امرأة في الثمانين من العمر ... لم تستطع أن تنال منها الشيخوخة ولا المرض ... صوت قوي لا يعرف الانخفاض ...وثقة كاملة بالنفس وحب كبير للذات . امرأة أمية من أصول قروية قد لا تجيد شيئا في الحياة ، لكنها تعرف كل ما له علاقة بالسنتيم . ابتداء من أسعار سوق الخضروات واللحوم والأسماك ، ومرورا بأسعار الأورو والدولار والذهب ، إلى سعر طن الحديد والإسمنت . امرأة أمضت حياتها في الادخار ... لم يكن الأكل الجيد يوما من همومها ولا الفرش ولا اللباس ولا أعمال البيت ... هدفها في الحياة كان محددا، وطريقها إليه كان واضحا، وكانت ماضية في تحقيقه لا يحد من عزيمتها أحد ، وسياستها في ذلك أذن من طين وأخرى من عجين . لها خمسة أبناء من الذكور واثنتان من الإناث ... لم تعلمهم في الحياة شيئا مثلما علمتهم قيمة السنتيم . ألقت بالذكور في الأعمال الشاقة في سن مبكرة وكانت هي من تجني أموال تعبهم ، أما كبرى البنات فكانت هي من تتحمل مسؤولية البيت من غسيل أو عجين أو طبخ أو تنظيف أو ترتيب . وكانت الصغرى نسخة مصغرة من الأم ؛ نفس الشخصية القيادية ، ونفس الثقة بالنفس ، ونفس الإصرار والنفس الطويل في تحقيق الهدف . مع اعتبار فرق التعليم واعتبار كونها الوحيدة التي نفذت من الفقر الذي عاشه باقي إخوتها . والقيمة في البيت دائما كانت لمن يكسب أكثر ويصرف أكثر . الأبناء السبعة لم يتعلموا شيئا في الحياة سوى العمل إلى درجة أن السبعة قد فشلوا في حياتهم كأزواج وزوجات .والشكوى المنبعثة من زوجي البنتين هي نفسها الشكوى المنبعثة من زوجات الأبناء الخمسة وهي القسوة وتحجر القلب والمشاعر . وشكوى الزوجات لم تكن لتغير شيئا في حياة هؤلاء الأبناء . وحتى إذا ما فلحت إحداهن في إضفاء شيء من الحياة على عواطف زوجها المتحجرة كانت تلك المرأة العجوز كفيلة بأن تطفىء فتيلها . فمازالت هذه المرأة تتحكم في حياتهم وتحدد لهم أولوياتهم وهم ينفذون تنفيذ العسكري المطيع الذي لا يناقش الأوامر . وبسبب هذه المرأة كانت تلك الزوجات تعيش وسط ظلمة وضيق ووحشة كما القبر بعيون نساء أحياء شبه أموات ترقب الحياة من بعيد ... نساء سيطر عليهن اليأس وودعهن الأمل ، فأصبحن مجرد أجساد لأرواح معذبة فقدت معنى لذة العيش حتى بات كل شيء في حياتهن رتابة قاتلة ترسمها حركات وواجبات يومية متكررة يؤدينها بميكانيكية آلة دقيقة تنقصها الروح ... نساء انحبست أصواتهن في الحناجر وتحولت إلى انكسار وذل يطوقهن من كل جانب ... نساء بعيون فقدت بريق الأمل في الحياة ، ووجوه باهتة تنقصها نضارة الأنوثة ، وشعور مهملة بعيدة عن كل عناية ، وأجسام مترهلة ذابلة تكسوها ملابس بدون خطوط أو ألوان أو تفانين قد ترسمها يد امرأة . ومن بين تلك النساء الأحياء الشبه أموات ، كانت هنالك امرأة كما الدجاجة المذبوحة الميتة لا محالة تنتفض وتعافر وتكابر معلنة تعلقها الشديد بالحياة . حاولت أن تجد الحياة في تغييرها المستمر لفرش البيت ، في زيارة الصديقات وحضورحفلات السبوع والأعراس ، في الماكياج الفاقع والعطور النفاذة ، وفي صبغات الشعر وقصاته المختلفة ... في ارتياد محلات خياطي الملابس التقليدية والقيساريات والأسواق ... ولم تكن تنسى في كل خرجة إلى السوق أن تعرج إلى محلات الملابس الداخلية وقمصان النوم النسائية لتختار منها موديلات وأشكالا غير خالية من الإغراء تكدسها