لا يختلف دارسو السرد في كونه جزءا من الزمن / التاريخ، وشكلا من أشكال الحضور في ذاكرة الأشياء والكائنات والكيانات ، بمعنى أكثر؛ الحضور في ذاكرة الأمة وترسيخ هويتها أو تجذ يرها في التاريخ . وقد لعب السرد في تاريخ الشعوب دورا مهما في تجذير ذاكرة الأشياء والفضاءات والكائنات وحفظها من آفة المحو والغمر … كما أنه جزء من عوالم الإمكان أو لنقل إنه آلية من آليات اشتغاله . ويتأطر السرد ضمن ثلاثة أسئلة كبرى: – سؤال الفعل – سؤال السلوك – سؤال الكينونة أو جدوى الوجود . من هذا المنظور، تتأسس قراءتنا لرواية ” المغاربة” والتي حظيت بقراءات ودراسات مختلفة ومتنوعة . تنطلق هذه الرواية من تبئير حكاية محمد الغافقي قبل أن يصيبه العمى وبعد أن أصبح أعمى من جهة أولى . و من جهة ثانية تبئير الحكي أو السرد حول فضاء بني ملال . وتتم عملية السرد بالتناوب بين كل من محمد الغافقي وأخيه عبد الهادي العسكري . الرواية نص يسرد كينونة أو هوية فضاء بني ملال، وهي هوية متجذرة في التاريخ المغربي المعاصر، وراسخة في جغرافيا المدن المغربية ، والسارد هنا يتناوس بين فضاءين : فضاء دار الباشا وما تحمله من دلالات تاريخية وتراثية وسياسية وسلطوية وثقافية …ثم فضاء المدينة وكيف أخذ في التشكل عمرانيا و سياسيا واجتماعيا. يسرد هذا النص الفعل الإنساني سواء كان فردا أو جماعة، سلطانا أو رعية، مؤرخا أو فقيها أو سياسيا ، مناضلا أو انتهازيا، معارضا للسلطة أو منخرطا في لعبتها. إنه نص يستنطق فعل السلاطين و الباشوات و المسؤولين في هذه الجغرافيا / الفضاء ، فعل السياسي و الإعلامي ، فعل الفقيه و المثقف … ثم علاقة هذا الفضاء كهامش بالمركز: كيف كانت الخيوط تمتد أو تتقلص بين المركز والهامش في تاريخ السلطة المغربية، طبعا الأمر يتعلق بالخيوط السياسية والاقتصادية والإدارية…بين بني ملال أو إيالة تادلا بني ملال ومراكش أو الرباط …لقد كان هذا الفضاء أو الإقليم محطة عبور من …إلى … إلى جانب ذلك ، يرصد السارد عبر رؤيته كيف كان نمط العيش في هذا الفضاء : لغة وتقاليد وعلاقات اجتماعية ومنظومة قيم وتمثلات ذهنية . هذا الفضاء بأبعاده الجغرافية والسياسية والتاريخية تؤثر فيه الطبيعة والحرب، ترسم حدوده المجاعات والأوبئة ، وتعيد تدبير سياسته الحَرْكات والحَرَكات ، وتصنع مصيره جهات نافذة اقتصاديا وسياسيا . لقد تم تسريد هذه الموضوعات في الرواية بالموازاة مع دينامية الحدث وامتداداته عبر مسافات سردية متنوعة.
لقد اتخذت هذه الرواية ” المغاربة ” عنوانا لها، و المغاربة جمع لمغربي المنسوب إلى المغرب، وهذا ما يجعلها تعني الكل، فهي ليست خاصة ، إنها عنوان لهوية مركبة غير بسيطة . ” المغاربة ” مسمى أو دليل ، أي علامة تتسم بالامتداد والتجذر في الماضي والانفتاح والتوسع في الحاضر ، تجذر في التربة الدينية الملتبسة بالسياسة ، أو كيف ينبتق السياسي من جبة الديني ؟. التحضر عند المغاربة ملتبس بالبداوة ، حيث لم نصل بعد إلى الفصل بين البداوة كنمط عيش في البادية والتحضر كنمط عيش في المدينة . المديني لم يتحرر من الريفي في نمط عيش المغاربة، وهذا من بين الأسئلة العميقة في الرواية . إن المغاربة خصوصية في كل شيء. الرواية والتاريخ : حفلت الرواية في بناء متخيلها بالمادة التاريخية ، حيث يلمس القارئ حضورا قويا للتاريخ إلى جانب مكونات أخرى مثل اللغة والأدب والفنون.. وكأنها بذلك متحف وضع فيه الروائي هذه الهوية في كليتها . يدل التاريخ على توالي أحداث العالم على مر الزمن، أي الوقائع التي جرت أو حدثت في الماضي. والتاريخ ظاهرة اجتماعية منتسبة إلى الماضي . إنه عند الدارسين: علم الإنسان بالماضي: يدرس صيرورة الأرض والسماء والأنواع كما يدرس الحضارة . وتثار حول التاريخ مجموعة من الأسئلة تخص: الحقيقة ؟ الذاتية ؟ الموضوعية ؟ علاقته بالسلطة ؟ …حيث هناك من يرى بأن التاريخ علم سلطوي، وعي بالسلطة . ويقترن وجودا وتحققا بمقولتين سلطويتين: الانتصار أو الهزيمة. إن التاريخ ينتج ويعاد إنتاجه ضمن مؤسسات السلطة، سواء كانت سياسية أم دينية أم اجتماعية أم علمية .في مجال السلطة السياسية يساوي مؤرخ السلطة بين الانتصار والحقيقة، ويربط الحقيقة بالمنفعة ، فمن انتصر كتب تاريخه وهو الحقيقي . و يتجلى هذا الأمر على مستوى الكتابة والتدوين ، فإذا كان التاريخ يحدث مرة واحدة ، فهو يكتب أكثر من مرة ، وهذا يكشف عن المفارقة بين الحدوث والكتابة أو الرواية ، أقصد رواية التاريخ نفسه . وهنا يخضع لتعديلات وتغييرات تتحكم فيها مصالح وأهواء و تتخذ مصائر و أحوالا. وإذا كانت الرواية عملا تخييليا جماليا مقترنا وجودا بالحاضر ، فهي تعمل على استحضار المادة التاريخية ، وهذا الاستحضار يتأسس على مبادئ مثل الحوار أو التفاعل أو التناص . وما يبرر للرواية ذلك هو كونها جنسا أدبيا غير مكتمل ، تتفاعل داخله الأصوات والنصوص والخطابات …غير أن ذلك يمكن تأطيره من خلال بعض المحددات مثل : – الإرادة الإنسانية : حيث نشاه التاريخ رهينة بالإرادة الإنسانية ، كما أن الحقيقة التي يحملها خاضعة لتلك الإرادة . وعندما ينتقل الحدث التاريخي إلى الخطاب الروائي هناك إرادة الروائي أيضا أو مقصديته . لماذا استند الروائي إلى التاريخ ؟ وما هي رؤيته لذلك ؟ وماذا يضيف المكون التاريخي إلى النسق الروائي جماليا وفنيا ؟ – الذاكرة : هي هوية الأفراد والجماعات ، ومثلما تتأسس على مكونات ثقافية مختلفة تتشكل أيضا من التاريخ ، وبالتالي نتحدث هنا عن تاريخ الذاكرة الإنسانية عامة. وقد ساهمت الرواية عبر تاريخها في بناء و تشكيل أو ترسيخ هذه الذاكرة . – الحاضر : له تأثير قوي ولافت في الكتابة الروائية ومسألة التشخيص السردي للقضايا الإنسانية وللتحولات السوسيو اجتماعية ، حيث هناك استجابة دوما لأسئلة الحاضر الحارقة. كما أن إعادة النظر في التاريخ أو استحضار ه أو استلهامه يشكل بدوره جوابا عن أسئلة يفرزها الحاضر . وكما قال سارتر: التاريخ محدد بالاستعادة القصدية للماضي عن طريق الحاضر . انطلاقا من هذا التصور لكل من التاريخ والرواية كخطابين يتفقان في أمور ويختلفان في أخرى، يمكن لنا أن نطرح السؤال التالي : كيف تم استحضار التاريخ إلى خطاب رواية ” المغاربة ” ؟ بدءا من العنوان ، يستحضر القارئ التاريخ ، حيث لا يمكن تمثل ” المغاربة ” كشعب أو أمة دوت تاريخ . وبالتالي فلا بد من استحضار هذا البعد التاريخي بالقوة والفعل . هكذا يؤسس العنوان كعتبة هذا الأفق عند القارئ في التلقي قبل الولوج إلى عوالم النص ومداراته خلال عملية القراءة . يؤسس التاريخ حضوره في الرواية من خلال صيغتين أو شكلين : تاريخ عربي عام من خلال استحضار وقائع تاريخية عربية مثل عزل الملك فاروق يوم 26 يونيو 1952. وكيف تخلى عن السلطة والنفوذ والأبهة مرغما . يقول السارد مقارنا بين الباشا والملك فاروق :” ومن هناك كنت أتأمله، كان يشبه الملك فاروق في تلك الصورة الحزينة التي يودع فيها مصر ليركب باخرة المحروسة تاركا مصر لحكم العسكر …..