كل من يدرس هويّة أولائك المثقفين الإسرائليين الذين يتبنّون مؤخّرا الهويّة اليهودية- العربية، ويجوز لنا أن نطلق عليهم اسم اليهود العرب الجدد (Neo Arab Jews)، سيرى أن فكرة بلورة هذه الهويّة، وأحيانا خلقها من العدم، نشأت من خلال استبعاد أحد أهم مكوّنات تلك الهويّة على مرّ الأجيال، أعني اللغة العربية. إن نشطاء الهويّة اليهودية- العربية الجدد ليس لهم أية صلة مباشرة بالثقافة العربية؛ بل لا يتقن معظمهم العربية الفصحى، وليس بوسعه التعرّف مباشرة على الكنوز الحضارية العربية. فعلى سبيل المثال، ينحدر الشاعر سامي شالوم شيتريت (المولود عام 1960) من أصول عربية مغربية، لكنه يعجز عن التعبير عن ذاته بالعربية. وهو لا يجد أية غضاضة في القول علانية: "أنا يهودي- عربي !"، كما يعتبر الهويّة الصهيونية هويّة فُرضت عليه في طفولته وحرمته من هوّيته العربية الأصلية. فلقد نشر نصّا بالعبرية بعنوان: "من هو اليهودي وأي نوع من اليهودي"، يتضمّن حوارا خياليا بين المتكلّم وصديقة أميركية تستفسر عن هويّته وتسأله إن كان عربيا أم يهوديا ؟ فيجيب "أنا يهودي- عربي". فتقول له: "لم أسمع بمثل هذا الشيء". يحاول أن يقنعها بأن بوسع المرء تصوّر هويّة يهودية - عربية إسوة بالهويّة اليهودية- الأميركية أو اليهودية- الألمانية أو اليهودية-الإنجليزية: - المقارنة مستحيلة، فاليهودي الأوروبي شيء آخر. - كيف ذلك ؟ - لأن مصطلح "يهودي" لا ينسجم مع مصطلح "عربي"، ذلك لا ينسجم مطلقا، بل إنه نشاز. - ذلك لا يعتمد إلا على أذنك. - أنا لا أحمل أية ضغينة ضد العرب، بل إن لديّ بعض الأصدقاء العرب. لكن كيف يسعك أن تقول "يهودي- عربي" في حين يريد العرب تحطيم إسرائيل ؟ - ولكن كيف يمكن أن تقولي يهودي أوروبي في حين كان الأوروبيون قد حطّموا فعلا اليهود ؟" نرى في هذا النصّ تصويرا رائعا للتراتبية الحضارية المتمحورة حول أوروبا (Eurocentrism) التي يجري في أجوائها الجدل حول الهويّة اليهودية- العربية. بيد أنه يصوّر، في الوقت ذاته، الفرق بين "سياسة الهويّة" (politics of identity) وبين ما يمكنني أن أسمّيه "سياسة الهويّة المتفرّدة" (politics of singularity) وعملية، التي جرى أو يجري في كلتا الحالتين، بناء وصياغة الهويّة اليهودية- العربية. وفي اعتقادي أن تصريحات مثل "أنا يهودي عربي!" لم يتمّ التفوّه بها إلا في العصر الحديث وفي سياقات محدّدة فقط. فقد أمكننا ملاحظتهما خلال العقود السابقة، لكن السياق كان يقوم دائما على الاختلاف والسلبية. والحقيقة أن مثل هذه التصريحات أطلقها أشخاص كانوا يرزحون تحت حالة تهميش، أو صدرت عنهم في حالة احتجاج ضد هيمنة سياسة، اجتماعية أو ثقافية. وهي بشكل عام جزء من "سياسة المقاومة" (politics of resentment) أو لعبة الأقنعة (game of masks) على المسرح السياسي الإسرائيلي المحلّي. إن "سياسة الهويّة المتفرّدة"، من وجهة نظري، أنجع وأنجح بكثير في إيضاح ماحدث في العشرينات ببغداد على سبيل المثال، يومها عبر المثقّفون اليهود الشباب عن انتمائهم