على الساعة الرابعة بعد الزوال، يوم الاحتفاء بمسرح الشمس، استقلت سيارة أجرة للوصول إلى الموعد مع الصديقين أشفري وعنيبة الحمري لإعداد قاعة المطعم التي تحتضن التكريم. وأنا داخل الطاكسي، وصلتني مكالمة هاتفية من الصديق الفكاهي محمد عاطر ليسألني عن برنامج الأمسية، فكان جوابي مختصرا: سنجتمع في المطعم المعلوم، وسنحتفي بيوسف فاضل ورباعتو.. سيكون حاضرا محمد بسطاوي وخيي والشوبي والجيراري، فمرحبا بك بيننا، سيكون عدد الحاضرين كثيرا. وضعت الهاتف في الجيب، وبعد أمتار معدودة يخاطبي السائق بسؤال وهو يبحث عن المفردات: - اسمح ليا أستاذ، سمعتك تكلمت على بسطاوي، فين غايكون؟ كاينة شي مسرحية ديالو؟ شرحت له مغزى اللقاء بإيجازفتنفس الصعداء قائلا: عزيز علي بسطاوي، وماكرهتش نشوفو ونتصور معاه. رحبت به: على الساعة الفلانية بالمعطم الفلاني... وصلنا المكان وبإلحاح كبير قبل مني تأدية مبلغ الرحلة... بعد أربع ساعات تقريبا، والمعطم مملوء عن آخره بالضيوف الفنانين والأدباء والأصدقاء، يقتحم المكان رجل يقصدني شخصيا وهو يبتسم: -السلام أستاذ! لا أكتم سرا إن قلت إنني لم أتعرف عليه منذ النظرة الأولى، لكنه خاطبني بصوت منخفض: -أنا مول الطاكسي اللي جبتك! قلت: أهلا ومرحبا.. تركزت عيناه على محمد بسطاوي الجالس في الركن... طلبت من الفنان أن يقف، وقدمته إلى الرجل دون أن أعرف اسمه: - هذا مول الطاكسي، بغى يشوفك... بابتسامته المعهودة، صافح البسطاوي الرجل، تحدثا هنيهة، ثم طلب مني الأخير أخذ صور تذكارية له مع بسطاوي، ثم خيي، ثم الشوبي، ثم البخاري، ثم رفيق بوبكر. ثم الوزاني، وأخيرا عاجل... بعدها عبر عن فرحته وابتهاجه ليغادر القاعة بهدوء قائلا: ما عمرني ننسى هاد الليلة وخا مراتي ما غتصدقش.. ولكن، التصاور كاينين... وباعتباري أحد المتتبعين لتجربة الفرقة، بفعل صداقتي لبعض أعضائها لما كنت آنذاك طالبا بالمعهد، أذكر بكل إعجاب وتقدير مدى الحماس والالتزام والتفاني الذي ساد بين تلك المجموعة المتكونة من خيرة رجال الخشبة آنذاك... كما أذكر شمولية التجربة وعمق الانصهار الذي كانت تتمسك به بين المسرح وباقي الأجناس الإبداعية الأخرى. فبعد أن خاض كل أعضائها مسارا حافلا خاصا بكل واحد منهم على حدة، جمعهم حلم المسرح من جديد من أجل الدخول في تجربة مغايرة وأصيلة. فهذا يوسف فاضل الكاتب المسرحي الذي أصبحت كتاباته الدرامية حينها تحتل يوما بعد يوم مكانة مهمة في المشهد المسرحي الوطني، وهذا محمد بصطاوي القادم من تجربة غنية وعميقة مع مسرح اليوم، ومحمد خويي الذي بدأ نجمه يبزغ كإحدى القيم الإبداعية المكرسة في فن التمثيل المغربي، وعبد المجيد الهواس السينوغراف العميق الإحساس الذي راكم بدوره تجربة مهمة من خلال العمل مع فرق مختلفة وبأساليب إخراجية متعددة، وعبد العاطي المباركي المخرج المتمكن الذي ساعدته تجربته البيداغوجية داخل المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي في إكساب التجربة نفسا إبداعيا عميقا، والشاعر العماني عبد الله الريامي الذي انخرط فيها كجندي خفاء جامعا ما بين الإدارة الفنية والمحافظة العامة، والشاعر سعيد عاهد الذي واكب الفرقة وقدم لها من الدعم المعنوي والإعلامي ما جعلها في ظرف وجيز تحتل المكانة التي تستحقها في المشهد الثقافي المغربي. ومثلما لعبت هذه الأسماء دورا كبيرا في إنضاج شروط ميلاد التجربة، فقد لعبت الظروف التاريخية التي كان يمر منها المسرح المغربي حينها دورا مهما أيضا في نجاحها. إذ جاءت كفعل تجاوز لمرحلة تدنى فيها الإنتاج المسرحي كما وكيفا، وبدت فيه الحاجة ماسة إلى خطاب مسرحي مغاير يستطيع أن يستوعب أسئلة المرحلة، وإلى روح تجديدية تجسدت في عملها الأول: «خبز وحجر» عن مسرحية «الخبز مليء الجيوب» للكاتب الروماني ماتي فيزنيك. لقد اتسمت هذه المسرحية بروح دعابة سوداوية جمعت بين الهزل