أولت الرواية المغربية الحديثة اهتماما أكبر بمشكلات/تيمات صارت تفرض ذاتها في الوقت الراهن، والمرتبطة أساسا بالواقع الحرج، مهمتها أن تُخضع كل حالة أو مشكلة لامتحانات مختبرها السردي من خلال عملية تشريح لظواهر هي نتائج تراكمات ماضوية أو مستجدة بفعل التغيرات والشروط الجديدة، ومن ثم القيام بعملية «هدم البنية الهرمية لتراتبية اجتماعية بليدة».ولي النعمة ص30. نخص بالذكر هنا بعض السلوكيات المرتبطة بالمواطنة والانتماء وحدود الممارسة السياسية وعلاقة المثقف بالسلطة، ورهانات الوعي الفكري وفاعليته والصمت المفروض على الإنسان من الفوق. تتساءل إحدى الشخصيات الباحثة عن الحقيقة قائلة: «لماذا أبي يصر على صمته كلما طلبت منه أن يحكي عنها شيئا».(ولي النعمة ص152)، وبهذا تكون الرواية شكلا من أشكال التخاطب لها سياقاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية المتداخلة، كما أن لها بنايتها اللغوية وتساؤلاتها المفهومة من منطوق النص أو التي تتبدَّى لنا من خلال الإحالات الدلالية والرموز المتموقعة في ما وراء الأحداث .وعموما، تندرج في هذا لإطار رواية (ولي النعمة) للروائية المغربية المبدعة سلمى مختار أمانة الله التي استطاعت أن تنفذ إلى عمق التفاعلات الاجتماعية وتسليط أضواء نقدية كاشفة لتجلياتها الثقافية والسلوكية في قالب سردي يتسم، بما يمكن أن نسميه، بالوعي الروائي، إذ أننا نعتقد أن أي نص روائي هو مُنتَج بوعي، غير محايد، بل إن العمل الإبداعي يجب أن يشتغل بوعي، وأكثر من ذلك يجب -إن أراد أن يكون بحق عملا إبداعيا – أن يسابق زمنه بحيث يكون صادرا عن مستوى وعي متقدم على مستوى وعي المتلقي، قادما من المستقبل ليحمل حاضر المتلقي وماضيه إلى ذلك المستقبل المنشود، وليس فقط أن يبقى العمل الروائي رهين التذكر الماضوي وجرِّنا إليه كما تجرنا حكاية عادية من الحكايات الكلاسيكية. 1 – تشكّلات مؤسِّسة للنص: ساهمت رواية «ولي النعمة» بالتأسيس لمنظومة علاقات نصية فئوية تنتمي لطبقتين متباينتين من حيث الوضعية الإنسانية، ويمكن أن نُجمل خطاب الرواية في مستويين من التأويل والقراءة، بحيث انشغلت الرواية على مستوى أول بتحليل الوضعية الاجتماعية والسياسية العصامية –إن صح هذا التوصيف- للشخصيتين المحوريتين في النص، العربي الطوسي وعبد الغني الضعيف، باعتبارهما ذاتين تمثلان شكلَ الوعي التنافسي وطرفَ صراع أساسي مقاوم لنزعة السيطرة التي يمثلها طرف الصراع الثاني قصر ولي النعمة، الصفة التي تومئ إلى وضع دال على الثراء الفاحش والمكانة الاعتبارية والمرتبة السامية. شخصية تتقمص الذات التي تحتكر الأنا والآخر، الحاضر والماضي والمستقبل، التاريخ والحضارة والمصير، الهوية والثقافة والوعي والإيديولوجيا. إنها الذات التي تتعالى على كل هذه الأشياء، وتعتبر نفسها فوق التاريخ والثقافة والوعي ومنظومة القيم والمبادئ والأخلاق وفوق السلطة. كما يشغل القصر هنا فضاءً استعاريا يؤسس لترميز سياسي تستمد بموجبه الشخصية صفات التميز، وبالوقوف على بعض إشكاليات هذا الصراع الفئوي ومحاولة قراءة انعكاسات الواقع المأزقي المُجسٍّد لتيمات الرواية القراءة الواعية التي تَتغيَّا فلسفة الحدث ومدلولاته، وتمنح القصة بعدا تأويليا يستهدف اكتشاف جُزر النص الأكثر توافقا مع الصور الذهنية المسكوت عنها بقصد لفائدة المتلقي النوعي الذي راهنت الرواية على حضوره الفعلي أثناء السرد، من ذلك ما جاء في الصفحة 37( ما هو تعريف الحقيقة من وجهة نظرك أنت عزيزي القارئ؟ لا تتردد كثيرا اقبض على طرف الخيط ودعه يجذبْك إلى حقيقتك). لقد اعتمدت الروائية سملى مختار أمانة الله على الغوص في عمق الحكاية المغربية الحديثة، مستلهمة أحداثها من إخفاقات الإنسان المثقف المنخرط بشكل فعلي في صناعة الوعي، والذي يصارع للتحرر من ربقة المعاناة من جهة ولفضح أرباب الفساد من جهة أخرى، ذلك الإنسان الواعي بوجوده الذي يعيش حكايته بين أنياب ذوي السلطة والنفوذ، وليس ذاك المثقف المتفرج الصامت كما يريده (ولي النعمة) الذي يتحدد في الرواية رمزا للكائن السلطوي المستبد، الذي يجعل نفسه الموجود الوحيد، الحقيقة الوحيدة، المتحكم الأوحد في مصائر الناس، لأن وجوده السياسي قائم أساسا على احتكار السلطة و»احتكار الوعي»، باصطلاح جان بوديار في «المصطنع والاصطناع» ص214. ويمكن أن نشتق ونستنتج أبعاد مستويات حدث/ فعل التسلط، من جهة، والإقصاء/ الطرد من قصر ولي النعمة/ الزواج القسري/ الإكراه/ التكميم/التعذيب الجسدي النفسي والعنف الرمزي..الخ، من جهة ثانية، كعلامات نصية دالة على مشهد مجتمعي مرتبك، استخدمت فيه الكاتبة لغة سردية تعرف ممراتها جيدا وباحترافية إلى روح المتلقي، تعرف كيف تقيده بالنص بما يشبه فرض حصار شامل على مستقبلاته النفسية كيلا يغير مسار التأثر والتفاعل مع الحدث، وهنا تكمن جودة المنتَج الأسلوبية، عندما يستدعي كل حواس المتلقي للحضور بلغة مفارقة لضبابية الصورة والتصور ««بعيدا عن تلك الرمزية التي تدفن رأسها في وحل الحقيقة.ص89»، أو ما يمكن تسميته بالخطابات العويصة، أسلوب سمته الأساسية التنويع في مستويات اللغة، من لغة شاعرية، موسيقية أحيانا، بوح، حوارات كما عاشتها الشخوص بلهجتها الدارجة، وعيا من الكاتبة بما للدارجة (لغة التواصل الأصلية) من حمولات دلالية ونفسية وتعبيرية قوية قد لاتوجد في غير اللغة المتداولة، مما أضفى على مجريات السرد لغة مشرقة ستورطنا في جو من المتعة والانجذاب والتشويق منذ البداية. كما نلاحظ توظيف الرواية لتقنية الفلاش باك في الانتقال بين مشاهد النص، هذه التقنية ستوفر ظروفا ملائمة لالتقاء الشخصيتين المحوريتين في الحدث السردي، الطوسي والضعيف، لمواجهة سلطة فوقية متمثلة في شخصية ولي النعمة باعتبارها ذاتا تمارس ترميزا سياسيا ديكتاتوريا، أو متمثلة في شخصية اعتبارية لامادية منوطة بقوى الفساد السياسي المتموقع في فصول «عبد الغني الضعيف» و «تافوكت» ومتتاليات الحدث عبر الفضاء الزمكاني في الفصول الأخرى. استندت مجريات السرد على أسلوب متنوع، مكثَّف أحيانا ومطول أحيانا أخرى مناسب لطول المشاهد، انتقلت معه الرواية بين فضاءات وأزمنة مختلفة، وهران، الرباط، طنجة، فاس، الأندلس، ومن خلال هذه الأفضية تتناسل الأحداث مشكلة تشخيصا دقيقا لتوابع حالة التحكم التي تفرضها ممارسات السلطة على وعي وإرادة التحرر. 