للوطن العراقي وللثقافة العربية، ليس من باب محاربة جهة أخرى، بل من باب الإيجابية البحتة، وهو ما لايحدث ولا يمكن أن يحدث اليوم بسبب سياسة التهميش، الاستثناء والإقصاء التي تمارسها الصهيونية. ربيع بغداد لم يكن ربيع بغداد في عشرينات القرن العشرين قصيرا كربيع براغ في ستينات القرن نفسه، لكنه كان قاصرا، لسوء الحظ، عن خلق نقطة انطلاق لمستقبل يختلف عن ذلك الذي مرّت به منطقة الشرق الأوسط في السنوات اللاحقة. لو نجحت بغداد ذلك الزمان أن تورث لأهالي الشرق الأوسط، على جميع مذاهبهم، تلك القيم الحضارية والإنسانية التي تشكّل منها ربيعها المشرق، لكان تاريخ هذه المنطقة اليوم محفوفا بالرفاهية والازدهار، بعيدا عما جرّبه أهاليها من ويلات الحروب والضغينة المتبادلة طيلة معظم عقود القرن الماضي. كانت هذه، في اعتقادي، إحدى أعظم الفرص التي تم تفويتها في تاريخ هذا الجزء من العالم. لقد تمتّع يهود بغداد، مثلهم مثل سكانها الآخرين، بثمار هذا الربيع الذي بدأ بعد تأسيس الدولة العراقية، وكان لديهم الكثير من الأسباب التي حذت بهم إلى الاعتقاد بأن المجتمع المحلي المحيط بهم، وفي مقدّمته الملك فيصل (1883 - 1933)، كان يروم دمجهم التامّ بكل ما أوتي من قوة. قبل وصوله إلى العراق، ألقى الأمير فيصل خطابا أمام النادي العربي بحلب في 9 حزيزان 1919 قال فيه: "نحن عرب قبل موسى ومحمد وعيسى وإبراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرّقنا الموت". وبعد وصوله إلى بغداد، وقبل تتويجه ملكا على العراق، خاطب في الثامن عشر من شهر تموز/ يوليو 1921، زعماء الطائفة اليهودية قائلا: "لا شيء في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي وإسرائيلي، بل هناك شيء يقال له العراق... إنني أطالب من أبناء وطني العراقيين أن لا يكونوا إلاّ عراقيين، لأننا نرجع إلى أرومة واحدة ودوحة واحدة هي دوحة جدّنا سام، وكلنا منسوبون إلى العنصر السامي، ولا فرق في ذلك بين المسلم والمسيحي واليهودي... وليس لنا اليوم إلا واسطة القومية القويّة التأثير". كما أكد وقتذاك ساطع الحصري (1880 - 1968)، المدير العام للتربية والتعليم في العراق، بين 1923 - 1927، أن "كلّ من يتكلم العربية هو عربي". هذه التصريحات من قبل القائمين على العراق الحديث مهّدت الطريق أمام تأسيس مجتمع متعدّد الثقافات، منفتح على جميع الطوائف والملل، دُعي للانضمام إليه السكّان من المنحدرات المختلفة. وبُنيت هويّة من قرّر الانضمام إلى ذلك الوطن على الإيجابية والشعور بالانتماء أكثر مما بُنيت على السلبية والاختلاف. وقد أسهمت التصريحات أعلاه في تقوية نسيج ذلك المجتمع وبلورة هويّته العراقية العربية المتفرّدة، إذ أن هناك رابطة ضرورية بين فنّ الخطابة والهويّة، فليس سؤال "الواحد والكثرة"، الذي تستند الهويّة في جوهرها إليه، من اهتمامات الفلسفة فحسب؛ وإنما يقف في صميم فنّ الخطابة أيضا، وهو في أساسه يتّصل بقدرة المتحدّث أو الكاتب على إشراك الآخرين وجذبهم، وفرض تأثيره عليهم. فمهمة الخطيب، كما