تمة من الأسئلة ما لا يحتمل التورية، لأن بداهتها تقوم دليلا يحاسب كل من يتحمل المسؤولية في أسبابها. وأمام بعض الخرجات الإعلامية للديبلوماسية الجزائرية حين يتعلق الأمر بالمغرب، وكذا ما يصدر عنه الرئيس الجزائري المنتخب السيد عبد المجيد تبون من مواقف كلما كان الملف فيه حضور مغربي، فإن بعض الأسئلة تصبح ذات إلحاحية. لا يمكن، بداية، التجاوز عن ملاحظة مركزية، هو أن «الواقعة الجزائرية» تقدم مادة غنية ومغرية بالقراءة المساءلة، تأسيسا على ما أصبح يفرزه واقع التحولات هناك من معطيات، منذ انطلاق «الحراك» (الذي أكمل سنة بدون توقف كل جمعة بشكل حضاري سلمي رفيع). ذلك أن السقف الأعلى لتلك التحولات، كما أجمعت عليه الكثير من التحاليل، هو أن البلاد تذهب بتسارع أكبر نحو تحول في معنى الجمهورية، يتجاوز مجرد تغيير في السلطة، إلى أفق تغيير في منهاج التدبير الشامل للدولة، بالشكل الذي يسمح بإعلان «ميلاد الجمهورية الثانية الجزائرية»، المتجاوزة لتراكم «الجمهورية الأولى» (جمهورية الإستقلال). وأن الترجمان على ذلك سيجد معناه من خلال مشروع الدستور الجديد المنتظر، والتدافع حوله بين شرعيتين: شرعية الشارع المتحرك (المجتمع) وشرعية الجسم السياسي (النخبة). بالتالي، كان تمة أمل واعد في أن بلاد «مصالي الحاج» و «ديدوش مراد» (بما كانا يرمزان إليه من شرعتين تاريخيتين مختلفتين)، هي على أعتاب تحول تاريخي، تتجاوز تداعياته الجغرافية الجزائرية إلى كل الغرب المتوسطي شماله وجنوبه. عنوانه، التصالح أخيرا مع تحديات المستقبل، بمنطق القرن 21. لأنه علينا تسجيل معطى سوسيو تاريخي، هو أن واقع «الجزائر الأمة» قد أصبح راسخا اليوم أكثر مما كان عليه الحال بحسابات القرنين 19 و 20. وأن التراكم المتحقق في هذا الباب هو من الرسوخ ما يجعل «الأمة الجزائرية» قد بلغت من النضج التاريخي ما يجعلها في حاجة للإنتقال من حال إلى حال. من منطق «صراع الشرعيات» على مستوى النخب، إلى منطق «فكرة الدولة/ الأمة» المسنودة بالشرعية الشعبية التعددية عبر الآلية المؤسساتية والديمقراطية، وأن تنتقل نخبها سواء في الدولة أو في المجتمع إلى ذات المستوى من النضج التاريخي. لأنه علينا الإنتباه أن مشروع أبناء جزائر 2020، ليس طبيعيا مشروع أبناء جزائر 1920، بسبب التغير في الوعي الذي يفرزه الواقع السوسيو تاريخي للمجتمع. فتحديات 1920 كانت تحديات هوياتية لحماية «الذات» من الإجتثات الحضاري للإستيطان الفرنسي، والإجتهاد لبناء شكل لمعنى «الدولة الجزائرية» من العدم (بسبب غياب تراكم تاريخي للدولة كأنظمة مستقلة ما قبل 1830 ميلادية، تاريخ بداية الإحتلال الفرنسي للشواطئ الشمالية للجزائر). فتم تجريب أشكال تأطير متعددة للنخبة الجزائرية ما بين 1920 و 1962، انتهى إلى فكرة «الدولة الوطنية» الوليدة من بنية «جيش التحرير الوطني»، الذي هو ترجمان لسطوة نخبة (من بين نخب أخرى أفرزها ذلك الواقع الجزائري)، فرضت رؤيتها وتوجهها على الجميع بالقوة، وعبر آلية تدبيرية ممركزة شمولية (نظام الحزب الوحيد). وآمنت أيضا أن مصيرها كمشروع لدولة وليدة (بحدود جغرافية جديدة، غير مسبوقة، كانت هبة من الإستعمار) هو في أن ترسخ نفسها، بذات