وعمق التأمل وحرقة الأسئلة الوجودية المقلقة. مسرحية تدور حكايتها حول التقاء شخصيتين بجانب بئر انحبس كلب في قعرها.. وبينما يفكران في إنقاذه، تتناسل الأسئلة وتتعدد طرق الإنقاذ والاتهامات، ووسيلة الإنقاذ، بل وينزاح الحديث إلى مواضيع جانبية... حديث يمتد إلى كل شيء إلا شيء واحد: القيام بفعل ملموس لإنقاذه. لقد تقاطعت هذه البنية الحكائية ذات النفس العبثي لمسرحية ماتيي فيزنييك، مع تجربة مقتبس النص يوسف فاضل الدرامية التي سارت العديد من نصوصه على نفس النهج ك «جرب حظك مع سمك القرش» و»سفر السي محمد» و»أيام العز»... وفتحت أفقا جديدا يحاول الجمع ما بين المتعة وعمق السؤال... وتلك معادلة صعبة استطاع «مسرح الشمس» أن يحققها، سواء في هذا العمل أو في أعمال أخرى لاحقة. ولقد كان من منجزات العمل البكر ل «مسرح الشمس»، التي لا تزال عالقة بدهن الكثيرين ممن عايشوا التجربة، بساطة سينوغرافيتها لحد الفقر (بمفهومه الجمالي بالطبع)... بئر وسلم وومقعدان وبقعة ضوء... وهو فضاء سينوغرافي منح المجال واسعا لقوة أداء الممثلين اللذين استطاعا أن يحولا فقره الكمي إلى ثراء وبذخ دلاليين كان لهما عظيم الأثر في نفس جمهور قاعة «جيرار فيليب» بالرباط التي قدم بها العرض الأول. توالت إبداعات «مسرح الشمس» بعد ذلك واغتنت معها الفرقة بقدوم فنانين جدد نذكر منهم الفنان المقتدر محمد الشوبي والفنان بنعيسى الجيراري وفنانون وفنانات آخرون. وتوالى معها أيضا الإمساك بذلك الخيط الرفيع بين حاجيات جمهور ميال إلى الفرجة وآخر ميال إلى أعمال تطرح قضايا الإنسان بعمق وبرهافة حس نادرة... أعمال جمعت ما بين المحلي والكوني في تركيبة ساحرة وأخاذة: فانطازيا، أولاد البلاد، بوحفنة، العبارا.... عندما تعود بي الذكريات إلى هذا الزخم الإبداعي، أتذكر مرحلة عايشتها كمبدع مفتون برغبة مؤسسيها الجامحة في استشراف أفق جديد للمسرح المغربي.. مبدعون يمتلكون من القوة الإبداعية ورهافة الحس ما يجعلهم يتحدون كل العوائق من أجل الظفر بنصر، ولو كان محدودا، على رتابة الحياة وحديث الأماني المتبخرة في مقاهي الرباط في ذلك الوقت... غير أني مثلما أتذكر تلك التجربة باحترام كبير، يسودني الأمل في إعادة إحياء هذه التجربة من جديد... وبالفعل ما أحوجنا إليها. عندما تخرجت من المعهد، وكان صديقا لي الفنان محمد بصطاوي، لم أكن أعرف كباقي زملائي أي مصير ينتظر هذه التجربة، فغيبت عن فضائي، واعتقلت بردهات الداخلية كموظف لمدة ثماني سنوات، كنت حينها أسير الموظفين، وأصنع الفرجة مع أناس آسفي البسطاء، وأبحث عن مخرج داعيا باخوس أن يجد لي منفذا إلى محراب أحبتي. وبعد ثماني سنوات استجاب لي هذا الإله، فوجدت نفسي أمام محمد بصطاوي ويوسف فاضل، يطلبان مني أن أنخرط في تجربة «مسرح الشمس» التي كنت أعزها وأفتخر بها عن بعد قصري. وكانت المسرحية الأولى لي مع هذه الفرقة الكبيرة هي مسرحية «بوحفنة» التي عشنا فيها زمنا جميلا، قاسيا بالنسبة للفرقة كإدارة ولكنه متاخما للبذخ لنا كممثلين، حيث كنا نؤمن بالتجربة ونثمن كل خطواتها.. فكان الهواس، وكان بوشعيب في الأضانة مع اليزيد الباش والسيد مومين مدير المركب الثقافي، وكان علي الطاهري والسيدة صفية الزواوي، كما لا ننسى السيد خميس الذي لم يسعفه الكأس كما أسعفته العبارة في تلبية دعوة هذه المسرحية الخالدة، وكان بلفقيه وسعاد النجار وبنعيسى الجيراري الصديق الممثل الرائع، والذي كان إضافة إلى إمتاعنا بأدائه يمتعنا بطبخه البلدي المتفرد. ومن هذه المسرحية- الدعوة إلى عالم الفن من جديد- عدت بفضل هؤلاء إلى حوض سباحتي... وها أنا الآن مهما قلت فيهم، ومهما كتبت، لن أوفي تجربة «مسرح الشمس» حقهم.. كملحمة انطلقت بعشرة فصنعت عشيرة تحب بعضها وتحترم بعضها إلى ما لا نهاية. فهنيئا لي بهذا الانتماء، وأرجو لساسة العهد الجديد أن يكون لهم نفس الحب والتقدير.