في خزانة ملابسها وتتفقدها كل يوم متحسرة على أنوثتها الضائعة لاعنة اليوم الذي ربطت فيه نفسها بهكذا نوع من الرجال لا يحركه دفء عواطف زوجة محبة ولا حتى رغبات زوج مشروعة . لكن كل تلك المحاولات لم تكن لتملأ الفراغ الكبير الذي تركه الزوج ولا لتطفىء مرارة الحسرة على شباب وعمر يمر سريعا بدون رفيق يجعل لحياتها معنى وروحا . ولقد كانت هذه المرأة أكثر زوجات الأبناء الخمسة اصطداما بالمرأة العجوز . وكانتا في حرب ضروس طويلة الأمد كما حرب داحس والغبراء لا غالب فيها و لا مغلوب ... والأولى تعتبر حماتها المسؤولة عن تعاستها والثانية تعتبر كنتها امرأة مبذرة لتعب ومجهود السنين . ومن بين تلك النساء الأحياء الشبه أموات كانت هنالك امرأة أخرى مختلفة عن صورة تلك التي سبقتها . امرأة في منتصف الثلاثينات من العمر... إنسانة خجولة هادئة رقيقة مرهفة الأحاسيس والمشاعر . تنحدر من أسرة مثقفة يلعب الكتاب دورا كبيرا في حياتها ... والداها مدرسان للغة الفرنسية .. مدرسان واعيان بدورهما التربوي وحريصان على تطبيق كل أسس التربية الحديثة في بيتهما قبل تطبيقها على الأجيال التي كانا يدرسانها . انتقلت هذه المرأة من ذلك الوسط النقي إلى وسط الزوج الذي تطغى عليه ثقافة السوق لتصطدم بأنواع من البشر لم تكن تعلم أن لمثلها وجود في المجتمع ... أناس لا يعرفون مواعيد للنوم ولا للأكل ولا للراحة ... لا يعرفون معنى للنظام ولا للبرمجة ... و لا يعيرون أي اهتمام للآخر ... ولا ... ولا ... قاموسهم اليومي مشكل من أقذر عبارات السوق ... ولا يكادون يفقهون شيئا عن المبادىء والأخلاق ... أناس تسيطر عليهم كل أنواع الأمراض النفسية ما بين كذب وزيف وحقد و..... أحست أنه لا يوجد أي شيء يربطها بهذه الأسرة التي كرهتها حتى في أدق تفاصيلها المتمثلة في طريقة الأكل والشرب واللباس والمزاح ... حتى زوجها كرهته أشد الكره . وكانت الهوة بينها وبينه تزداد كل يوم إلى أن لم يعد يربط بينهما شيء سوى الأبناء . وكانت تجربة زواجها الفاشلة بكل المقاييس قد أنهت أحلامها الوردية وجعلتها تعترف أخيرا بما حاول والداها أن يفهماها إياه عندما أصرت على الارتباط بزوجها حول ضرورة التكافؤ الفكري والاجتماعي والمادي في الزواج . اتجهت هذه المرأة المفرنسة التي أمضت كل مراحلها الدراسية بمدارس البعثة الفرنسية ،وسط معاناتها وآلامها ،إلى الصلاة والقرآن الكريم تتعثر في قراءته لتزداد علاقتها به يوما بعد يوم وتتطور إلى دراسة قواعد اللغة العربية وليصبح القرآن صديقها الوحيد تقرأه كلما ضاق صدرها . ثم التجأت بعد ذلك لمتابعة القنوات الفضائية الدينية الشرقية إلى درجة الإدمان واكتشفت معها لأول مرة ما كانت تجهله عن الثقافة العربية الإسلامية التي كانت دائما تشدها رغم سنوات الدراسة الجامعية التي قضتها بفرنسا وسنوات الدراسة الابتدائية والاعدادية التي قضتها بمدارس البعثة الفرنسية . تركت بعد ذلك الجينز و التيشرت البسيط والحذاء الرياضي المريح لترتدي بدل ذلك جلبابا شبيها بنوعية الجلابيب التي كانت ترتديها حماتها البعيدة عن كل ما تعرفه الصناعة التقليدية المغربية من تطويع لمجاراة خطوط الموضة العالمية . وغطت شعرها الناعم الطويل .. وودعت شواطىء المحيط ومياهه الباردة التي كانت تربطها بها علاقة تمتد جذورها إلى مرحلة الطفولة السعيدة التي