2 – الوعي والسلطة كجوهر للمشكلة: يمكن القول إن الإنسان يبدو للوهلة الأولى كائنا بسيطا، لكن سرعان ما يتشكل ككائن معقد فوق ما نتصور عندما نتواصل عن قرب مع أفكاره وعلاقاته ومستويات تعاطيه مع الأشياء ومع الآخر . نحاول هنا أن نقف مع شخصيتي الرواية المحوريتين على حضور الوعي والسلطة كعلاقة وأزمة. الشخصية المحورية الأولى العربي الطوسي، أستاذ دارس للعربية وعلوم الدين، سيء الحظ في طفولة مابين اليُتم والقتل، هارب مع أخته من ظروف حياة قاسية فرضت عليه انتقالا اضطراريا من وهران إلى فاس، هروب يحمل معه أوجاع الماضي والحاضر ومعه تكاليف التحول والإنتقال (من) و(إلى) . وبضربة حظ، سيكون نديما لولي النعمة في قصره بعد لقاء شعري أثبت فيه جدارته لينال إعجاب وحظوة هذا الأخير، غير أن زواجه بدون إذن ولي نعمته سيشكل انعطافة حادة في خريطة الأحداث، نقرأ في الصفحة 74 (نحن من يحدد المصائر بما في ذلك مصير زواجك )،(نحن لا نغيب أيها الوغد.. حضورنا أزلي) ص 75. إذن، لا استقلالية في التفكير أو أي محاولة للهروب من حالة سلب الحق في الاختيار، إذا تجاوزنا المستوى التصويري للمشهد وكيف يتحطم الإنسان أمام فرض السيطرة وتكميم الأفواه ولو لمجرد الشرح والتفسير للمواقف، ثم الطرد من قصر ولي النعمة الذي يعتبر بمثابة التحرر المفقود لكنه تحرر يشبه الموت، لأنه تحرر مشروط بالصمت المؤبد، والحكم على زواجه بالبطلان مادام أنه تم خارج الوصاية، ليطلِّق (العربي) زوجته ويقدمها قربانا لولي النعمة، ثم بغضبة بهلوانية يحكم عليها هي الأخرى بقطع ثدييها عقوبة لها على لاشيء سوى لترهيب من تسول له نفسه التغريد بعيدا عن التوجهات السياسية العليا. يقول ولي النعمة للمرأة التي انتزعها من زوجها العربي الطوسي وهي تخفي ثدييها عنه في موقف يكرس العنف والاغتصاب باسم السلطة: «من أنت ؟من تكونين؟ وكيف تتجرئين على إخفاء ما لا تملكين؟ – يقصد ثدييها العاريتين-»ص184. بالموازاة مع ذلك، تتواجد الشخصية المحورية الثانية كامتداد للإنسان المنتصر للوعي وللفكر النقدي فينا، عبد الغني الضعيف، المثقف والكاتب الصحفي المعروف بمقالاته المزعجة لكائنات بشرية موظَّفة لخدمة سياسات سلطوية فاسدة فاقدة للإحساس بالمسؤولية وفاقدة للوعي بالواجب، الأمر الذي سيجعله عرضة للعنف الجسدي وهو خارج من إحدى ندواته، دون أن تتعرض الرواية لتحقيقات الحادث، ربما تركتها عمدا لذكاء القارئ، فقد حرصت الروائية على إشراكه في إنتاج النص وتخيل تفاصيله المسكوت عنها كما أسلفنا، وتركتها أيضا لتحقيق بوليسي مفقود وأجهزة حكم لا تعترف بنتائج التحقيقات. ثمة سلطة قوية مجهولة تتلاعب بالتحقيقات والملفات والنتائج. تتحدد مقالات الضعيف في النص كأداة إزعاج وكشف للحقائق، ومنها سنفهم الأسباب المؤدية إلى قتل المثقف وتكميمه. المثقف الواعي الذي يسبق الأحداث بوعيه كما يقول عبد الغني الضعيف: «الصحفي المتميز هو من يسبق وقوع الحدث بالتنبؤ به» الرواية ص 97، بمعنى أن المثقف هو من يقود الحدث، وليس الحدث هو من يقود المثقف، هو من يسابق الحدث والزمن، بعكس الجمهور الذي يبقى دائما يجري خلف الحدث. ومن جهة أخرى تسجل الرواية موقف المجتمع من شخصية عبد الغني الضعيف، فمن قائل مناضل ، ومن قائل عميل للأجنبي ومن خدام المخزن لنخلص بالنهاية إلى أن المثقف متهم على كل الأحوال. 