المنطق، كقوة إقليمية بشمال غرب إفريقيا تكون المخاطب الأول والأخير دوليا بالمنطقة، وعلى دول الجوار أن تظل تابعة بما يعزز من حلم تلك «الريادة الإقليمية» (وهو ما وصف في الكثير من المناسبات ب «حلم الهيمنة الإقليمية للدولة الجزائرية»). لهذا السبب، فإن ما تحبل به اليوم وعود التحولات بالجزائر، يكمن في أنها صادرة لأول مرة عن المجتمع وليس عن النخب، عنوانا على أن «روحا جزائرية» جديدة تتبرعم هناك، مؤمنة بالعمل المؤسساتي الديمقراطي والتعددي، ومقتنعة فعليا بشروط الواقع الجديد، الذي يجعل البلاد «دولة أمة» مثل باقي «الدول الأمم» في جوارها الجغرافي والقاري، لا سبيل لتحقيق النماء والتقدم المنشودين داخليا بدون الإنخراط ضمن تكتلات جهوية، يقدم الواقع المغاربي فرصة مثالية وطبيعية له. هنا علينا الإنتباه أن شعار «يتنحاو كاع» الذي ظل صامدا بشوارع المدن الجزائرية أسبوعيا (في كل جمعة) منذ سنة، ليس المقصود منه بالضرورة الأشخاص كأشخاص بل كمعنى تدبيري وكعنوان لمعنى أصبح متجاوزا ل «الدولة». فالمقصود هو تنحي «الأسلوب» و «المنهجية». هل تجاوب «عقل الدولة» الموروثة عن جيل 1920 مع هذا المطلب الشعبي؟ لابد من تسجيل أن ذلك «العقل» قد امتلك مكرمة ودهاء عدم الإصطدام مع القوة المطلبية الجارفة ل «الأمة الجزائرية»الجديدة، وأنه انتصر لعدم إطلاق ولو رصاصة واحدة ضد أبناء شعبه ولم يسقط بالتالي ولو قتيل واحد (وهذا يقدم دليلا على الوعي بشرعية تلك المطالب وبقوتها). لكنه حاول بالمقابل، الإلتفاف عليها عبر آلية مؤسساتية تحقق أمرين هامين: حماية الدولة في مصالحها الحيوية وفي وجودها، وثانيا محاولة القيام بتغيير من الداخل على بنية «الدولة الوطنية» الموروثة عن منطق القرن 20، عبر محاولة محاربة «الفساد الداخلي» (محاكمة فريق من السلطة الوازن)، وعبر محاولة تغيير المنهجية التدبيرية بما أصبح يفرضه منطق «نظام السوق» للخروج من شرنقة «اقتصاد الريع» الذي رسخته مداخيل الطفرة النفطية المتواترة صعودا وهبوطا، منذ 1973. أكثر من ذلك، فإنه لا يبرز بوضوح توجه الخيار التدبيري الإلتفافي ذاك، سوى في البعد الخارجي للسياسة الجزائرية. لأنه إذا كان ذلك التدبير داخليا قد اتسم بالكثير من المرونة ومن السعي لكسب «شرعية القبول» الشعبية من قبل رجل الشارع الجزائري، فإنه قد أبرز تشددا متطرفا خارجيا، من خلال خيار التصعيد مع الجار الأكبر للجزائر الذي هو المغرب (بل إنه يكاد يكون تصعيدا بروح مرحلة 1972 – 1975). وهنا أسباب القلق الهائلة من عدم إدراك «عقل الدولة» الجزائري ذاك، أن الزمن غير الزمن، وأن العالم غير العالم، وأن الجزائر غير الجزائر، وأن المغرب غير المغرب. ويخشى بالتالي أن سياسة مماثلة إنما تتجه إلى الحائط، كونها لم تستوعب عميقا معنى التحول المعبر عنه شعبيا من قبل المجتمع الجزائري. إن من عناوين ذلك، كامنة في شكل التعامل مع «الملف الليبي» الذي تعتبر الرئاسة الجزائريةالجديدة، أن النجاح فيه (كورقة وفرصة لعودة ديبلوماسيتها إلى حلبة العلاقات الدولية المؤثرة) لن يكون سوى عبر إلغاء الدور المغربي في الملف، حتى تكون الجزائر المخاطب الأوحد دوليا بالمنطقة حوله. وهذا منطق معيب تماما ومتجاوز، لأنه