يقول كينيث برك (Kenneth Burke)، في كتابه المعنون"بلاغة الحوافز" (A Rhetoric of Motives)، هي استثمار هذه الموهبة عن وعي بهدف خلق مجتمع يشعر أفراده بالانتماء إليه. فالخطيب يبعث الوجود في جمهوره، وينسج مجتمعا من المستمعين إليه، ويحضّهم على تمييز أنفسهم عن الآخرين بجمع صفوفهم وتوجيههم إلى غاية مشتركة. ولقد رأينا تجسيدا رائعا لمثل هذه الطريقة في "نسج مجتمع من المستمعين" في الانتخابات الأميركية الأخيرة التي خاضها باراك أوباما (Barack Obama) مستخدما قدرته الباهرة في جذب الأمريكيين وبلورة هويّة تستمدّ حيويتها من الموارد التاريخية واللغوية والثقافية الأمريكية في عملية صيرورة أكثر منها عملية وجود: ليس "من نحن ؟" أو "من أين ننحدر ؟"، وإنما في الغالب "ما الذي سنصير عليه ؟" و"ما هو الدرب عليه نحن سائرون نحو المستقبل ؟". وإذا عدنا إلى كلّ أولئك الذين انضمّوا إلى المجتمع العراقي الجديد في عشرينات القرن الماضي، وعبّروا عن رغبتهم في المشاركة في بنائه، نستطيع فهم التغيير الكبير الذي حدث في حياة المثقّفين والكتّاب اليهود العلمانيين الشباب الذين سيشتهرون لاحقا كعلامات مضيئة في الأدب العراقي. وكان هذا التحوّل حاسما لأنه شمل هويّات متفرّدة مختلفة، ولم يكن مشروطا بالتخلّي عن الأطر الفردانية الأخرى سواء كانت دينية، اثنية أو احترافية وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، نشر الكاتب العراقي الكلداني يوسف رزق الله غنيمة (1885 - 1950) في مطلع عام 1924 كتابا بعنوان: "نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق" (عن مطبعة الفرات ببغداد). حيث لاحظ غنيمة، في معرض وصفه للطبقات الاجتماعية والمهنية للطائفة اليهودية، أن يهود العراق يمارسون كافة المهن: "إلاّ أنك لا تجد بينهم من حملة الأقلام وأصحاب المجلاّت والجرائد. وسبب ذلك أن اليهودي يرمي إلى ما به نفعه، وسوق التأليف والكتابة كاسدة في ديارنا، فإنهم في هذا الباب يتبعون المثل اللاتيني القائل »عش أوّلا ثمّ تفلسف«". ولكن بعد ثلاثة أشهر فقط من صدور كتاب غنيمة، وفي العاشر من شهر نيسان/ أبريل 1924 بالضبط، صدر العدد الأول من مجلة "المصباح" العربية. وكان صاحبها ورئيس تحريرها ومعظم كتابها من اليهود. وكان هدف هذه المجلة أن تكون جزءا من الثقافة العراقية العربية ومن تيار الصحافة العربية السائد، دون أن تكون لها أيّة غاية يهودية ضيّقة على الإطلاق، ولا سيّما في الأشهر الأولى من إصدارها. وجسَّد صدور "المصباح" التحوّل العظيم الذي طرأ على الحياة الثقافية لأبناء الطائفة اليهودية التي بدأ أعضاؤها المثقّفون الشباب يعتبرون أنفسهم جزءا من الأمّة العراقية- العربية الجديدة وطبقتها المثقّفة. وبوسعي أن أقول، مستخدما مفردات غنيمة، أن اليهود بدأوا يتحدّثون آنذاك في "القضايا الفلسفية"، وبالذات حول الأشياء ذات الاستقلالية النسبية عن الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي غالبا ما تتجسّد بأشكال جمالية كانت المتعة واحدة من