لكن فاروق ، يوم 26 يونيو 1952 وهو يغادر قصر رأس التين، كان يعرف أن كل شيء انتهى، فلا يرى إلا انهياره الداخل ” ثم تاريخ خاص : عزل باشا مدينة بني ملال أو ما يعرف في الكتابات التاريخية المغربية بإيالة بني ملال ، يقول السارد:” لكن ما الذي يحزن الباشا إلى حد أنه يجعله على حافة البكاء؟ وأي ملك خلفه وراءه ؟ ….كيف سيتحمل الحياة في هذه المدينة الصغيرة الصامتة الكئيبة …؟” * الصورة الأولى لحضور التاريخ في الرواية: يتأكد حضور المادة التاريخية في المتن السردي للرواية برواية تاريخ أسرة أو عائلة باشا مدينة بني ملال، وكأن التأريخ لهذه العائلة تأريخ للمدينة . لقد استدعى الروائي مرجعية تاريخية مهمة لبني ملال من خلال عائلة الباشا بوزكري وابنه عبد السلام وما عرفته تلك الفترة من أحداث وصراعات وحروب وتحولات في السلطة ومناورات بين السلطات المركزية والقبائل، أو ما يعرف بالصراع بين المخزن والقبائل . هنا يكشف التشخيص السردي المستند إلى المادة التاريخية دور القبيلة كمفهوم مركب في صيرورة الأحداث إلى جانب المكون الديني، وكيف كان القياد يسوسون الإيالات ” الأقاليم ” ويعالجون تمرد القبائل ويضمنون تحلفها أو يكسرون شوكة القوية منها . لقد كان للقائد بوزكري دور فعال في الوساطة بين السلطة المركزية والقواد الثائرين من جهة ثم القبائل المتمردة والزوايا الدينية المؤثرة . يروي السارد، استنادا إلى المادة التاريخية دور الوساطة التي كان يقوم بها الباشا للمستعمر: “أجمعت كل الوثائق التاريخية على أنه كان وراء مفاوضات استسلام كل قبائل تادلا، بل كان وراء دخول الاحتلال في 16يوليو 1916 إلى قصبة بني ملال بدون قتال . وفي 21 منه، أقيم استعراض عسكري ووشح القائد بوزكري من لدن ليوطي نفسه بوسام اعترافا له بجهوده في استسلام مواطنيه ، وتلطف وسماه في كلمته – تهدئتهم لما فيه خير للجميع – ” . بهذه الصورة البانورامية ستكشف الرواية عن تاريخ هذه المدينة، وكيف تشكل في ظل ظروف تاريخية خاصة . إلى جانب استحضار تاريخ هذه العائلة، تم استدعاء تاريخ تأسيس حزب الاستقلال بالمدينة والذي صادف تعيين عبد السلام خلفا لوالده بوزكري، وكيف كان يتعامل مع هذا الحزب من خلال سلطة الحماية ثم حدث عزل أو نفي السلطان محمد الخامس، ورد في النص ما يلي: “فحين أراد الباشا الكلاوي وبإيعاز من سلطات الحماية عزل محمد الخامس، وتولية فرد آخر من الأسرة الحاكمة مكانه …تذكر ما قيل له ، لم يتسرع ، ولم يبد موقفه بوضوح، ووضع كما فعل والده دوما رجلا هنا ورجلا هناك . فالسياسة ليست علما دقيقا، ولا أحد يعرف من ستؤول له الأمور ….