كلمات - مفاتيح ومقولات معقودة لها السّيادة. ما يثير الإعجاب هو أنّ نصر حامد أبو زيد، لكي يمهّد لفكره في نقد الدين وفي تأويل النصوص تأويلاً عقلانياً أو ماديّاً كما كان هو يهوى ترديده، وخلافاً للكثير من المتنطّحين لتحليل أواليات الإيمان والاعتقاد وتناولها سلباً أو إيجاباً، حرصَ في البدء ودائماً على تكوينه الشخصيّ عالِماً باللّغة ومتخصّصاً ولا أرهفَ بمسائل البلاغة وقواعد إنتاج الخطاب. إنّ عدداً من الأعلام العرب أو المسلمين القدامى كالأشعريّ والجرجانيّ والقاضي عبد الجبّار، والغربيّين المعاصرين كالألمانيّ غادامير والفرنسيّ ريكور، يتعامل هو معهم ومع فكرهم والجهاز المفهوميّ لكلّ منهم بوضوح لا رطانة فيه، وضوح بقي مع ذلك شديد الابتعاد عن عقليّة الهتاف ولغة الشعارات التي سقط فيها غيره. كما بقي الفقيد جذريّاً في شجاعته الفكريّة، لم يتنازل عن قناعاته على شبكات الأثير كما فعل بعض زملائه، لا ولم يسقط مثل بعضهم أيضاً في لغة المُلاسَنة المجانيّة والسفسطة الاستعراضيّة التي تحفل وتحتفل بها الفضائيّات العربيّة. الفكر الفعّال الصّبور، هذا ما كانه في اعتقادي ذلك الذي عمل موظفاً في المصلحة المصريّة للاتّصالات السلكية واللاّسلكية طيلة عقد من السنوات، ريثما يتمّ تعليمه الجامعيّ، أكمله بتفوّق وحتّى أعلى مراحله متعلّماً عصاميّاً وقارئاً مسائيّاً. هو مَن نذر حياته لممارسة صاغها مَبدأً في عنوان أحد كتبه: «التفكير في زمن التكفير». يا لها من عبارة تغصّ بجناسها الرّهيب الذي هو في الأوان ذاته طباق مريع: ما الذي يضمن لك حريّة التفكير في زمن التكفير؟ وبدون التفكير من يقول لك إنّك كائن أصلاً؟ (باريس) ياسين الحاج صالح : نزع القداسة ليس باختياره تحول نصر حامد أبو زيد من باحث في الشأن الإسلامي إلى شخصية عامة ومثال للمفكر الحر. لكنه اضطلع بالاضطرار الذي فرض عليه واختاره. ليس فقط لم يتراجع عن أفكاره، لكن كذلك لم يستسلم للمرارة ورثاء الذات، ولم يُغرِه ذلك الضرب من التشنيع على الإسلام الذي راجت سوقه منذ عقدين، وازدهرت أيما ازدهار منذ مطلع هذا القرن، بخاصة في الغرب الذي يعيش فيه أبو زيد منذ عقد ونصف. كباحث، قد تتلخص محصلة عمل نصر الأبرز في إدخال قدر من التعدد المنشط إلى داخل المجمل الإسلامي. لقد أراد دوما أن يعمل على أرضية إسلامية، أن يكون الإسلام موضوعاً لتفكيره ومكوناً ل«ذاته» في آن معاً. ليس هذا ميسوراً. «الموضعة» تقتضي فحصاً للذات لا يبدو أن نصراً قام به في أي وقت. ولقد عمل على نزع القداسة عن جوانب من المجمل الإسلامي، لكنه لم يطور نهجاً متماسكاً في هذا الشأن. على أن عمله على أرضية إسلامية أسهم في التأسيس لشرعية تفكير إسلامي مختلف، يمكن أن يسلكه متعلمون ودارسون آخرون. وبهذا يتيح لمبعده المنازعة في تلك الشرعية الإسلامية التي يستأثر بها أمثال عبد الصبور شاهين أو يوسف البدري، ممن عادوا نصراً وجاهدوا لفصله عن زوجته ودفعوه للهجرة من بلده. على أن نصراً لم يبلور مذهباً واضحاً في الدراسات الإسلامية. الواضح هو نصر المثال أكثر مما هو نصر الباحث المفكر. لكن الرجل الذي حاز شهرة واسعة خلال العقدين الأخيرين من عمره لم يسخر شهرته لكسب مزيد من المال، أو للانعزال والتعالي على الجمهور العام، أو لإحراز قدر أكبر من النجومية والأتباع. في فيلم