إلى هشام بهلول الصامد أتذكر ذلك الأربعاء جيدا. الأربعاء 2014/12/17 أذكره جيدا، بعدها مرضت كنت أمشي في شارع محمد الخامس صباحا عندما نزل النعي صاعقا: مات محمد بسطاوي. قل أسلم الروح وغادرنا وحل عنا وحمل معه كل شيء إلا هو لأنه سيظل فينا. لم أصدق ولا أتذكر من قال ذلك لي إلا لماما. طيف أقبل من الصمت وأخبرني. خرجت من صمت إلى صمت. خرجت إلى صمت أقسى. إلى صمت أقصى وكما هي الرباط دائما، بالنسبة إلي، منذ عقدين على الأقل، تحول كل شيء إلى خلاء، إلى صحراء قاحلة السي محمد كان عزيزا لدي وعلي. كنت أشم فيه قسما كبيرا من عبق الحياة و من نثار الزمن المضيء. ومن يتهاوى بالتدريج ولا يترك لك سوى فسحة عابرة من الظل والضوء والنشوة المباحة. فجأة، قبل متم الساعة العاشرة صباحا تحولت الرباط في رمشة وقت، الى أطلال خلت من الناس حولي فتهمت وتاهت نفسي معي كما تاهت صورة محمد، أناقته، ضحكته، قفشاته الموزعة عندما كنت أقاسمه لحظات منفلتة في »»المثلث الأحمر»« وكانت ابنتي (شذا) في بداية عقدها الثاني، ترافقني أحيانا فتتملاه وتفتخر أن لأبيها صديقا من طينة هذا البدوي العميق الذي يحمل بين يديه كل طيبة ا لعالم وهو يرشف قهوته غير عابئ بما يمضي إلا على صهوة قلق دفين في غور نفس أبية على السقوط في التفاصيل الرديئة ياللزمن، يالأزمنة الفقدان! نفس الزمن يلح علي كلما و دعت صديقا، أخا، مثل السي محمد ولا أجرؤ على الشهادة في حقه: إنني أخشى البياض كما أخشى السواد، المنطقة المزروعة بينهما. أخشى الألم والفجيعة، وأخشى أن يغيب من أحبهم وأحس بينهم بأنني كائن يمشي على الأرض وهو يشق عباب الحياة بلاضجر أوسأم، لأني في حضرتهم أتهجى قوة الأشياء رغم هشاشتها. أتهجى صلابة ما يكمن فينا من صلابة رغم كل معادلات الإغراء التي تقتل فينا رحابة اكتشاف ما حولنا وتجعلنا مجرد كائنات هلامية تمضي الى حتفها دون أن تصنع شيئا بيديها وكلماتها: السي محمد كان صانعا، صنع حياته وصقل شخصيته ونحت الهالة التي كانت ترافقه. كان مبدعا أصيلا في أدواره ومجازاته واستعاراته، في كلامه أصلا، وحتى في جلساته معنا عندما كنت، في رفقته محمد خيي، هنا وهناك، تقتطف بعض المساحة كي نغيب في الضحك وفي استدراك بعض المعرفة بعيدا عن مؤامرة الارتجال والتيه واللامعنى. آخر مرة التقيت فيها مع صانع الحياة السي محمد كانت ذات رمضان قبل منتصف النهار في بداية شارع علال بن عبد الله، في جنوبه الغربي، شماله ربما، الخرائط تلتبس علي في هذه المدينة العصية. تحدثنا قليلا، ثم ذهب كل منا إلى حال، إلى حال سبيله، إلى حاله، والحال هنا، في «»حالة«« السي محمد، أشبه ما تكون بحال المتصوف التي كانت تأخذ بتلابيبه كلما دخل في شطحات نص يقرأه أو سيناريو أو مسرحية أو مسلسل تلفزي، عندما كان السي محمد يغرق في قراءة ما يلتزم به