الممرض .. العمود الفقري لكل المؤسسات الصحية بمختلف مستوياتها، «الدينامو» المحرك للعملية الاستشفائية، الذي يقوم بالعدد الأكبر من المهام لفائدة المرضى، ويتعامل مع مختلف الفئات والأشخاص، أحيانا حتى ما قبل ولادتهم، عندما تكون المرأة حاملا وتقوم بالوضع، وبعدها في مرحلة الرضاعة، فالطفولة، ثم الشباب، وعندما يبلغ المرء أشدّه، وبعد ذلك أثناء مرحلة الكهولة. طيلة هذه المسيرة العمرية، يحضر الممرض والممرضة، لتقديم حوالي 80 في المئة من الخدمات الصحية. الممرضون والتقنيون يشكلون نسبة 56 في المئة من مهنيي الصحة، يقومون بمهام جسيمة، قد تنال اعترافا من طرف البعض، وقد تواجه بالجحود والنكران من طرف البعض الآخر، خاصة من الذين ينظرون للممرض نظرة تقليدية، نظرة «الفرملي»، انطلاقا من منظور «تقزيمي»، ممن لا يزالون سجناء زمن مضى وولى، ولا يعلمون بأن الممرض إطار بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وساعد من سواعد النهوض بالمجتمع وبنائه. الممرض ليس دائما عنوانا للرشوة، للتسويف واللامبالاة … والممرضة ليست هي تلك الشابة التي تهتم بأظافرها، وتضع فواكه في جيب وزرتها، المشغولة بهاتفها النقّال .. وهي الصور النمطية التي تحاول بعض التصنيفات تكريسها وتعميمها، باعتبارها قاعدة وليست استثناء كما هو حال مختلف القطاعات. الممرض قصة ليست كباقي القصص، يومياته ولياليه حكايات تستحق أن تروى، هو جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، بإيجابياته وسلبياته، وبالتناقضات التي يحبل بها. للتقرب أكثر من الممرضين والممرضات، تفتح «الاتحاد الاشتراكي» صفحاتها في فسحة رمضان، لعدد من المنتمين لهذه الفئة، لكي يحكوا عن طبيعة الأقدار التي ساقتهم لاختيار هذه المهنة، أو ينقلوا إلى القراء تفاصيل واقعة من الوقائع التي عاشوها والتي تركت وقعا خاصا عليهم، للكشف عن وجه آخر للممرض/الممرضة غير ذاك المتخيّل في كثير من الأذهان.
مهنة التمريض .. قد لا أكون فكرت فيها يوما أو انتبهت إليها، وربما كنت أمر أمام أصحابها مرورا عابرا، وحتى حين درست وكنت أضع أحلاما وتصورات حول مهنة المستقبل، لم أتوقع يوما أن ينتهي بي المطاف في هذه المهنة، لأن ولوجها كان بالصدفة عن طريق صديقة لي كانت تدرس بمعهد مكناس، التي في لحظة منعطف حياتية، وفي غمرة الإعداد لمرحلة تكوين جديدة في أفق ولوج سوق الشغل، أصرت على أن تقدم لي صورة نموذجية عن مهنة التمريض التي لم أكن أعرف عنها شيئا، عدا تلك الصورة التي يعرفها العامة، أخذا بعين الاعتبار أن التوجيه المدرسي هو الآخر لم يكن يضعها ضمن خارطة مساراته. تقدمت بملفي الذي حظي بالقبول، فاجتزت الاختبار الكتابي فالشفوي، هذه المحطة الاختبارية الأخيرة، أتذكرها وكأنها اليوم، لأن سؤالا أخيرا طُرح علي من طرف مدير المعهد، كان على الشكل التالي: إذا تخرّجت وتم تعيينك للعمل في مكان نائي في المناطق الجبلية، هل ستقومين بذلك؟ فضحكت بكل عفوية وأجبته، 3 سنوات تفصلنا عن التخرج لا ندري أية متغيرات ستقع، وحتى أفكاري وقناعاتي الحالية قد تتغير، فكان أن ضحك هو أيضا، وأجابني بالفعل جوابك صائب. انطلقت فصول الدراسة وكانت صعبة نوعا ما وليست بالهينة، وكان المستوى مرتفعا والتحصيل جادا، وفي كل مرحلة جديدة كنت أتمسك بهذه المهنة وأنا في إطار التكوين أكثر، وإن كان هناك من الممارسين، البعض منهم بكل تأكيد وليس الكل، من يجعلونك تكرهها في لحظة من اللحظات بسبب بعض المسلكيات. فكان التخرج، وصدق حدس، أو تخمين، أو «نبوءة» مدير المعهد، وبالفعل توجهت للعمل في أعالي الجبال. ذات رمضان، ونحن في هذا الشهر الفضيل، وهو ما دفعني لأن أقص قصة تزامن وقوعها حينها وشهر الصيام، كنت أشتغل في مركز صحي قروي يبعد عن تنغير بحوالي 52 كيلومترا، وخلال ذلك اليوم وبعد انتهاء وقت العمل، قمت بإعداد وجبة الإفطار وجهزت المائدة وأنا انتظر آذان المغرب الذي لم يكن يفصلنا عنه إلا لحظات، وبالفعل ارتفع صوت المؤذن عاليا فحملت ثمرة، وفي الوقت الذي كنت أهمّ بوضعها في فمي، طرق أحدهم الباب طرقا شديدا غير خفيف، له طابع استعجالي مصحوبا بصراخ أكثر من شخص. وضعت الثمرة على عجل وقمت من مكاني مفزوعة، هرعت نحو الباب لأستطلع الأمر، فوجدت جمعا من الناس وهم يحملون طفلة عمرها لا يتجاوز السنتين، وقيل لي بأنها تعرضت لحروق خطيرة من رأسها إلى أخمص قدميها، إذ حين كانت تحبو على ركبتيها انسكب عليها إبريق شاي تم إعداده للتو في غفلة من الجميع. كان الأمر عصيبا والمشهد مؤلما، والخوف والحزن يعمّ وجوه الجميع، فتوجهنا جميعا جريا على أقدامنا صوب المركز الصحي، فتحنا الباب أنا زميلي ونحن نحمل كواشف ضوئية لأننا لم نكن نتوفر على إنارة، وأرسلنا من يستقدم الطبيبة، وخلال ذلك كنا نحاول معرفة حجم ودرجة حروق الصغيرة، التي وبكل أسف، كان وضعها سيئا خاصة وأن أهلها أحاطوا جسمها المحروق بقشور البطاطس وعملوا على لفها في بطانية، التي التصقت بجسمها النحيل، فشرعنا في محاولة تنقية الجسم من كل ما التصق به، قشورا وخيوطا من البطانية، مستعملين في ذلك «السيروم» و «اليوزين»، ثم أعددنا لها كمّادات قبل أن ينقلها أفراد من أسرتها إلى المستشفى الإقليمي بالراشيدية لأننا لم نكن نتوفر على سيارة إسعاف. عدت بعدها إلى مسكني وكان الوقت عشاء، فجلست أحاول مضغ بعض الطعام الذي كان معدا للإفطار، الذي لم يكتب لي في حينه بسبب الواقعة المؤلمة، التي ظلت صورها تتردد علي. مرت الأيام، وعشت تجارب أخرى مع أشخاص آخرين، وبعد حوالي سنة، وبينما كنت أمارس عملي الاعتيادي ذات يوم، تقدمت أمامي سيدة مرفوقة بطفلة، لم انتبه لها في البداية لكن لفت انتباهي جلد يدها المجعّد، فاستفسرتها عن الأمر، فإذا بها تضحك وأجابتني بسؤال، أعتقد انك لا تتذكريني، ثم أكملت « إنها الطفلة التي تعرضت للحرق في رمضان من السنة الفارطة»، وأخبرتني أنه حين تم نقلها إلى مستشفى الراشيدية جرى تحويلها صوب مستعجلات المركز الوطني للحروق بالدارالبيضاء، حيث خضعت للعلاج، وبفضل الجهود التي تم بذلها، تعافت ولم تعد تحمل أية آثار على مستوى الوجه أو في مكان آخر، باستثناء تلك الجهة الداخلية من يديها، فكانت سعادتي لا توصف، إذ أمكن في ظل كل الظروف المختلفة إنقاذ تلك الطفلة وتمكينها من الحفاظ على نضارة وجهها الذي كاد إبريق شاي أن يعصف بها.