توثيقي أنجزه عنه محمد علي الأتاسي، وتسنت لي مشاهدة سريعة له، يبدو الرجل بسيطاً، متواضعاً، قريباً من القلب، يوالي قضية ليست هي هو. يوسف سلامة: الإصلاح الديني رحل أبو زيد بعد أن ملأ الدنيا وشغل بعض الناس. ملأ أوروبا أفكاراً لا جدال حولها، بل هي من عتيق القول. وانشغل بها أناس ما يزالون متمسكين بعتيق العتيق، أو حتى بالأخس من العتيق. لقد حاول الراحل الكريم أن يهزّ كرة التراث الثقيلة على طريقته الخاصة، مازجاً بين أسلوب طه حسين وبين محاولة للتفرد قرأها الكثيرون على أنها نوع من التجديد لذكرى الأدب الجاهلي الذي ليس ثمة من يجهله. وعلى كل حال يظل من الإنصاف أن نعترف لنصر حامد أبو زيد بشجاعة شخصية ومحاولة أكاديمية رام من ورائهما أن يعمق طريقاً قد شقه مفكرو الإصلاح الديني، ابتداءً من الأفغاني وعبده مروراً بعلي عبد الرازق وغيرهم. غير أن ما يؤسف له أن الأثر الذي تركه أبو زيد في المجتمع العربي المعاصر أقل خطراً وقيمة من ذلك الذي تركه المصلحون الدينيون الأوائل، ولا يعود التقصير في ذلك إلى نصر أبو زيد شخصياً، بل بالدرجة الأولى إلى الركود العميق الذي يعيشه المجتمع العربي اليوم، والذي عجزت عن بعث الحياة فيه كل المشكلات العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فمن لا تحرك ركود عقله وكثير من مخاوف قلبه، ويطير جنانه خوفاً على أمنه أمام خطر كالخطر الإسرائيلي فماذا عسى أن يكون نصر ومئة آخرون من فرسان الفكر قادرين على فعله! عزاؤنا أن نصر حامد أبو زيد ترك تراثاً قيماً ونقداً أصيلاً من واجبنا ألا يظل مقترناً بأي صورة من صور اليسار السياسي، أو اليسار الديني فقط، بل علينا أن نحاول دمج هذا التراث بالموروث الكلي للمثقفين العرب التقدميين الذين راهنوا على الثورة، ولكن الثورة لم تراهن عليهم. أحمد زين الدين : الكلام الإلهي والكلام البشري ظلّ الراحل نصر حامد أبو زيد صاحب الاتجاه العقلي في تفسيرالموروث متأرجحاً بين طرفين يناصبانه العداوة. أحدهما يرفضه بحسبانه علمانياً مغرّباً يحذو حذو المستشرقين والباحثين الأجانب الذين ينطلقون من مسبقات منحازة إلى خياراتهم الفكرية، بل والدينية المضمرة في كتاباتهم. والخصم الآخر يرى أنه جمّل المداخل لدراسة الإسلام، وأضفى عليه طابعاً عصرياً، في حين ما فتئت روح الإسلام منكفئة على ذاتها وثوابتها وسكونيتها. الرجل كان إشكالياً بحق. وإشكاليته ناجمة عن هذا التباين حول كتاباته، بيد أنّ النظرة المجملة على ما طرحه أبو زيد، كانت أقرب إلى النظرة الحيوية الاستيعابية، النظرة التي لاتنبذ الموروث بكل ما يحمل، ولا ترمي في الآن عينه، إلى احتضانه بكامله. النظرة التي نرى أنّ الالتباس حاصل بما هو القصد من الدين ومن دوره. وما يرفضه ابو زيد، هو الدين بوصفه محمولاً يُطرح ويُمارس بعصب أيديولوجي. هو الدين الذي يشكّل بخطابه المأثور الأرضية لتكريس الأسطورة والخرافة واغتيال العقل. والمعركة التي خاضها أبو زيد في وجه خصومه ومناوئيه، هي هذه المحاولة التي دامت طوال حياته التي لم تعمّر طويلاً، محاولة الكشف عن النواة الأيديولوجية التي حجبت المضمون الحقيقي للدين الإسلامي باعتباره عنصراً أساسياً في مشروع النهضة العربية، لا العنصر الوحيد. كذلك أخرج ابو زيد السجال الفكري الذي دار حول قراءة النصوص الدينية أو