سيضعف المحاولة الجزائرية من حيث إنها ستظل معزولة أمام الأجندات الدولية المتعالقة مع منطقتنا الشمال إفريقية (وليبيا ليست سوى بوابة لتلك الأجندات، التي قد تنتقل لا قدر الله غدا إلى الجزائر). والحال أن فرض حل مقبول للمعضلة الليبية دوليا وإقليميا وفي الداخل الليبي، لن يكون سوى عبر تنسيق مغربي جزائري تونسي موريتاني ومصري. مثلما أن من عناوينه الأخرى، قوة الإنزال الجديدة لدعم ورقة الإنفصال ضد الوحدة الترابية للمغرب. وهي ليست مجرد قوة إنزال ديبلوماسي، بل إطلاق سيولة مالية هائلة إفريقيا وأروبيا (محاولة خلق وتجديد قوى ضغط موالية لأطروحتها)، ومحاولة اللعب على الرمزيات القيمية من خلال المحاولة البئيسة لجعل المقارنة قائمة بين الواقعة الصحراوية والواقعة الفلسطينية. وهذا مستوى «وقح» للأسف، فيه مستوى من العداء ضد «المعنى المغربي» هو على النقيض تماما من واقع التضامن الشعبي للجزائر الجديدة شعبيا مع ذلك «المعنى المغربي». ولأن كلام العقلاء منزه عن العبث، لنطرح الأسئلة السليمة حول الواقع السليم لشكل تعامل «الدولة الجزائرية» مع ملف «الصحراء الغربية للمغرب»، الذي هو واحد من أكثر ملفات الفساد المالي والتدبيري بالجزائر منذ 1974، الذي يؤدي فيه المواطن الجزائري فاتورة تنموية رهيبة لا ناقة له فيها ولا جمل. وحتى لو انطلقنا من ما تروجه تلك السلطة التي تصر على الإساءة للمغاربة (وهي تدرك جيدا أن قضية الصحراء وسبتة ومليلية والجزر الجعفرية المحتلة من قبل الإسبان، قضية الشعب المغربي وليس فقط قضية النخب السياسية والنظام السياسي المغربي، وهي واحدة من القضايا المصيرية التي تتجدد فيها فعليا روح «ثورة الملك والشعب»)،، أقول لو انطلقنا من ما تروج له تلك السلطة من أنها ليست طرفا في النزاع، حتى وهي الطرف الرئيسي فيه، والوحيد في العالم، وليست جبهة البوليزاريو للأسف سوى أداة افتقدت للشرعية النضالية لبداياتها التأسيسية ولاستقلالية قرارها منذ تصفية مؤسسها مصفى الوالي السيد، يستقيم طرح السؤال الطبيعي التالي: كم كلف ذلك الإختيار الشعب الجزائري في أسباب تنميته الداخلية؟. ثم ألا يقوم ذلك دليلا على الفساد التدبيري للحكومات الجزائرية، من حيث إنها تقتطع من جيوب المواطن الجزائري بدون أية رقابة أو محاسبة، الملايير من الدولارات، لصرفها في معركة لا تعني شيئا للمجتمع الجزائري بمختلف أجياله؟. يكفي القيام بعملية حسابية بسيطة وعادية، لكلفة رعاية المخيمات بتيندوف أمنيا ومخابراتيا وعسكريا، ثم على مستوى الكهربة والماء الشروب، ثم كلفة لوجيستيك التحرك دوليا (سفريات وإقامات في الفنادق وإكراميات لهذه الجهة أو تلك، لهذه الحكومة أو تلك، لقوة الضغط هذه أو تلك)، ثم الكلفة الهائلة للتسليح والتكوين العسكري والصيانة، لنخلص إلى أنها بملايير الدولارات منذ 1974 إلى اليوم. لأن العقل يقول إن جبهة البوليزاريو ليست دولة ولا ميزانيات مستقلة لها ولا مداخيل قارة لديها. والنتيجة الطبيعية هي أن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، وأسباب التنمية فيها متحققة بمقاييس عالية جدا مقارنة بالواقع الإفريقي وبواقع المخيمات، بينما النزيف يطال جزء ليس بسيطا من حقوق