ونجح طيلة الشهور التي اشتدت فيها الأزمة في أن يكون في قائمة الفريقين ، و كلما خلا إلى فريق قال لهم : أنا معكم . وحين نفي محمد الخامس بايع بن عرفة …” . هذه الوقائع التاريخية شكلت إطارا عاما لمدينة بني ملال، باعتبارها الفضاء المركزي والمحوري في الرواية ، وكأن الأمر يمثل نموذجا أو مثالا للمدينة المغربية عامة التي تأسست في ظل ظروف متشابهة . التاريخ مادة ومكون أساسي نستحضره لفهم الحاضر والآن ، غير أن هذا الاستحضار لم يكن موضوعيا أو حياديا بل تم من خلال رؤية السارد وبالتالي رؤية الكاتب، يمكن أن نتأمل هذا المقطع السردي : ” كنت أرى الباشا وهو يحيي الناس بتثاقل وملل ، وأقول لنفسي ، ربما ليس للحكايات التي يتداولها الناس عن عائلته من الصحة إلا الأسماء والتواريخ ، أما الباقي فتلفيق فيه من الخيال وتصفية الحساب المتأخر أكثر مما فيه من الحقيقة (ص 104 )… * الصورة الثانية التي تم استدعاء التاريخ بها إلى عالم الرواية : هي اعتماد ما يمكن تسميته بهوية “المغاربة “، وذلك لكون هذه الأخيرة هوية مركبة وليست بسيطة ، فقد تشكلت عبر طبقات ثقافية، ساهم في تشكيلها الديني والطبيعي والتاريخي والسياسي والقبلي …ويدرك القارئ هذه الصورة من خلال ما عنونه الروائي ب: هذيانات مغربية وقد قسمها إلى ثلاثة أبواب : * باب المغاربة : في هذا الباب قدم هوية المغاربة من خلال مجموعة من السمات مثل علاقتهم بالسلطة، جاء في الرواية : “فالمغاربة لا يحرسون الذكرى إلا إذا كانت تتكئ على سلطة قائمة ( ص 109) ..” وهذا أمر تؤكده الوقائع التاريخية، حيث هناك أحداث ومناسبات احتفظ بها المغاربة لاستنادها إلى السلطة، سواء كانت سلطة سياسية أم سلطة دينية. إن ذاكرة المغاربة تاريخها متأسس على ماضيهم ، أي أن حاضر المغاربة مبني على الماضي، كيف كانوا ؟ كيف تشكلت هويتهم ؟ سياسيا ودينيا واجتماعيا وطبيعيا … يضاف إلى ذلك ذهنية المغاربة، فقد ورد في الرواية: “لأن المدن التاريخية لهذا البلد، وطيلة قرون كانت بالأساس محطات تجارية في الطريق العابرة للصحراء، ولأن مدنه الشاطئية ، كانت هي أيضا، عبارة عن وكالات تجارية، فقد ازدهرت العقلية التجارية وصاغت بأناة أرواح المغاربة الذين صار لكل شيء، وبالنسبة لهم ثمن، وأعلوا إلى مقام القول المأثور بأن الشيء الذي لا يباع ولا يشترى حرام . لا تستغرب أن ترى، إذن، كل من في البلد يطلب من الوطن مقابلا، المقاوم والمناضل، والسياسي والمثقف، والرياضي والفنان، ورجل الدين…بلد ضاع بين نقائض كثيرة : الإسلام والوثنية ، المخزن والسيبة، القبيلة والوطن، الأندلس والصحراء… وفي مقطع آخر، يتابع السارد سرده راصفا بعض خصوصيات هذه الهوية المركبة : ” تعرض المغرب لقسمة ضيزى وهو يستقبل الهجرات العربية ، فالقبائل الشامية والمتاخمة للشام والعراق حيث تأثير الحضارات الفارسية واليونانية والرومانية والبيزنطية عبرت توا إلى الأندلس، وكان من نصيب المغرب عرب نجد والحجاز واليمن : الرعاة والمحاربون، فلا غرابة أن يزدهر في الأندلس الشعر والغناء وأناقة اللباس والمأكل ورغد العيش ، وأن تزهر هنا الخيام وبعر القطعان والشواء والسيف..” . الصورة الثالثة التي تمثل بها التاريخ في رواية “المغاربة ” تم من خلال اكتشاف مقبرة من الجماجم خلال بعض الأعمال ( وجود جماجم دون هياكل) مما كان مناسبة لإثارة أسئلة دون أجوبة : لمن هذه الرؤوس ؟ لماذا دفنت هنا ؟ من المسؤول عن ذلك ؟ هي أقرب إلى الإعدامات الجماعية التي وقعت في تاريخ المغاربة، جاء على لسان السارد : ” وقعت هذه الإعدامات الجماعية في ما عرف بمحنة الاعتراف التي قام عبد المومن بن علي الكومي ثاني ملوك الدولة الموحدية، واقتدى فيها بمحنة التمييز التي أشرف عليها المهدي بن تومرت مؤسس الدولة . وهي تصفية دموية باردة وجماعية للخصوم والمعارضين بدعوى أن إيمانهم ضعيف وإخلاصهم مشكوك فيه . وربما هذه الجماجم المحيطة بنا هي الشواهد المتبقية من جرائم الاستفراد بالحكم والتعصب الديني الأعمى الذي كان يقتل فيه الناس جماعات على ترك الصلاة …. الصورة الرابعة للتاريخ في الرواية : تاريخ اليسار المغربي، وكيف كانت المدينة فضاء احتضن هذا التيار الفكري الثوري، جاء في النص : في شهر رمضان سنة 1960 ، وقع بني ملال حادث أثبت له بأنه كان على حق في كل توقعاته، فقد اندلعت ما صار يعرف في أدبيات اليسار ، بانتفاضة القايد البشير بن التهامي، الذي اغتال رفقة القايد حمو الفاخري عميد الشرطة أوقبلي وفرا إلى الجبال المجاورة لبني ملال، وهناك هاجما ، رفقة من انضاف إليهما ( يردد الباشا أسماء قادة جمهورية تاكلفت الخاطفة واحدا واحدا …أسسا جمهورية شعبية أوهى من زخة مطر في سمائم أغسطس.. الصورة الخامسة لاستحضار التاريخ في الرواية ، تمت من خلال تاريخ تأسيس الفديك (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ) في 20 مارس 1963 . من خلال الإشارة إلى رموزها والغاية من ذلك ، ثم هناك إشارة إلى أحداث مولاي بوعزة سنة 1973 ( ص 193) . * باب السلاطين : تضمن هذا الباب جزء من المادة التاريخية ، وهو ما يشكل الصورة السادسة لحضور التاريخ في الرواية ، يتعلق الأمر كيف استقبل المغاربة إدريس بن عبد الله الأعزل الهارب من الشرق ، و كيف بايعه المغاربة : ” حين كان شيوخ أوربا ، القبيلة الساذجة ، يبايعون إدريس بن عبد الله الأعزل الهارب من الشرق رفقة مولاه راشد، ويقولون : هو سيدنا ونحن العبيد …و حين بايعوا ابنه وهو طفل في سن إحدى عشرة سنة ، كانوا يضعون لبنات في تاريخ طويل لاحتقار الذات و العبودية المختارة … ” . كما ذكر السارد بعض الوقائع التاريخية التي اقترنت ببعض السلاطين مثل : “كانت زينب النفزاوية وهي – بحسب وصف ابن خلدون – من المشهورات بالجمال والرياسة زوجة ليوسف ابن علي بن وطاس شيخ وريكة ، ولما تغلب عليه لقوط بن يوسف المغراوي اتخذها زوجة له ، ولما قتل أبو بكر بن عمر المرابطي لقوط تزوجها هو أيضا ، لكنه اضطر إلى العودة إلى الصحراء فاستخلف وراءه على تراب المغرب وولى زوجته يوسف ابن تاشفين . وهكذا لا يكتمل امتلاك الأرض إلا بامتلاك المرأة . لذا لا غرابة في أن يبقى الفقهاء ، وحتى مجيء الاستعمار يتجادلون : هل فتح المغرب عنوة أم صلحا ؟ أو عنوة وصلحا في الآن نفسه ؟ كأنهم يقيمون وضعية جارية في سوق نخاسة لا وطنا وشعبا وهوية متجذرة . . ” وهناك مثال آخر ذكره السارد ، يقول : ” إن أرهقت الضرائب أو عسف القواد قبيلة فتمردت وقتلت القائد، و أغارت على القوافل التجارية المارة بالقرب منها أو القبائل المجاورة ، كان السلطان يغضب ويعد حملته المدمرة ، فيحرق الزرع ويسبي النساء والأطفال والأنعام ، ويهدم الدور ، ويعود بحصاد وافر من المساجين و الرؤوس التي تعلق للعبرة في أبواب وأسوار المدن ، هذه العين بالعين ، لم تخلف في البلد كما قال غاندي ، إلا عميانا . “. إضافة إلى أمثلة انتقاها السارد مصادر تاريخية متداولة ومدونة في المادة التاريخية المغربية مثل : المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي وإتحاف أعلام الناس لعبد الرحمن بن زيدان ومناهل الصفا لعبد العزيز الفشتالي ….. تاريخ المغرب كما ورد في ” المغاربة ” اقترن بسلاطين كثر، حكموا البلاد ومارسوا السلطة ، وغلبت على تجاربهم أو ممارستهم: الاغتيالات والقتل والتمرد والعصيان والخيانات …ومن خلال هذه الأمثلة ، استنتج السارد بخصوص التاريخ المغربي أو الكتابة التاريخية أنه يجب أيضا كتابة تاريخ الخيانة في هذا البلد . *باب الأولياء الصالحين : في هذا الباب ، ذكر السارد من خلال شذرات بعض وقائع الأولياء الغريبة العجيبة . حيث لهذه الفئة الاجتماعية حضور قوي في تاريخ المغاربة . كما أن ذهنية المغاربة ومتخيلهم أو لاوعيهم الجماعي تأسست على هذا المكون الديني أو القدسي الذي لم يكن متطابقا مع الحقيقة الدينية ، بل هناك انحرافات أو شطحات خارج المعيارية الدينية . وهذه الثقافة الدينية كما رسخها الأولياء وتفاعل معها المغاربة وتأثر بها وجدانهم ونمط تفكيرهم ، إلى درجة حيازتها لقداسة عندهم، و يمكن أن نستشهد بمثال من الرواية : – حين أدرك الموت أبا يعزى آل نور ، ألح في طلب ابنه الفاجر ، العاق الذي ابتعد عنه. وحين جاء به تفل في فمه ، وفهم كل من حضر الواقعة بأنه يعهد له بأمور الزاوية الكبيرة والغنية من بعده . كانت التفلة وصية وإرثا . (المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى ) – طمع مولاي رشيد في مال الشيخ علي بن عبد الرحمن الدراوي مؤسس زاوية تمدجوت، وتعدى ذلك بأن عامله على تادلا بأن يأمر الشيخ ببعث أمة فاتنة اسمها مباركة للبلاط أو يستصحبها معه، رد الشيخ على هذا الطلب “لما طلب المال أعطيناه، لكن على مباركة تقوم المعاركة ” ( دوحة البستان في مناقب الشيخ علي بن عبد الرحمن ) …. على سبيل الختم : الرواية فن متخيل ينفتح على النص الثقافي في كليته وشموليته ، والتاريخ مكون من هذه مكونات ذلك النص ، واستحضاره إلى مدارات التخييل الروائي إعادة بناء له من جديد وتأويل معانيه و دلالاته . هذا الاستلهام للمادة التاريخية كما رأينا : أمثلة ، شخصيات ، عائلات، وقائع وأحداث …لها دلالاتها ورمزيتها في تعميق الشعور بثراء الذاكرة التاريخية والرغبة في نقدها و غربلتها، أي إعادة الوعي بها ضمن أفق تأسيس وعي جديد بالهوية المغربية . هكذا تأسس الحضور التاريخ المغربي إلى عالم الرواية بسبب أزمة الحاضر وانشغالات الراهن واسئلته المشحونة بالتناقضات والتوترات . الرواية خطاب منتج للمعرفة وبالتالي ساعدت القارئ على معرفة تاريخ هذا الفضاء وتاريخ هذا الإنسان ومعرفة هويته المركبة …لقد سعت الرواية إلى مساءلة تاريخ المغاربة المكتوب، سواء من حيث الانتقاء لنصوص ومقاطع من مصنفات تاريخية معلومة ومشهورة ومتداولة ، أو من حيث الأسلبة التي خضعت لها الخطابات التاريخية في كثير من مقاطع الرواية أو من حيث جعل التاريخ مؤطرا للحكاية وخاضعا لرؤية السارد الذي يؤول ويسأل ويسخر أحيانا (وهنا صوت آخر للكاتب ) . بهذه الصورة كون التاريخ الرسمي فاقدا لكثير من الصحة ومقبرا للحقيقة أو مغيبا لها . إن استدعاء التاريخ إلى خطاب الرواية هو استدعاء للمساءلة، و إتاحة الفرصة للقارئ المغربي العربي أن يقرأ التاريخ عبر الرواية لتجاوز هالة القداسة التي تطبع هذا التاريخ المكتوب وتحيل إلى مواقع الصمت في كلام المؤرخين .