تأويلها، إلى أمكنة أكثر خصوبة ومردودية، فدارت حول المستويات الاجتماعية والاقتصادية التي لا تنفصل عن المضمون الديني. وهذه مهمة اضطلع بأعبائها أبو زيد وتحمّل ذيولها التي انتهت به إلى التكفير ثم الى التهجير، على أيدي الأصوليين من رجال دين و«مثقفين» إسلاميين. وأبو زيد، الذي طرح الإشكالية الدينية الإسلامية بشكل علمي وموضوعي، من خلال آليات القراءة النقدية الحديثة، أخذ بالاعتبار الفضاء الاجتماعي والسياسي الملائم الذي نما فيه هذا الفكر، وازدهر، وهيمن على النفوس. وعلى اساس تتبّع الجذور الاقتصادية والسياسية، وطبيعة القوى المختلفة والمتصارعة حول بعض التفسيرات، أقام دراساته العديدة التي تناولت التيارات الإسلامية التاريخية، مثل الأشاعرة والمعتزلة والمتصوفة. حلّل ابو زيد الآليات الذهنية والعقلية التي تعمل داخل الخطاب الديني، لا سيما إهدار حامليه البُعد التاريخي، أو تجاهله. ويقينيته المغالية، والاستناد إلى سلطة السلف «الصالح»، والتوحد بين الفكر والدين، أو التوحيد بين النصوص وبين قراءتها وفهمها. وتجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية لبلوغ القصد الإلهي المباشر والكامن وراء هذه النصوص. وأبو زيد في هذا لا يميز في الخطاب الديني بين متطرف ومعتدل. فما يجمع بينهما هو الاختلاف في طرق طرحه، وتعدد وسائله. والخلاف هو حول توقيت تطبيق الإسلام، لا الارتياب به، أوعدم الاتفاق على تطبيقه. وغاية الأمر فيما يقول في كتابه «الخطاب الديني» أنّ الدعوة إلى تكفير المجتمع أو الحاكم الخارجين عن دعاوى الدين وأوامره واضح جلي في خطاب المتطرفين، وكامن خفي في خطاب المعتدلين. وأبو زيد يتّهم الأصوليين من خلال مقارنتهم الدائمة بين المنهج الإلهي والمنهج البشري، بأنّهم بهذه المقارنة، يفضون إلى الاعتقاد الجازم بعدمية الجهود البشرية، إذ أنّ تجارب البشر كلها تدور في حلقة مفرغة، ما دامت هذه التجربة والخبرة البشريتان يعتورهما الجهل والنقص والضعف والهوى. ومثل هذه المقارنة التي تفصل بين الإلهي والإنساني، تتجاهل حقيقة هامة ثابتة، في صلب عمل أبو زيد، هي عملية الوحي الإلهي الذي يؤمن به بوصفه تنزيلاً، وحلقة وصل بين الإلهي والإنساني. لكنه يختلف عن الآخرين بوصف طبيعة هذا التنزيل وظروفه، وارتداده في النهاية إلى فهم البشر للوحي وتأويلهم له. إنّ أبو زيد يبتعد في كتاباته عن الروح السجالية التي طغت على كتابات العلمانيين الذين تصدّوا لمفاهيم ولمقولات الحركات الإسلامية بمختلف أجنحتها. وبدل ذلك، يتنكّب البحث عن تشكيل الخطاب الإسلامي ولغته وأسلوبه والمحتجب منه واللا مفكر به. وأخطر ما يتعمده الخطاب الديني في رأيه، هو تجاهل البُعد التاريخي للنصوص، متجاوزاً المألوف والمتعارف عليه في الداراسات الإسلامية التي تحصر البُعد التاريخي بفكرة التنجيم، أي ارتباط النصوص القرآنية بالوقائع، والحاجات المُثارة في حينه، وما يستتبعه من نسخ آية بآية، وتغيّر الأحكام بتغير الظروف. متجاوزاَ إلى أمر آخر يتعلق بتاريخية المفاهيم، وطبيعة اللغة التي صيغت بها النصوص. وحيث يتفق الخطاب الديني، على أنّ النصوص الدينية قابلة لتجدد الفهم باختلاف المجتهدين وصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، فإنّ أبو زيد يعترض على اقتصار الخطاب الديني على شريحة رقيقة