3 – أزمة وعي أم أزمة في كل شيء: تتخذ الرواية مسار توزيع الأدوار في معالجة مظاهر الفساد والتحولات الطارئة على مستوى الفكر والواقع وحالة الانفصام واللاتواؤم في التفكير بين جيل قديم يحمل عبء ماض منكوب لايزال يقيم إقامة إجبارية في وعي الإنسان وبين جيل جديد بعقليات أخرى وثقافات أخرى، الحوار التالي بين الصحفية المتدربة الحديثة صوفيا الطوسي ومدربها الصحفي المتمرس القديم الأستاذ عبد الغني الضعيف يجسد سمات هذه الحالة بنقاشاتها الفكرية وتغيراتها الاجتماعية، نقتطف منه ما يلي: « – أتدري ما هي مشكلة جيلكم أستاذي؟. وانطلقت لتشرِّح بتساؤلها جثة جيل بأكمله: – حاصرتم أنفسكم لفترة طويلة جدا داخل سياج من الشعارات والأحلام والأوهام شب خلالها العالم عن طوق أفكاركم، اِنفجرت داخله رؤى مغايرة، رؤى رباعية الأبعاد تُمكن من النظر من كل الجهات لتكتمل الصورة دون أدنى التباس وأنتم مع ذلك لا تزالون للأسف تصرون على تلك النظرة الضيقة التي تحشرون العين فيها بزاوية رؤية واحدة، وحيدة، ترعون بتفانٍ فكر القبيلة، تحرثون في أرضها البور وتنظرون إلى السماء مترقبين الغيث، المطر أصبح يُصنَّع أستاذي والعالم قفَز إلى كواكب أخرى وأنتم مصرون على البقاء في وضع النعامة المريح، هذا التيه الذي يؤرجحكم بين زمني الشعارات والمبادئ والقيم وبين ما فرضه عليكم واقع لم تنجحوا سوى في مسايرته منصاعين حتى لا أقول منبطحين، تقتنصون الفرص وتركبون الظرف بعد أن خلت الساحة من أباطرة الحلم الذين باعوكم أوهام البطولة والحرية وقبضوا الثمن، سيزوفرينيا حادة يعاني منها جيل بأكمله بين ما هو عليه في الحقيقة وبين ما يسوٍّقه عن نفسه من بطولات وهمية. (…). – لا تتسرعي في الحكم على جيل بأكمله، لا تملكين ما يكفي من معطيات، ما ذكرته ليس كل الحقيقة، ماذا تعرفين أنت عن المعاناة، عن الفقر، عن الحرمان، عن الظلم، عن القمع، عن الحاجة. تتحدثين كمُنظرة كبيرة، يا صغيرتي، وكل تجاربك في الحياة لم تتجاوز عتبة رغباتك المستجابه». 170-171. إضافة إلى ذلك نجد جملة من المتناظرات النصية التي تؤطر عوالم الرواية، والمصاحبة لسيرورة زمنها السردي الممتد من سنة 1981 إلى أواخر شهر يناير 2006، والتي تبصم على ذلك الصراع الأنطولوجي الأبدي بين القديم والجديد، بين المثقف الديني والمثقف الدنيوي، بين البداوة والحداثة التي يعيشها الكائن بالتوازي وفي آن واحد دون أن تكون له أهلية الإنسجام الطبيعي مع إكراهات التحديث. نقرأ في الصفحة 54 «التكنولوجيا الحديثة لم تضع في حسبانها كل هذه البلادة التي لاتزال نسب الأمية فيها تحرج ضمير الغائب». إن البنيات النصية تأسست على تفعيل العنصر القيمي بموازاة مع محاولات تكسير حاجز الصمت والخوف وتقبُّل الموجود على ماهو عليه بما يجعل كل شيء في النص موحيا ومؤشرا بوعي مقصود، ليس الخيال المجنح وحده ما يتصرف في التَّشكُّل القيمي للنص ويجعله مقبولا، بل بما يمكن أن نسميه الخيال الخلاّق الذي يشعرك بالتماهي مع السرد. هكذا يستطيع القارئ أن يكتشف فنية العمل المتسمة بالنزوع إلى الواقعية تارة وإلى التفكيكية تارة أخرى دون أن يفقد تصاعدية الخط الزمني الذي يعتبره بعض النقاد جمودا متجاوزا في الرواية الحديثة لأنه مرتبط بقوانين وقوالب وتقنيات سرد غير قابلة للتطور. 