أهمّ مبادئها. ومنذ البداية تأثّر المثقفون اليهود العراقيون الشباب بالرؤية الثقافية التي كان "الدين لله والوطن للجميع" شعارا لها. هذا الشعار، الذي كان أوّل من تفوّه به، حسب معلوماتنا، هو المثقّف القبطي توفيق دوس أمام المؤتمر القبطي بأسيوط عام 1911، مستمدّ أساسا من الترجمة العربية لأنجيل مرقص 12، 17: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". ونجد شبيهه في شعار المثقّفين اللبنانيين-السوريين المسيحيين في القرن التاسع عشر "حبّ الوطن من الإيمان". وقد تبنّته أيضا مجلّة "الجنان"، أول نشرة دورية عربية عمومية تأسّست ببيروت عام 1870 من قبل بطرس البستاني (1819 - 1883) وصدرت حتى عام 1886؛ وحرّرت أيضا من قبل نجله سليم البستاني (1848 - 1884). ووفقا لهذا الشعار عبّرت المجلّة من خلال أعدادها عن الحاجة الملحّة لاستبدال الرابطة الدينية بالرابطة القومية. ولقد تبنّى يهود العراق، الذين استلهموا موقف المثقّفين المسيحيين المارّ ذكرهم، شعار "الدين لله، والوطن للجميع"، كما حفزتهم الآيات القرآنية التي تدعو للتسامح الديني والتعدّدية الثقافية مثل »لا إكراه في الدين« (البقرة 256) و »لكم دينكم ولي ديني« (الكافرون 6). واصطفّت نخبتهم، وخاصة المثقّفون العلمانيون الشباب، ضمن الجهود المبذولة لجعل العراق دولة قومية حديثة تتعامل مع كلّ مواطنيها من المسلمين الشيعة والسنة، والأكراد، والتركمان، والآشوريين والأرمن المسيحيين، واليزيديين واليهود، على قدم المساواة. أما أحلام وآمال الصهاينة الأوروبيين الخاصّة بتأسيس دولة يهودية قومية في فلسطين، حسب وعد بلفور من عام 1917، فكانت أمرا غير مرغوب به تماما في صفوف معظم يهود العراق. ولم يكن بوسعنا العثور على أية وثائق تاريخية تعكس تحمّسا لتطبيق هذا الوعد في صفوف يهود العراق في عشرينات القرن العشرين يقابل تحمّسهم للاندماج في المجتمع العراقي العربي. يكفي بنا أن نقتبس ممّا كتبه أرنولد تالبوت ويلسون (Arnold Talbot Wilson)، المفوّض المدني المؤقت في بلاد الرافدين في الفترة ما بين 1918 و 1920، في سجّلاته عن تلك الفترة: "ناقشت وعد بلفور وقتذاك مع العديد من أعضاء الطائفة اليهودية الذين كنّا على وفاق معهم. علّقوا بالقول إن فلسطين بلد فقير، والقدس مدينة غير صالحة للسكن. وبلاد الرافدين جنّة مقارنة بفلسطين. قال أحدهم: العراق جنّة عدن ومن هذا البلد طرد آدم - أعطونا حكومة جيّدة وسنجعل البلد يزدهر - وادي الرافدين وطننا؛ وطن قومي سيفرح يهود بومباي وفارس وتركيا بالقدوم إليه ! تتوفّر هنا الحرّية والفرصة ! قد تتوفّر في فلسطين الحرّية، ولكن لن تتوفّر فيها الفرصة". وقال التربوي والصحفي اليهودي عزرا حداد (1900 - 1972) في أواخر الثلاثينات: "نحن عرب قبل أن نكون يهودا". كما كتب الأديب يعقوب بلبول (1920 - 2004): "لا يتوقّع الشاب اليهودي في البلدان العربية من الصهيونية غير الاستعمار والهيمنة". عاش معظم السكّان اليهود العراقيينببغداد واحتلّوا معظم الأعمال في الخدمات المدنية تحت