من النصوص هي النصوص التشريعية، من دون نصوص العقائد والقصص والنصوص الفرعية (الأحاديث). وإزاء ذلك يرفض أبو زيد الارتداد إلى التقليد والتكرار والانغلاق في دائرة النصوص، وحجب الواقع الذي تتكوّن فيه اللغة التي بحركتها تتحدد فاعلية البشر وتتجدد دلالتها. وبإهدار البُعد الواقعي إهدار للبُعد الإنساني. ومثل هذا التصوّر للخطاب الديني يجعلنا ندور حول أنفسنا في دائرة مفرغة، ويقضي على إمكانبات استقطار الدلالات الممكنة والملائمة لوضعنا التاريخي والاجتماعي، حسب عبارة أبو زيد، الباحث المتنورالذي كرّس جلّ وقته لإنتاج وعي علمي بدلالات النصوص الدينية، والتفريق بين الدين كنصوص مقدسة ثابتة، والفكر الديني كاجتهادات بشرية تضيء على تلك النصوص وتأوّلها، وتستخرج دلالتها، والتصّدي لمحاولات التوفيق والتلفيق، وتأسيس أفق معرفي إنساني جديد يكسر هذا التابو الذي يرفض إخضاع النصوص الدينية المتوهمة على أنها كلام إلهي، مخالف للكلام الإنساني، لمناهج التحليل الألسني واللغوي. وأبو زيد الساعي إلى الكشف عن هذا التوهم الذي يفترض الانفصال والتعارض والتضاد بين الكلام الإلهي والكلام البشري، يعتقد أنّ النصوص الدينية نصوص لغوية، شأنها شأن أي نصوص أخرى في الثقافة. وأنها تخضع مثلها إلى التحليل والتفكيك، وهي بحكم انتمائها للغة والثقافة في حقبة تاريخية محددة، في فترة تشكلها وإنتاجها. هي بالضرورة نصوص تاريخية. هكذا يخلص أبو زيد في «الخطاب الديني» ليضع المتنورين من مثقفينا، أمام مهمة المتابعة والتجديد في هذا الحقل الصعب الحراثة. الطاهر لبيب: إنتاج المعنى يبدو أن هناك إصراراً من القدر على الفتك بالفكر العربي، إلى حد الإبادة الجماعية بجيل كامل: لا نكاد نُنهي صياغة فقدان حتى نبدأ أخرى. أصبح المفقود جيلاً: جيلاً أنتج معنى لا نرى كيف له أن يمتد في ما يسود من لا معنى. الدكتور نصر حامد أبو زيد هو ممّن أنتج معنى أو جدّده، في مجال جمّد أصوله أصوليوه، وصنعوا منها تمائم خرجوا بها، على الناس، شاهرين ويلاتها. نصر حامد أبو زيد، فكراً ونفياً، هو من أبرز الأدلة على ما آل إليه الفكر العربي والإسلامي من تراجع إلى ما وراء المنظور من اللاعقل. محمد بدوي: المصري الطيب كان نصر أستاذي بالمعنى الحرفي، حيث درّس لي بعد حصوله على الدكتوراة دراسات عربية وثقافة إسلامية. كان أيضا أحد الأصدقاء المقربين هو ومحمد صالح وجابر عصفور من هنا جاءت معرفتي العميقة به. لا أستطيع التحدث عنه بتوسع الآن، لكن يمكنني القول إنه كان ممثلا لعموم الشعب المصري خاصة في الدلتا والقرى. كان طيبا جدا، وحريصا على فعل الخير بسبب تربيته الدينية. على سبيل المثال كان يدرّس لي النحو في بيته أنا وعبد الرحمن الأبنودي بدون مقابل ودون أن يكون مطالبا بذلك. كان طيباً بهذا المعنى، وربما يكون هذا ما صدمه بعد الأزمة التي تعرض لها، لأنه كان ينظر لنفسه باعتباره آخر شخص من الممكن أن يُتهم بالتهجم على الدين أو على معتقدات الآخرين. جاء نصر من أسرة ريفية فقيرة، حصل على الدبلوم (شهادة متوسطة) وعمل به، ثم تابع دراسته أثناء عمله كموظف في قسم اللغة العربية. هو مكافح حقيقي وتعلم الإنجليزية في سن الأربعين. كأستاذ كان بسيطا جدا في محاضراته، وكان محبوبا من تلامذته، وكباحث كان باحثا مدققا شديد التدقيق وشديد العناية بالمصطلحات. تكوينه كان أقرب للدراسات الفلسفية لا العربية. وهو صاحب مشروع وجد بوادره في كتابات أمين الخولي. تعامل أبوزيد مع القرآن كنص لغوي مستعينا بالتأويل والهرمنيوطيقا. فالقرآن كما يصل إلينا فلابد أنه يصل في لغة نعرفها، لغة لها دلالات ويمكن تأويلها، ولابد أن نفهمها وفق هذا المعنى. وهذا يتوافق مع اتجاه في التراث الإسلامي القديم يتساءل هل لغة القرآن مواضعة أم من عند الله؟ هو كان يحاول عبر الهرمنيوطيقا والسيموطيقا اكمال هذا المشروع الذي انقطع، لكنه فوجئ بالضجة التي حدثت والتي تداخل فيها ما هو سياسي مع ما هو ثقافي، وأعتقد أن فترة ابعاده عن مصر أضرت به، لأنه لم يكتب في هذه الفترة، إلا أنه قام بالتدريس وخرّج أجيالا من طلاب الدراسات العربية والإسلامية من عرب ومسلمين وأجانب. أحمد برقاوي: سيرة الأنا المتمردة نصر حامد أبو زيد، ولرحيله معنى وجودي عميق، وكل رحيل له معنى وجودي، غير أن هذا الراحل كان يصارع موت الحياة من أجل الحياة، وبالتالي سيرة حياته، سيرة الأنا المتمرد، لا على وضعه الشخصي، بل على العالم. في تمرده على العالم وضع نصب عينيه قتل الأب. لقد عرف الأب ونام بين أحضانه بل ودافع عنه. دافع عن تراثه وهو الأب، كأي اسلامي من الإسلاميين، غير أن الإقامة في أحضان الأب لا تنتج إلا الشبيه، فراح ينزاح شيئاً فشيئاً إلى يسار إسلامي علّه يقيم قطيعة مع التراث، متكئاً على الاجتهاد، غير أن للاجتهاد حدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها، كما للمجتهد حدود لا يستطيع أن يتجاوزها. وإذا تجاوز حدود الاجتهاد رُمي بالكفر والزندقة، إذ ذاك رمى أباه بالسهم قاتلاً، فصار علمانياً يسارياً في وقت شهدت الساحة العربية فيه توبة بعض اليساريين، فاختار الانتماء عبر تمرد يقيم قطيعة مع الماضي، مع التراث وهو الذي يتوافر على معرفة عميقة في التراث. تمتزج في شخصية نصر حامد أبو زيد الصديق شخصية الأكاديمي صاحب المراجع الكثيرة والإطالات المملة، وشخصية المثقف العضوي، بالمعنى الغرامشاوي للكلمة، أي المثقف الديموقراطي، حيث الانتماء إلى هموم البشر وشخصية الإنسان المتسامح المليء بالفرح. كان من الطبيعي أن ينتقل نصر حامد أبو زيد من عقل المثقف الأكاديمي التقني، إلى المثقف العضوي عبر النقد، نقد المعرفة المسبقة، نقد الترسيمات الدينية، والأحكام اليقينية، من أجل أن يؤسس لخطاب جديد. ولكنه نقد متكئ على أرقى مناهج تحليل النص وتفكيكه من دون أن ينسى ولو مرة واحدة أن هناك أرضاً. لم يكن نقده للسماء مجرد نقد هاو لنقد السماء، بل من أجل أن تنبت الأرض حياة جديدة قائمة على الحرية والعدالة. نقد من أجل انتصار العقل الطليق ضد الأسوار التي كبلته منذ مئات السنين. لم يكن ليتكئ على النص المنقود من أجل أن يقدم نفسه ناقداً فحسب، بل من أجل أن يقول في النهاية قوله، بوصفه علمانياً ويسارياً، ولهذا كان من الطبيعي أن يكون نصر حامد أبو زيد دريئة لإطلاق الرصاص عليه من قبل العقل المأسور، الجامد الذي يكره التطور والحياة. حمل أسفاره لا خوفاً من الموت، بل من أجل قول ما زال قادراً على أن يقوله، كأني به كان يقول: أنظرني يا موت قليلاً حتى أنهي رسالتي في الحياة. ولم يمهله الموت، فليس للموت آذان صاغية، أتراه (الموت) قد نفذ مشيئة الذين يشهرون الموت في وجه الأحياء. نصر