4 – قفلة أخيرة على سبيل القطيعة : هكذا، وعبر تموجات الرواية استطاعت الروائية سلمى مختار أمانة الله أن تستدعي خريطة متنوعة من المُدخلات التي ساهمت في إثراء مساحة النص باللجوء إلى القصص وإلى الأمثلة والحالات الخاصة، واليومي والصيغ الواقعية وحوارات الشخصيات الثانوية والشعور الذاتي والمقولات والأشعار، وإشراكها في الخط الزمني المتصل بالحدث والخروج به من حدود معطياته الواقعية العادية إلى أبعاد ثقافية شيدت وعيَ الشخصيات داخل بناء الرواية كوعي ممنوع من منظور الآخَر الراغب في احتكار السلطة والوعي والمصير. كما اقترحت الرواية نهاية مأساوية لعلاقات الذات في وضعية أزمة بكل علاقاتها الاجتماعية والإنسانية والمكانية السابقة بما يشبه القطيعة النهائية، وبداية علاقة قرابة مع سلطة أقوى (حاكمة) في إطار البحث عن التميز. اجتماعيا، تضعنا قطيعة العربي الطوسي بعلاقاته الأولى وانخراطه في أخرى كحدث سردي أمام نوعية الفلسفة التي باتت توجه الاجتماع الإنساني. الدافع موجود وحتمية التحول ضرورية؛ الحظوة والاحتفاء من جهة ولي النعمة بالعربي، واحتضانه كإنسان يحس بمأساة، تضعه في وضعية شخص محسود من قبل رفقاء الإبداع القدامى من شعراء ومثقفين، وبالتالي الشعور بالقطيعة واللاعودة حتى مع المكان أيضا، إذ لم يعد هناك مكان/وطن يشد الإنسان في وضعية أزمة إليه بحنين،»فقد قطع حبله السري مع الأماكن» ص16، مع وجود «زهايمر جماعي ضرب الكل وجعل من مول الشكارة المالك الوحيد لكل تلك الأزمنة المتعاقبة، يمحو بمعول المال الشرس كل ذكرى ويخفف عن الأماكن عبء تاريخها المثقل بالأحاسيس الفائرة»( ص49). فتحقيق الذات في هذه الحالة هو في الاحتماء بعلاقات أخرى والإنتماء لأماكن أخرى توفر للكائن الجو الملائم للعيش والارتقاء في درجات السلم الاجتماعي، بل إن تحقيق النجاحات المادية كفيل بتغيير مجموعة من القناعات، التي كانت تبدو نوعا من البديهيات، وفق ما تفرضه مكتسبات اللحظة، وكفيل بإسقاط الذات إلى وضعية الإنصهار والتماهي بالمتسلط، ومن ثم تصبح كينونة الكائن ووجودُه مرتبطين بكينونة الآخر القوي، ولعلنا نجد إضاءة نصية في نهاية الرواية تشير إلى هذا الإندماج والتماهي السلبي من خلال مقولة طبيب ولي النعمة، الفرنسي الرسام، الذي نفّذ الأمر ببتر ثديي زوجة العربي الطوسي: «بعد وفاة ولي النعمة لم يعد لي مقام في بلد هتكتُ فيه إنسانيتي». ص199. لينتهي مصير علاقات الشخوص والأماكن، وقيم الانتماء، والهوية، والوعي السياسي، إلى الموت الرمزي، والخوف، والصمت الاجتماعي الأبدي، ومظاهر التمزق واللاَّارتباط. هذا الموقف لم تصرح به الرواية لكن باستطاعة القارئ أن يستنتج النهاية الحتمية لعلاقات مجتمع تخيم عليه أجواء التسلط والاستبداد واحتكار الوعي.