قضتها في كنف والديها اللذان غمراها طيلة حياتها بكل عناية و حب وحنان . لكنها كانت في كل مرة تنزع فيها حجابها أمام المرآة ، تتذكر أنها امرأة و تتذكر حاجتها الملحة إلى رجل غير ذاك الذي جمعتها به الأقدار ، فتضحك بينها وبين نفسها ضحكة مريرة وتعد نفسها بمن هو أحسن منه في الجنة ، ثم تضحك مرة ثانية متسائلة عما يصبرها إلى أن تلاقي ذلك الرجل في الجنة .!!! كان والدها جد متألم لحالها ... أحب قراءتها للقرآن وصوتها الذي لا يخلو من نبرة حزن وهي تجوده بإتقان كبير للأحكام ، لكنه لم يكن مرتاحا لإدمانها تلك القنوات التي كان يعتبرها ذات توجهات إيديولوجية شرقية لا تقل خطورة عن الإيديولوجيات الغربية . وبمهنة المربي التي كانت جزءا من شخصيته كان حائرا قلقا بشأن مصير أحفاده ، ولم تكن كل النظريات التي درسها في علم النفس أو التربية ، أو علم الاجتماع خلال مشوار تجربته الطويلة في التدريس لتمنحه حلا لمشكلة ابنته وأحفاده الذين كان بقلب الأب قبل المربي يرفض لهم أن يعيشوا بعيدا عن والدهم كلما فكرت ابنته في الانفصال . وأمام كل ضحايا الحاجة من أبناء يحملون معهم مختلف الأمراض النفسية التي تسبب فيها الحرمان الذي عاشوه في سبيل تحقيق أحلام أمهم المريضة في الثراء ... وكنات أحياء شبه أموات ... وأحفاد ضحايا لأسر ينقصها الحب .كانت الحاجة لا تكف عن أن تحكي بكل زهو وفخر قصة كفاحها في تعليم أبنائها الخمسة الرجولة . وللرجولة عند الحاجة مفهوم خاص . فالرجولة عندها هي أن تعرف كيف تتحمل أي إهانة في سبيل السنتيم ... وأن تجيد ( سبع صنايع من غير ما يكون الرزق ضايع ) ... ولا بأس إن فقدت في سبيل ذلك كرامتك لأن الكرامة عند الحاجة لا تساوي شيئا في غياب السنتيم ... والأهم من هذا وذاك هو كيف تحافظ على هذا السنتيم من الضياع وتنميه وتحوله إلى أرصدة سمينة في البنك . أن يكون أبناؤها مرتاحين جسديا أو نفسيا أو أن يكونوا أزواجا سعداء أو آباء محبوبين لم يكن ذلك بالأمر الذي يشغل بالها . من الأكيد أنها أحبتهم لكن حبها كان حبا شاذا مختلفا عن حب الأمهات . والغريب في الأمر أنه رغم كل هذه القسوة التي كانت تعاملهم بها هذه الأم إلا أن حب هؤلاء الأبناء واحترامهم لها كان فريدا من نوعه قليلا ما نجد له مثيلا عند أبناء منحهم آباؤهم كل الرعاية والحنان ووفروا لهم كل سبل الحياة الكريمة . حجت هذه المرأة واعتمرت مرات كثيرة ، وكان يحلو لها أن تتباهى بذلك ولقب الحاجة عندها لقب من ألقاب الوجاهة الاجتماعية التي سعت إليها كما سعت إلى الثراء طيلة حياتها . لقد كان الثراء عند هذه المرأة هدفا بحد ذاته ولم يكن قط وسيلة للنهل من مباهج الحياة .وحتى بعد أن حققت هدفها لم تستطع أن تتخلص من داء الادخار ... فمازالت تفرح لدعوة توجه إليها من هذه العائلة أو تلك توفر عليها مصاريف وجبة غذاء أو عشاء تعدها في البيت !!! ومازلت تجد تحت سريرها شايا وسكرا وزيتا ... وربما حتى موزا أو تفاحا تخفيه حتى لا تمتد إليه يد مبذرة لا تعرف قيمة النعمة كما تعرفها هي !!! وما زلت تجد في ثلاجتها لحما مخزنا من عيد الأضحى الماضي الذي مر عليه نصف السنة !!! ومهما حاول الأحفاد أن يغيروا منها إلا أنها ترفض أي تغيير . فهي لا ولن ترضى بغير السنتيم شعارا . وقصتها معه قديمة جديدة لا يعرفها أحد سواها ولن تستطيع أن تنسها إياها السنين !!!