حامد أبو زيد تجربة المثقف ذي العقل الطليق الذي لا يهادن حباً بالحقيقة، وحباً بمستقبل أجمل وأرقى. بودي أن أتحدث كثيراً عن نصر الإنسان، فنصر الإنسان قلب نضر لا يحمل حقداً على أحد، حتى على أولئك الذين هددوه بالطلاق والموت. بل يقهقه كالطفل عندما يذكر تهمه. لم يغادر نصر طفولته، حيث يفر الطفل من عينيه بغتة وهو جالس بين الناس، بل وهو على المنصة، لذلك عندما رد على متهميه بالزندقة قال: كان أبي، وأنا طفل أحب أن أشاهد شيئاً في الزحام، يرفعني على كتفيه كي أرى. والتراث كأبي أرتفع على كتفيه كي أرى. فكأنه أراد أن يقول لم أغادر طفولتي دعوني أرتفع دائماً إلى أعلى فوق الزحام كي أرى ما لا تستطيعون أن تروه. أحب نصر حامد أبو زيد مفكراً، مثقفاً، صديقاً وإنساناً. ياسر عبدالحافظ: المعنى الرمزي لرحيله ليس من باب التراجيديا القول بأن هذه لحظة تتويج انتصار المشروع السلفي. رحيل نصر حامد أبو زيد يكتسب، وسط موجة الرحيل المتتالية من أعلام الفكر في العالم العربي، معنى رمزياً بالغ الدلالة، يرحل ومعه الورقة الأخيرة التي راهن عليها البعض في عودة الوعي، قبل رحيله، بعام تقريباً، كان هناك مشهدان لهما من الدلالة ما يكفي لقراءة راهننا، الأول جرت وقائعه في مطار الكويت، حيث مُنِع من الدخول تلبية لدعوة إحدى الجمعيات الخاصة لالقاء محاضرة، والمشهد الثاني في القاهرة، حيث منعه الأمن من دخول إحدى قاعات نقابة الصحافيين، ليضطر لعقد مؤتمره الصحافي لشرح ملابسات ما حدث في الكويت، في بهو النقابة، وكأنها بهذا، أي النقابة، تعتذر عن تأخرها في الانضمام إلى المؤسسات التي أضفت على نفسها المسحة «الدينية». كانت محاولة أخيرة قام بها نصر للعودة إلى عالمه الذي يعرفه، والذي لم يتأقلم خارجه، لكنه ربما لم يعرف إلى أي مدى ساءت الأوضاع خلال الفترة التي قضاها في الخارج، بين قرار المحكمة القاضي بتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس، وبين لحظتي المنع في القاهرة والكويت، كانت الأمور قد وصلت إلى الحد الذي بات فيه الجميع يتواطأ لدفن أي فكرة، انتهت معركة التنوير «الزائف» التي بدأت مع عهد التسعينيات، عادت الكتب إلى المخازن، مع اتفاق غير معلن بين السلطة والسلفيين، القاء السلاح مقابل توزيع الغنائم، كل شيء مناصفة: شعارات «الإسلام هي الحل»، و«ضرورة الحجاب»، تتجاور جنباً إلى جنب مع أفلام وأغنيات العري، وقصص الفساد، والقمع. صيغة تهادنت عليها المجتمعات العربية، وهي تعرف أن لحظة الانفجار مقبلة لا محالة. من في لحظة كتلك يخاطر بإعادة فتح الباب أمام ما طالب به «ضرورة التحرر من سيطرة النصوص، وأولها القرآن الكريم». هل ما زالت من فرصة للشرح بأن التحرر من سلطة النص الديني وإعادة تفسيره بما يقتضيه العصر، وباستخدام العلوم الحديثة، لا يعني الكفر به. ليس الآن على أي حال، وهو عرف ذلك... قال في مؤتمره الصحافي المشار إليه «إذا كان القرآن يُقرأ خطأ فأنا لا أحزن لو تم فهمي خطأ». ما لم يدركه أبو زيد أن ما أشار إليه في نهاية القرن الماضي من خطورة «أسلمة الدولة» قد تحقق بخطوات متسارعة، وأن «الزواج الكاثوليكي المحرم بين الدولة والدين في عالمنا العربي» لم يعد من سبيل لوقفه بعد أن باركته الجهات التي كان ينتظر منها أن تعترض: الجامعة، المؤسسة الثقافية، والمثقفون