استطاعت سارة التي احترفت الدعارة أن توقع بأحد “الزماكرية” في شراك حبها، بل وقادها ذكاؤها إلى وضع أصفاد الزواج بين يديه طمعا منها في الهجرة إلى الضفة الأخرى، غير أنها سرعان ما انكشف سرها بعدما توصلت حماتها إلى حقيقة حياتها عن طريق الصدفة، لتقرر انتشال ابنها من زواج اعتبرته مجرد حيلة انطلت عليه، حيث اختفى من حياة سارة و قد تركها “معلقة”. تعد سارة الفتاة الوحيدة بين إخوانها الذكور الذين تجرعت رفقتهم مرارة الفقر في ظل كنف والد عاطل عن العمل، حيث كان بالكاد يوفر لهم قوت يومهم الذي لا يعدو أن يكون مجرد كسرات خبز حافية و كؤوس شاي من شانها أن تضع حدا لصفير أمعائهم الذي يرتفع كلما استبد بهم الجوع. نشأت سارة وسط أسرة تتقاسم غرفة واحدة وسط منزل صفيحي بأحد الأحياء الهامشية التي تشكل حزام الفقر بالنسبة للمدينة، إلا أنها ما إن شرعت تشب عن الطوق حتى باتت تفكر في طريقة للتخلص من جحيم العيش الذي ألم بها منذ نعومة أظافرها. اختارت الفتاة أيسر سبل تحصيل المال لمواجهة شظف العيش ومتطلبات الحياة اليومية، وقد زاد من تسهيل مأموريتها في ولوج عالم الدعارة وامتهانها لأقدم حرفة في التاريخ، صفات الجمال التي حباها الله بها، إذ كانت تبدو فارعة الطول بخصلات شعر أشقر وبشرة متميزة البياض، ما جعلها محط إقبال العديد من عشاق اللذة العابرة، سيما إذا تعلق الأمر بانتهالها من جسد أنثوي لم تكد صاحبته تتجاوز سن ال 16 من عمرها. في الملهى الليلي أضحت سارة ترتاد مقاهي “الشيشا” والملاهي الليلية للإيقاع بأكبر عدد من الزبناء، في أفق تحصيل مبالغ مالية ضخمة تساعدها على تلبية حاجياتها وحاجيات أفراد عائلتها، التي باتت أكثر ارتفاعا من ذي قبل، إلا أنها ما فتئت أن تحولت –في أعقاب اكتسابها لأبجديات الحرفة- إلى فتاة متمرسة تختار زبناءها ممن يغدقون عليها بسخاء. ذات صيف حار وبينما الفتاة قد انزوت إلى طاولة موضوعة بركن قصي من أحد الملاهي الليلية، التي دأبت على ارتيادها، تداعب وحيدة قارورة مشروب غازي، إذا بصوت رجولي يكسر هدوء وحدتها معلنا عن رغبته في مشاركتها خلوة الطاولة، أشارت إليه بالجلوس من خلال حركة غيرت تقاسيم وجهها من العبوس إلى الابتسامة، دون أن تنبس ببنت شفة. خِبرة سارة جعلتها في منأى عن كل أشكال الذهول والتساؤل حول غاية الفتى من الجلوس إلى جانبها، فقد كانت على درجة كبيرة من اليقين أنه صيد ثمين قد وقع في شراكها، إلا أنها طبعت تصرفاتها بنوع من التريث حتى يخرج عن صمته ويبوح بما يختلج بدواخله تجاهها. وماهي إلا لحظات حتى كسّر الشاب حالة الصمت المريب التي خيّمت على جلستهما منذ أن سحب الكرسي وجلس إلى جانب سارة، إذ حاول التعبير عن إعجابه بجمالها ورزانتها، التي بدت من خلال اختيارها الجلوس وحيدة دونما أنيس في مكان لا مجال فيه إلا للأنس والمجون، فاكتشفت و هو يحاول تصفيف كلماته التي تبعثرت ما بين العربية والفرنسية، بأنه أحد أفراد الجالية المقيمة بالخارج الذين يحلون بوطنهم الأصلي كلما حلّ فصل الصيف، من أجل قضاء عطلتهم السنوية بين الأهل و الأحباب. “زماكري” في مصيدة سارة الحِنكة وحدها قادت سارة إلى أن الفتى “الزماكري” قد وقع في حبها منذ أول نظرة، فقد كانت كلماته التي تنحبس حروفها بمخارج صوته من فرط الخجل توحي بذلك، لتطلق العنان لخيالها المحموم من أجل رسم العديد من اللوحات الوردية لمستقبل حياتها وحياة أسرتها الصغيرة. تقمصت إذن شخصية الفتاة الوديعة العفيفة التي قادها القلق والتعب النفسي نحو الملهى ذاته من أجل الترويح عن النفس، والهروب من ضغط الزمن القاسي، فرفضت أن تنصاع لرغبة الفتى في مشاركته رقصة قصيرة كعربون عن انطلاق علاقتهما، بدعوى أن أخلاقها وطِباع أسرتها المحافظة يمنعانها من ذلك. ازداد