كان يغيب، أتصور ذلك، عن كلما يحيط به إلا عن سعاد وعن أسامة وعن هاشم وعن فاطمة الزهراء، أعني عن التزامات البيت وعن الدراسة وعن عمق الاواصر الاسرية التي كان يجسدها، مثل صديقيه في الروح، محمد خيي ومحمد الشوبي، في أنبل صورها التي ترتبط بعدة زيجات في الوسط الفني والابداعي. الابناء، الزوجة بالخصوص، هو كل شيء خاصة بالنسبة الى من يقدر فعلا حكمة «وراء كل عظيم امرأة». لم لانقول معه امرأة، مثل سعاد؟ السي محمد رجل عظيم، وسعاد النجار، صبرها الله والملائكة، امرأة عظيمة. أستحضرها الآن وأستحضر معها الصغيرة فاطمة الزهراء وأقول لهما، كما أقول لأسامة وهاشم، صبرا: لقد ترك لكم الفقيد كنزا غاليا هو النبل والكرامة والشهامة وعزة النفس والصدق والعمق والوفاء والتواضع والوفاء والبساطة والابداع، ولن تكفيني الاوراق والاقلام كلها لأستوفي ما خلفه لنا السي محمد جميعا ما راكمه من خصال وشيم تؤكد مدى ما يتركه العظماء عندما يرحلون من مأثرات خالدة في سجل كتاب مفتوح هو كتاب الابداع المغربي في الكتابة والفكر والمسرح والسينما والتشكيل والموسيقى والغناء. أذكر أحمد المجاطي كما أذكر محمد الخمار الكنوني، وأذكر محمد زفزاف ومعه شكري ومحمد عابد الجابري. أذكر عبد الكبير الخطيبي كما اذكر سالم يفوت وأذكر محمد الحبشي ومحمد مجد، أذكر محمد القاسمي، وميلود لبيض ومحمد شبعة وفريد بلكاهية، أذكر عبد السلام عامر، وعبد القادر راشدي ومحمد الحياني. أتذكر الكثير والكثيرات ولن أنسى أحمد الطيب العلج و محمد سعيد عفيفي. زخم من الاسماء والعلامات الذين صنعوا صنعت لنا لنا هوامشنا ومتخيلاتنا التي رافقتنا وترافقنا -نرافقهم الى أن نرحل بدورنا ويظل المغرب مسكونا بآثارهم وبصماتهم، فهم الذاكرة وهم الحياة وهم المدى. السيد محمد بسطاوي أراك طيرا محلقا في الأعالي أراك جيلا. أراك بحرا. أراك سهلا. أراك اسدا. أراك غابة. أراك بحرا، أراك واحة، أراك نهرا، أراك شمعة في ليل الرباط، أراك مشعلا، أراك بحارا تسوق سفينتنا وتخشى علينا الجوع والغرق و البرد. أراك تعود الى بيتك في سلا يدفعك الحنين الى خبز وسمك سعاد والى ضحكة فاطمة الزهراء. أراك محملا ببعض الفواكه والعسل والحليب كي يلتئم الجمع حول المائدة. أراك هنا وهناك. أراك في كل مكان. بكائي على صاحب ما ت(هل ينفع الدمع؟)/ او صورة لانتصاري/ وطفلا عثرت عليه يفتش عن أمه / فأطعمته جوع قلبي / وآويت غربته / وقررت ان أختم الموت بالحب أو بالغناء (م. علي شمس الدين، نقطة من دم المحارب الحزين، غيم لاحلام الملك المخلوع) دار ابن خلدون، بيروت 1977 ص 46 ) السيد محمد انا لا أرثيك، أنا أقيم مع سعاد وأسامة وهاشم وفاطمة الزهراء، مع محمد خيي ومحمد الشوبي وبنعيسى الجراري، مع أصدقائك ومحبيك وأهلك في خريبكة، طقسا من طقوس الرحيل، لا أعدد مناقبك، أنت أكبر من أن يتمكن أحد مثلي أن يطاولك ويصل الى فنن ما صنعته بنفسك وبيديك، بعصاميتك ومجهودك منذ ان شاهدتك على الخشبة تقطر عرقا وأريجا لتتحول الى كائن محلق في عالم نراه ولا نراه الا بعد الرجفة التي تسكننا عندما نغادر فضاء العرض ونتساءل: هل كان محمد حقا هو محمد الذي نعرفه من لحم ودم أم كان محمدا آخر؟ طوبى لك يا محمد! طوبى للذين عرفوك وأحبوك وهاهم الآن يحيون على ذكراك! لقد شكّلت، أنت ومحمد خيي ومحمد الشوبي وبنعيسى الجيراري، نموذجا جديدا لمدرسة مغربية جديدة، أو لاتجاه أو تيار في الممارسة الفنية المشهدية على الخشبة في السينما، كما في التلفزيون .عاصرتم جيلا وجاء بعدكم جيل. وبصمتم جميعا زمنكم، لكنكم أنتم الأربعة وجدتم الطريق لسل الشعرة. وجدتم الطريقة، الطريقة أفضل من الطريق، لأن الطريق يكون سهلا، ربما، بينما الطريقة أصعب. هناك من يحسن تفادي الشوك عندما يمشي في طريق، لكن أن يجد المرء طريقة فهذا ليس في مكنة أي كان، أنتم الأربعة ومعكم قلة قليلة، منهم هشام بهلول، تجنبتم الزيف والتشدق والمقايضة فملأتم قلوب الناس، لذلك أتألم، السي محمد، أبقاك الله وشما في صدورنا، أتألم لفقدانك، أتألم لأم سعاد وأسامة وفاطمة الزهراء الصغيرة، أتألم لألم خيي والشوبي والجيراري وبهلول، لألم أهلك وذويك ومحبيك وأصدقائك، أتألم وأناأستحضرك وأستعيدشرف اللقاء بك غير مدة على إيقاع شربة شاي وعلى صخب الضحك في »»المثلث الأحمر«« وسواه، المقهى الذي جمعنا واندثر. السي محمد، في الحقيقة ما شبعناش منك، أنا، أعوذ بالله من قول أنا، كنت أريد أن أعرف عن سفرك إلى إيطاليا مثلا أو عماعشته قبل »»مسرح اليوم»« و»»مسرح الشمس»«، عن هجرتك إلى السينما وإلى التلفزيون. كنت أيضا أحلم بيوم أقتنص فيه لحظة ما لأستدرجك إلى حوار مطول حول المسرح وحول تقنيات الممثل وحول التراجيديا والكوميديا، لكن الأيام لم تسمح باللقاء ثم إنك كنت قليل الكلام لأنك، كما كنت دائما تؤمن بالعمل، أما التنظير فتتركه للذين يقولون أكثر مما يفعلون. وأتذكر كيف أنك يوما تمنعت، أو منعت على نفسك، أن تكون في لجنة قراءة نصوص مسرحية كلفت بها في إطار جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب. لم تمانع لكنك تهيبت. أخذت مني النصوص وقرأتها وقلت لي، بعد أيام ما عندي مانكول، هي نصوص تستحق كلها الجائزة، يكفي أن تكتب وتقرأ، الكتابة حاجة كبيرة«. هكذا كنت كبيرا، كنت كبيرا وستظل كبيرا. هكذا كنت بليغا وستظل بليغا. عمت مساء حيث أنت السي محمد وعزائي الدائم، الى السيدة سعاد وإلى ابنيك أسامة وهاشم وإلى الصغيرة فاطمة الزهراء، إلى محمد خيي ومحمد الشوبي وبنعيسى الجيراري، إلى كل الأطباء والممرضين الذين أحاطوك بالرعاية والعلاج، إلى الذين صلوا عليك وحملوا نعشك ودفنوك. إنا لله وإنا إليه راجعون.