حكم البريطانيين والحقبة الملكية المبكّرة. ويقول نسيم رجوان إنه "يمكن أن يقول المرء بكل ثقة إن بغداد كانت يهودية في النصف الأول من القرن العشرين، كما كان يقال إن نيويورك مدينة يهودية". كان الأفق الحقيقي ليهود العراق، على الأقلّ من وجهة نظر النخبة المثقّفة، عراقيا وعربيا. لقد جمعت مظلّة العروبة العراقية جميع أبناء المجتمع المحلّي على مختلف دياناتهم. ويقول داود صيماح بهذا الصدد: "لم يطلق يهود العراق على العراقيين من غير اليهود تسمية "عرب"، وإنما استخدموا مفردات "مسلم" و"مسيحي" وحينما كانوا يتكلّمون عن "عرب" فالمعني في أذهانهم كان "البدو" فقط. إذا عدنا إلى "المصباح" فنرى أن رئيس التحرير أنور شاؤل، كان يكتب تحت الاسم المستعار "ابن السموأل"، إشارة إلى الشاعر اليهودي الجاهلي السموأل بن عادياء، الذي يضرب به المثل بالوفاء. لقد رفض السموأل، هكذا تسرد الروايات العربية القديمة، تسليم أسلحة عُهد بها إليه، وبالتالي فقد شهد مصرع ولده على يدي شيخ القبيلة البدوي الذي فرض حصارا على قصره كي يجبره على تسليم الأسلحة التي تركت بحوزته. وبفضل ذلك خُّلد السموأل في ذاكرة التاريخ بالقول "أوفى من السموأل". ويعكس قرار شاؤل استخدام هذا الاسم المستعار موقفه العراقي- العربي الذي كان، من منظاره، الموقف الأنسب لانبثاق الأمّة العراقية. وتصوّر قصيدة شاؤل "الربيع"، التي نشرت في العدد الأول من "المصباح"، الأمل بحقبة جديدة من الوحدة القومية بعيدا كل البعد عن الانتهازية أو التعصّب الديني. وقال شاؤل في مقدّمته للقصيدة: استيقظوا، استيقظوا أيّها الكتّاب والشعراء، فلقد وافى الربيع سيّد الزمان طلق المحيّا باسم الثغر، وقد ضحكت الطبيعة لبني البشر بعدما أخافتهم بشتائها المرعب انظروا إلى الحقول والمروج، والحدائق والرياض فلقد اكتست ثيابها السندسية الزاهية واستنشقوا أريج الزهور وطيب عرفها الفائح بين الخمائل والأنهار واسمعوا البلابل والطيور مرحّبة بالربيع المحبوب بتغاريدها المشجّية فوق أفانين الأشجار، وأنتم أنتم أيّها الكتّاب والشعراء ما لي أراكم في سكوت عميق ألستم بلابل الأدب فعلامَ لا ترحبّون بشباب الطبيعة النضر، علامَ لا تؤهّلون بروضة الحياة اليانعة علامَ لا تحيّون الربيع ؟ وفيما يلي الأبيات الخمسة الأولى من قصيدته: وافى الربيع تحفّه الأزهار فشدت مرحبّة به الأطيار وقف الهزار لديه يخطب بكرة وخطيب هاتيك الرياض هزار فانهض سميري كي نزور جنينة إن الجنان لفي الربيع تزار ودع الهموم وخلّني عن ذكرها فالأنس بان وزالت الأكدار وأدر لنا وسط الرياض مدامة حيث الندامى الطير والأشجار. ويحمل البيت الخامس أعلاه علاقة تحاورية مع الميمية الصوفية الشهيرة لعمر بن الفارض (1181 - 1234): أدر ذكر من أهوى ولو بملام فإن أحاديث الحبيب مدامي ويختم شاؤل القصيدة كالآتي: خير المناظر في الربيع حديقة في وصفها تتناشد الأشعار الربيع المحبوب، التي ترحّب به البلابل والطيور بتغاريدها المشجّية فوق أفانين الأشجار، هو ربيع الأمّة العراقية العربية، وخير المناظر في هذا الربيع هو الحديقة الوطنية التي تتناشد في وصفها الأشعار. لقد أعلن أنور شاؤل من خلال قوله هذه القصيدة انضمامه إلى الوطن العراقي وإلى أمّته العربية انطلاقا من الفردانية الخاصّة به واندفاعه الشخصي المحض إلا أنه لم يصرّح آنذاك: "أنا يهودي- عربي !" أو "أنا يهودي- عراقي !"