تعلق الفتى الذي يعيش حياة الانفتاح بالديار الفرنسية بسارة جراء موقفها الذي قلّما أصبح يتوفر لدى قريناتها من فتيات هذا العصر، بل و زاد احترامه لها حين استأذنته في فضّ الجلسة التي ألّفت بينهما قبل أن يحين منتصف الليل، بدعوى أنها ترغب في العودة إلى المنزل، وقد أصرت ألا تستجيب لطلبه بإيصالها عبر سيارته الفارهة نحو بيت عائلتها. صار “الزماكري” كالمجنون وقد بدا له أن سارة ستخرج من حياته كما ولجتها دون سابق إشعار بسرعة البرق، خاصة وأنها تحفظت عن منحه رقم هاتفها النقال مدعية أنها لم تجرؤ على تسليمه إلا لأفراد عائلتها وصديقاتها من بنات “الليسي” خشية أن يتسبب لها ذلك في مشاكل عائلية، لتتفتق عبقريته على فكرة قادته إلى تسليمها هاتفه المحمول ظنا منه بأن ذلك سيجنبها أي صِدام محتمل مع والديها وإخوانها، ما اضطر الفتاة –بعد نقاش طويل توصلت من خلاله إلى انغماس صنارة الحب في حلق الشاب- إلى تسليمه الرقم الهاتفي مع تحديد موعد للاتصال ستتخذ أثناءه كافة الترتيبات التي من شأنها أن تجنبها بعض المشاكل العائلية المرتبطة بالاتصالات الهاتفية. ذكاء يحرِّكه الطمع ظل الفتى يترقب بفارغ الصبر حلول الموعد المحدد في اليوم الموالي، إذ بادر إلى تركيب رقم هاتف سارة إلا أن الأخير ظل يرن دون مجيب، لتتوالى اتصالاته الهاتفية التي لقيت ذات المصير، وهو الأمر الذي تعمدته الفتاة من أجل الإيقاع أكثر ب”الزماكري” الذي بات بالنسبة إليها مجرد طوق نجاة سيقيها وأفراد عائلتها مزيدا من ذل الحاجة و الفقر. لم ييأس الشاب المهاجر من عدم رد سارة على الهاتف فظل يعاود كرّة الاتصال لتجيبه بعد طول انتظار، حيث تنفس الصعداء و صار كطائر يحلق بجناحيه في سماء الأحلام، سيما بعدما ضربت له موعدا للقاء مساء ذات اليوم. ما إن أنهيا المكالمة الهاتفية حتى أطلقت سارة العنان لتفكيرها يخطط في طريقة تضع من خلالها أصفاد الزواج بين يدي “الزماكري”، وهو المخطط الذي نفذته بإتقان قبل أن ينقلب وبالا عليها. “زواج المصلحة” قررت سارة أن تجالس الفتى “الزماكري” بإحدى المقاهي “المحترمة” التي يقصدها العشاق، فأخبرته بأنها تنحدر من أسرة محافظة، تعيش حياة البساطة وسط حي صفيحي، وأن كرامتها واحترامها لأفراد عائلتها يمنعانها من ربط أي علاقة خارج إطارها الشرعي، قبل أن تخبره بلغة أكثر صرامة “إلا كاين شي معقول مرحبا.. أما التفليا ما عندي ما ندير بها”. تردد صدى كلمات سارة في أذني الفتى لمرات ومرات قبل أن يجد نفسه مضطرا لقبول عرضها، تلبية لعاطفة الحب التي طرقت باب قلبه منذ أول وهلة، فأبدى لها استعداده للقيام بخطبتها، وعقد قرانه عليها دفعة واحدة بعد أن ينتزع موافقة والديه. تكررت اللقاءات بين الطرفين في انتظار استكمال الترتيبات المتعلقة بالخطبة والزفاف، وماهي إلا أيام معدودات حتى أضحت سارة زوجة ل”الزماكري” فزادت آمالها في الهجرة إلى الضفة الأخرى، ومعها آمال إخوانها الذكور، الذين تلقوا منها وعودا بمساعدتهم على الهجرة إلى فرنسا فور سفرها إليها، الذي لم يعد بالنسبة لها غير مسألة وقت تتطلب قيام زوجها ببعض الإجراءات القانونية هناك. قضت سارة أياما جميلة رفقة زوجها “الزماكري” قبل أن يعود و أسرته إلى الديار الفرنسية، عقب انتهاء فترة عطلته السنوية، فتواصلت الاتصالات الهاتفية بينهما إذ ظل يخبرها بين الفينة والأخرى، بأن الإجراءات الإدارية المتعلقة بسفرها إلى فرنسا قد قطعت أشواطا كبيرة قبل أن تنقطع الاتصالات ذاتها، بقرار من والدة الفتى التي توصلت عن طريق الصدفة إلى أن ابنها قد وقع ضحية سارة التي تقضي لياليها في الملاهي، وبين أحضان عشاق اللذة الجنسية لتصير الفتاة في نظر صديقاتها “الزماكري خلاها معلقة ما مزوجة ما مطلقة”... عبدالفتاح زغادي