حاول تحدي ظروف الحياة القاسية التي عاشها في كنف والدته فقط، إذ راوده طموح كبير وهو يشق مشواره التعليمي في تحقيق نجاح دراسي يجعل منه موظفا أو عاملا خاصا براتب شهري يفتح أمامه باب سعادة الحياة على مصراعيه ويعوضه عن سنين الشقاء التي عانى خلالها من وطأة الحاجة عليه وعلى والدته، إلا أنه ما فتئ أن تبدد طموحه وهو في المرحلة الابتدائية من مساره التعليمي، إذ توالت سنوات إخفاقه قبل أن يقوده إحساسه إلى ضرورة بناء مستقبله بعيدا عن المدرسة، حيث انخرط في سوق الشغل كصبي خياط في ورشة تقليدية. قضى سنوات من عمره «يخلّف» للخياط وعينه على يديه اللتين تخيطان أطراف الأثواب بسرعة متناهية، قبل أن يجرؤ على مسك الإبرة بين أنامله الصغيرة للقيام بالعمل ذاته، وهو الأمر الذي تطلب منه وقتا غير يسير كي يصبح خياطا ماهرا يبدع في حياكة الجلابيب. صارت الخياطة إذن مصدر عيشه ووالدته، إلا أن تراجع الإقبال على ارتداء الجلابيب التقليدية جعل مدخوله يعود القهقرى يوما بعد آخر، ما زج به في يم الحيرة حول الأزمة التي اشتد طوقها عليه، إذ صار كثير التفكير حد الشرود في مخرج منها قبل أن يوقعه شيطانه في شر أعماله حين وسوس له بولوج عالم السرقة، ليجد نفسه خلف أسوار السجن في مناسبتين اثنتين. لم يكترث -على حد قوله أمام الضابط- للأزمة التي صارت تطوقه من كل جانب، حين فكر ذات يوم في أن يتزوج لإنجاب أطفال يكسر شغبهم الجميل هدوء البيت الذي يؤويه رفقة والدته، فاختار إحدى الفتيات كي تكون شريكة له في الحياة، إذ سرعان ما حققت أمنيته وقد رزق منها بطفلة نالت كبير اهتمامه وهو الذي لم يعد يطيق على فراقها صبرا، إلا أنه ما لبث أن عكرت المشاكل صفو حياته الزوجية ليصير كثير الخصام مع زوجته قبل أن ينتهي بهما المطاف إلى الطلاق لتعيش صغيرته حياة لم تختلف كثيرا عن تلك التي عاشها أيام طفولته. عاد الرجل ليعيش سنوات أخرى من حياته وحيدا رفقة والدته التي أخذ منها المشيب مأخذه، قبل أن يفكر ثانية في الزواج وكله أمل في أن يظفر بذات صبر تشاركه الحياة بحلوها ومرها، لاسيما بعد أن شرع يتحدث إليه أحد أصدقائه ذات جلسة جمعتهما عن وجود فتاة تنحدر من إحدى القرى المجاورة، ترغب هي الأخرى في الزواج والعيش في كنف رجل دون أن يكون لها من الشروط ما يجعل الأمر عسيرا أمامه. رافق ووالدته صديقه إلى بيت الفتاة وقد صمم العزم على إجراء مراسيم الخطبة، حيث حظي بترحاب مبالغ فيه من قبل أصهاره الذين باركوا هذه الخطوة وكلهم أمل في أن يؤلف الحب بين الطرفين، إلا أنه سرعان ما عدل الرجل عن فكرة الزواج وهو يشق طريق عودته إلى المدينة إذ لم تستطع الفتاة أن تنال من إعجابه الشيء الكثير. وما هي إلا أياما معدودات حتى فوجئ بزيارة بعض أصهاره له وقد أبدوا نوعا من الإصرار على إتمام الزواج ضدا على رغبته التي اتخذ عدم قدرته المادية مبررا لها، ليتم عقد قرانه عليها في حفل زفاف تقليدي حضره الأهل والأحباب. انتقلت الزوجة للعيش رفقة زوجها وحماتها، فبدت سعيدة كما هو حال النسوة حديثات الزواج، قبل أن تتغير أحواله حيث صار حاد المزاج لا يطيق لها رؤية، ما جعل جبال الجليد تعلو بينهما في كل آن وحين دون سابق إشعار، فلا تذوب إلا بعد أن ترسل عليها والدته أشعة دافئة بتدخلاتها الحكيمة لرأب الصدع وإعادة المياه إلى مجاريها. تعاقبت الشهور متوالية وحدة الخلاف قد زادت وتيرتها، ما حول الحياة بين الزوجين إلى جحيم لا يطاق، دون أن يتراءى لأحدهما شعلة أمل في المقبل من الأيام، مما جعله أكثر إلحاحا عليها في فض الوثاق الشرعي الذي يؤلف بينهما، إذ أضحى يطالبها بمرافقته إلى المحكمة قصد التنازل عن كافة مستحقاتها المترتبة عن ذلك، وهو ما رفضته جملة وتفصيلا، لتصير الحياة بينهما على درجة كبيرة من الاستحالة. تلاشت حبال الود بين الزوجين، وصار الحديث بينهما مفعما بعبارات اللوم والعتاب، بل وهجر كلاهما فراش الآخر إذ صار لكل منهما غرفة نومه الخاصة التي يتحاشى الآخر ولوجها، قبل أن تنشب بينهما مشاداة كلامية ذات يوم حالت حدتها دون الانصياع لتدخل الأم التي عجزت عن إرجاع الأمور إلى طبيعتها المتسمة بالهدوء، ما جعله يغادر المنزل وهو تائه لا يلوي على شيء. كانت عقارب الساعة قد دقت معلنة منتصف ليل ذاك اليوم الأسود حين تلمس خطواته نحو البيت بعد رحلة تيه غير قصيرة بين دروب المدينة، خلد للنوم بغرفة غير تلك التي نامت على فراشها زوجته دون أن يغمض له طرف، إذ تشتت أفكاره إلى كل الزوايا في محاولة لإيجاد مخرج من زواجه الذي لم يجن منه غير النكد، قبل أن توسوس له نفسه سوءا حين أمرته بالإجهاز عليها للتخلص من عنادها وسوء معاملتها له ولوالدته. أخد التردد منه مأخذه طيلة ليلة كاملة، حتى إذا ما أعلن المؤذن موعد صلاة الفجر انتفض قائما من سريره وتسلل إلى الغرفة، حيث تغط فتيحة في نومها العميق، فاستل سكينا من دولابه الخشبي، وسدد لها طعنة على مستوى العنق أطلقت على إثرها صرخة مدوية وصل صداها إلى مسامع حماتها التي هرولت مسرعة نحوها وقد ألم بها ضرب من الدهشة، سرعان ما تخلصت منه وهي ترمي بابنها بعيدا للحيلولة دون أن يوجه لزوجته مزيدا من الطعنات. وما إن تمكنت من فض الخلاف بينهما حتى شرعت الأم توجه اللوم له قبل أن تأمره بضرورة تسليم نفسه لمصالح الأمن، حيث رافقته دورية من عناصر الضابطة القضائية إلى منزله لتجد زوجته طريحة الأرض والدماء تغمر جسدها، حيث أشرفت على نقلها صوب المستشفى لتلقي العلاجات الضرورية، قبل أن تقود زوجها نحو «الكوميسارية» إذ اعترف بما اقترفت يداه في حق شريكة حياته. وبعد إحالته على المحكمة، قضت المحكمة في حقه بالسجن 30 سنة مع تعويض مدني وغرامة نافذة.