المواطن الجزائري في التنمية والتقدم. ولن يبالغ المرء إذا ما خلص إلى أن نسبة تلك الفاتورة تقارب مستوى مقلقا من معدل النمو الداخلي للجزائر. لابد من التسطير هنا، أنه في غياب سوق مغاربية مفتوحة وبسبب إغلاق الحدود تفقد المنطقة المغاربية 2 % من مجموع الناتج الداخلي الخام استنادا إلى التقارير السنوية لصندوق النقد الدولي ومختلف المؤسسات المالية العالمية. وإذا أضفنا كلفة أخرى يؤديها المواطن الجزائري من دخله الوطني لإبقاء ترسانة مواجهة الحقوق المغربية، فإن كلفة الخسارة جزائريا تلك تزداد بنقطة واحدة، لتصل النسبة إلى 3 %. لأن القيام بعملية حسابية موثقة، بمقاييس التنمية المستدامة، لكل ما تضخه السلطة الجزائرية من أموال طائلة ضخمة لمجرد منازعة المغاربة في حقوقهم الوطنية الترابية والسيادية، يجعلنا نقف على ميزانيات بملايين الدولارت سنويا، وبملايير الدولارت منذ 1974. والنتيجة هي العبث، حيث تفاقم الأزمة المجتمعية بالداخل الجزائري، وتعطيل قيام سوق مغاربية مشتركة، وتعطيل قيام تكتل جهوي مغاربي وحتى شمال إفريقي من طنجة حتى السويس، وتقليص نسب النمو الطبيعية في منطقتنا بجنوب غرب البحر الأبيض المتوسط. وأن ترجمة ذلك على أرض الواقع اليومي للمواطن الجزائري، هو حرمانه من مئات الكلمترات من الطرق المعبدة، وعشرات المؤسسات الطبية الحديثة تحقق الإنصاف المجالي للصحة العمومية من شمال البلاد إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، ودعم هائل للبحث العلمي المنتج للمعرفة، وإصلاح الأراضي الزراعية لضمان الإكتفاء الغدائي، وخلق بنية تحتية لجلب الإستثمار وخلق فرص الشغل، وتيسير ميلاد طبقة متوسطة منتجة وحامية لقيم المواطنة ودولة المؤسسات… إلخ. هنا يحق لنا السؤال: كم قدمت فعليا الحكومات الجزائرية من دعم ملموس للقضية الفلسطينية، تأسيسا على منطق مزايداتها «الوقحة» على وطنية المغرب والمغاربة؟. مؤكد أنه لا يشكل حتى 10 % من حجم الدعم المخصص لمناهضة المغرب في استكمال وحدته الترابية. ونحن هنا لا نزايد أبدا على وطنية المواطن الجزائري والتزامه الفعلي وإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية، مثلما أننا لا نريد أن نزايد على عدالة قضية الشعب الفلسطيني ونطرح السؤال كم قدم المغرب فعليا من قيمة دعم لهم (رغم ضآلة إمكانياته الذاتية أمام ضخامة الإمكانيات المالية للحكومات الجزائرية للبترو دولار)؟. يخشى أن صوت العقل يخون مرة أخرى السلطة الحاكمة الجديدةبالجزائر الشقيقة، كونها تضيع فرصة تاريخية جديدة للتغيير، من حيث إنها لم تستوعب كفاية أن التحول الجزائري الواعد، بمنطق القرن 21، ل «الجزائر الدولة / الأمة»، لن يقبل تواصل سياسة عدائية مجانية مماثلة، وفسادا ماليا مماثلا بلا رقيب أو حسيب. بالتالي، فإنه مؤسف أن السلطة الجديدةبالجزائر تواصل مخاصمة هذا الأفق الواعد للتحول الشعبي والمجتمعي الجزائري، من خلال مواصلة ذات السياسة الخارجية ضد الإمتداد الطبيعي للأخوة الجزائرية بالمغرب، وأنها تكلف الشعبين خسارات هائلة بملايير الدولارات، من حقوقهم في التنمية والتقدم والأمن والرفاه والأمل في مستقبل مطمئن، يحمي من الأجندات الخارجية المتربصة بالجميع.