أنفسهم. اعتاد المثقفون أن يرثوا الراحلين بكلمات أصبحت مثيرة للسخرية: سيبقى الراحل طالما أفكاره معنا. غير أن الأفكار لم تعد تصمد أكثر من أيام الحداد. والمؤكد أنه في حالة نصر أبو زيد سيتم الإسراع في عملية النسيان. نبيل عبد الفتاح: ضرب الحصون القديمة أتصور أن الدور الذي لعبه الباحث والمفكر الكبير تمثل في أنه أعاد طرح مجموعة من البداهات التي يعاد انتاجها في العقل النقلي الفقهي والتاريخي لبعض الباحثين المدرسيين، ووضعها موضع المساءلة وإعادة النظر في الأسئلة والإجابات التي قُدمت لها ويعاد انتاجها بلا كلل أو ملل تحديدا منذ الستينيات وحتى اللحظة التي بدأ البحث فيها في السياقات التاريخية التي أحاطت بالنص الديني الوضعي الذي هو انتاج بشري. هذا هو التحدي الكبير الذي خاضه بامتياز نصر حامد أبو زيد، واستعاد المبادرة لتقاليد المدرسة المصرية في البحث في العلوم الإسلامية بما فيها أصول الدين والجوانب المتصلة بعلم الكلام. هذه المحاولة امتداد موضوعي وتاريخي لمحاولات قام بها أزهريون كبار مثل طه حسين وأحمد أمين، وبعض كبار المشايخ من أمثال مصطفى وعلي عبد الرازق وعبد المتعال الصعيدي ومحمود بخيت ومصطفى المراغي، والشيخ محمود شلتوت، وهو أيضا يشكل تطويرا منهجيا لبعض الأزهريين ممن درسوا في جامعات أوروبية مرموقة، مثل الشيخ محمد يوسف موسى تلميذ المستشرق شاخت، الذين حاولوا أن يصوغوا مقاربات عصرية على الصعيد المنهجي في طريقة تدريس وبحث العلوم الإسلامية الكلاسيكية ومنها تاريخ الفقه الإسلامي. مثّل نصر أيضا نقلة لما كانت تقوم به أقسام اللغة العربية في كليات الآداب، من هنا أقول إنه على صعيد التكوين كان مؤهلا على أرفع المستويات لدراسة العلوم الإسلامية أيا كان الرأي أو الخلاف الفكري مع أفكاره. فتحت اجتهاداته الباب أمام كسر محاولة صياغة دوائر من القداسة الوضعية على أعمال بعض الخطابات الفكرية التي كانت سائدة منذ السبعينيات والتي تأثرت بسطوة الحركة الوهابية والتيار السلفي وصعود الجماعات الراديكالية العنيفة وعلى رأسها الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي والقطبيون، وفي ذات الوقت صعود وتمدد حركة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري وإعادة بناء خلاياها بحيث أصبح المجال العام رهينة الثنائية القطبية ما بين السلطة الحاكمة وخطاباتها التي تستثمر الدين من ناحية وبين الكتلة الغاضبة من الحركات الراديكالية. ما قام به أبو زيد كان محاولة لضرب الحصون القديمة للأسئلة والإجابات البشرية حول الدين الإسلامي، ومن هنا كان الهجوم بالغ الشراسة الذي وصل حد التكفير ومس بعض الأمور الشخصية في حياة الراحل الكبير، لكن كل هذا لم يفقده الشجاعة لا هو ولا زوجته الدكتورة الفاضلة ابتهال يونس، وبديلا عن النكوص أو الاعتذار عن خطابه النقدي حول الدين الإسلامي راح يستكمل مشروعه، لكن في عزلة المنفى القسري في ليدن. كان رجلا شجاعا ومفكرا من الوزن الثقيل، وكان قادرا على تقديم اجتهادات ذات تأصيل وعمق في المعالجة والمقاربة المنهجية. لقد أفاد الإسلام بوجهه الفكري المتسامح والمحاور والمدافع عن القيم والعقائد الإسلامية في مواجهة بعض الدوائر التي تتربص بالديانة والثقافة الاسلاميتين بالخارج. ==================== الموقع الإلكتروني لجريدة السفير