، لأن الأمر بدا بديهيا له كما كان كذلك بالنسبة لزملائه المثقّفين العراقيين الآخرين من غير اليهود. ولقد عثرت، ودون أي جهد خاص، على نصوص تتناول ذلك الربيع ببغداد في عشرينات القرن الماضي بقلم السني معروف الرصافي (1875 - 1945) والشيعي محمد مهدي الجواهري (1899 - 1997) والكردي جميل صدقي الزهاوي (1863-1936) والمسيحي يوسف رزق الله غنيمة (1885 - 1950). لا أحد منهم تباهى بأنه عربي أو عراقي، إذ كان ذلك بديهيا كما كان بديهيا بالنسبة لأنور شاؤل - كان انتماؤهم جميعا يستند إلى كون كلّ منهم جزءا من الأمّة العراقية وكانت لغته الأمّ هي العربية وكان مستقرّه الأوحد هو الوطن العراقي، ولم يكن للاختلاف في الدين أية أهمية إذ أن الإيمان الديني، في المنظور السائد في تلك الفترة، كان أمرا بين الفرد وخالقه: "الدين لله، والوطن للجميع". اليهود الألمان واليهود العرب اتخذت تحقيقاتي حول الهويّة اليهودية- العربية منحى جديدا حين كنت عضوا في معهد الدراسات العالية في برلين (Wissenschaftskolleg zu Berlin) في السنة الأكاديمية 2004- 2005. فبعد زيارة للمتحف اليهودي ببرلين لاحظت بنية الهويّة القابلة للمقارنة من خلال رصد ظاهرتين فريدتين في الحياة اليهودية الحديثة، وأعني اليهود الناطقين بالألمانية واليهود الناطقين بالعربية. فاليهود العراقيون، وخاصة في بغداد، خلال النصف الأول من القرن العشرين، لم يكونوا مختلفين من حيث صلتهم بالمجتمع المحيط بهم وتعاملهم معه عن يهود الطبقة الوسطى في ألمانيا، أو في المناطق الأوروبية الأخرى، التي شعر فيها اليهود أنهم ألمان أو أوروبيون أكثر من شعورهم بأنفسهم كيهود، مغلّبين هويّتهم القومية المحلّية والثقافية على هويّتهم الدينية. وحينما بدأت دراسة هذا التشابه، فكّرت فقط بظاهرتين مماثلتين جوهريا في بقعتين مختلفتين من العالم، لكنني اكتشفت بالتدريج منظومة متشابكة من العلاقات بين اليهود العراقيين والأوروبيين تمتدّ إلى منتصف القرن التاسع عشر. وهاكم بعض الأمثلة: 1. نشط يهود بغداد كمراسلين وممثّلين للصحف اليهودية الأوروبية الناطقة بالعبرية مثل هاماجيد (Ha-Maggid)، التي تعتبر أول صحيفة عبرية تأسّست في أوروبا. 2. دأب اليهود العراقيون الميسورو الحال على إرسال أبنائهم لتلقّي التعليم في المؤسّسات الأوروبية. وكمثال على ذلك فقد درس ساسون حسقيل أفندي (1860- 1932) علوم الاستشراق في فيينا، حيث كان العديد من اليهود يتحدّثون الألمانية الفصحى، اتخذوا أسماء ألمانية، وصاروا يرتدون الملابس ويتصرّفون كالنمساويين والألمان. وعثرت على مقابلة معه أجرتها صحيفة "هاعولم" (Ha-?Olam) العبرية في فيينا يوم العاشر من مارس 1909. وعبّر ساسون أفندي، أحد ممثّلي بغداد وقتذاك في البرلمان العثماني، في تلك المقابلة عن وجهات نظر ألهمتها الأفكار التي كانت سائدة في صفوف اليهود الأوروبيين. وهنا اقتباس منها: "يريد السيد ساسون أن يندمج في المجتمع العراقي، ولأنه لا يرى أي أفق إيجابي يمكن أن يوحّد اليهود، غير الدين، فإنه قد يرضى بالذوبان مع العرب داخل المجتمع العراقي". ولقد احتلّ ساسون أفندي لاحقا منصب وزير المالية في عدة وزارات عراقية تشكّلت في عشرينات القرن العشرين. 3. ونعرف أيضا عن مهاجرين يهود أوروبيين وصلوا إلى بغداد حاملين بشرى التنوير والعلمانية. ويمكننا أن نذكر، على سبيل المثال، ياكوب أوبرماير (Jacob Obermeyer) (1845- 1935)، الذي عاش في بغداد بين عامي 1869- 1880، وحاول بمجهوداته الإصلاحية تحديث الأطر الدينية للجالية اليهودية المحلية. 4. هناك أيضا العلاقات العائلية: على سبيل المثال، انحدر الموسيقار العراقي يوسف حوريش من نسل عائلة أوروبية هاجرت إلى البصرة. أما جَّد أنور شاؤل فكان أحد المهاجرين اليهود من النمسا إلى بغداد في أواسط القرن التاسع عشر. وأنصح كل من يودّ تقصّي تاريخ هؤلاء المهاجرين بقراءة الرواية التاريخية "الساعاتي" (Der Uhrmacher) للكاتبة بربارا تاوفر (Barbara Taufar) المنشورة عام 2001. وسأختم هذه العجالة بما أشارت إليه المفكّرة اليهودية- الألمانية حنا أريندت (Hannah Arendt) (1906- 1975) من حيث مصير الهويّة اليهودية- الألمانية والذي يمكن أن يلقي الضوء على الهويّة اليهودية- العربية ويوضّح العلاقة الجدلية بيم الظاهرتين الفريدتين. لقد بدأت أريندت بكتابة سيرة حياة امرأة يهودية، هي راشيل ليفن فارنهاغين (Rahel Levin Varnhagen)، في أواخر العشرينات من القرن العشرين ببرلين، إلا أنها اضطرّت للهروب من ألمانيا عام 1933 وأكملت كتابها بباريس. ولم ينشر الكتاب حتى عام 1957، برعاية معهد ليو بيك (Leo Baeck Institute) وبترجمة انجليزية. كتبت أريندت في مقدّمة الكتاب: "إن اليهود الألمان وتاريخهم عبارة عن ظاهرة فريدة بحدّ ذاتها؛ لا وجود لشيء مماثل لها حتى في الأماكن الأخرى التي شهدت اندماج اليهود في مجتمع غير يهودي. والتحقيق في هذه الظاهرة، التي تجد تعبيرها، ضمن أشياء أخرى، في ثروة وموهبة أدبية إبداعية علمية وفكرية مدهشة، هي مهمّة تاريخية من الطراز الأول، لايمكن بالطبع التصدّي لها إلا الآن، بعد أن وصل تاريخ اليهود الألمان إلى نهايته". الآن، وبعد أكثر من خمسين سنة، بإمكاننا قراءة الفقرة ذاتها ثانية، مع تغيير كلمة واحدة تكرّرت مرتين: " إن اليهود العرب وتاريخهم عبارة عن ظاهرة فريدة بحدّ ذاتها؛ لا وجود لشيء مماثل لها حتى في الأماكن الأخرى التي شهدت اندماج اليهود في مجتمع غير يهودي. والتحقيق في هذه الظاهرة، التي تجد تعبيرها، ضمن أشياء أخرى، في ثروة وموهبة أدبية إبداعية علمية وفكرية مدهشة، هي مهمّة تاريخية من الطراز الأول، لايمكن بالطبع التصدّي لها إلا الآن، بعد أن وصل تاريخ اليهود العرب إلى نهايته" ./ . عن موقع «قنطرة»