انشغل المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936 – 2010) طيلة حياته العلمية بمشروعه النقدي الكبير للعقل العربي، تكويناً وبناءً ونقداً، من خلال دراساته المعمّقة، مثل «تكوين العقل العربي»، «بنية العقل العربي»، «العقل السياسي العربي» و«العقل الأخلاقي العربي» وغيرها، أراد الرجل من خلال هذا المشروع النهوض بالعرب، لأجل اللحاق بركب الأمم المتقدمة، وتطليق روح الهزيمة والسلبية، التي انغرست في وجدان العرب نتيجة الهزائم المتلاحقة، على الرّغم ما شكلته، مرحلة الاستقلال من نير الاستعمار وما تلاها من أحلام كبرى عبّرت عنها الحركات الوطنية في العديد من المحطات المشرقة، إلا أنّه للأسف، كانت هناك صدامات وانتكاسات ضربت العقل العربي في الصمّيم، ما جعل تلك الانتصارات بلا طعم ولا لون. التصالح والقطيعة نتيجة لذلك أصبح العرب متأرجحين بين مشاريع محلية، وأخرى مستوردة، تأتي المشاريع المحلية متصالحة مع الذات وقيمها ومبادئها، إذ تغترف من التراث العربي والإسلامي، وتعتبرهما مرجعية من أجل صياغة أي مشروع مستقبلي للنهوض والانطلاق، لكن ما يؤاخذ على هذا المشروع، أو بالأحرى المشروعين (الإسلامي/القومي)، حيث سمة العداء بينهما هي الغالبة، فكل طرف يريد تحقيق مشروعه، وإثبات جدارته في قيادة الأمة العربية إلى النهضة المنشودة بأي ثمن. في المقابل، هناك مشروع متخاصم مع الذات العربية والإسلامية، ويعتبرهما مصدراً للتخلف والجهل والشعوذة، إذ يرى بأنّه لن تحدث أي نهضة عربية ما لم يعمل العقل العربي على إقصاء التراث العربي والإسلامي عموماً، واستعارة النموذج الغربي وتطبيقه على أرض الواقع بدون قيد أو شرط. أما عابد الجابري فقد اختار مشروعه المتصالح مع الذات العربية والإسلامية، لأنه أراد ربط العرب بتاريخهم وتراثهم، ولأن أي نهضة عربية معاصرة، حسبه، لن يكتب لها النجاح ما لم تكن نابعةً من هذه الأرض، ومربوطةً بماضي العرب وتاريخهم. صراع الحضارات تطرق الجابري لمسألة (صراع الحضارات) على الرّغم من ضحالة الفكرة وضعفها، كما يقول من باب المشاركة في الحوار الدائر، ومن باب إثراء النقاش، وتسليط الضوء على النقاط الخفية، وبما أن العرب والمسلمين على رأس المستهدفين، فهذا دافع آخر من أجل دراسة هذه القضية وفضحها، ووجوب تعميم الوعي بمضمونها وأهدافها، كما عبّر عن ذلك في دراسته. تساؤلات مشروعة في البداية يتساءل عن الأسباب التي أدّت إلى اختفاء فكرة «نهاية التاريخ» التي طرحها فرانسيس فوكاياما من النقاش مباشرة، بعدما ظهرت مقالة هنتنغتون في دورية «فورين أفيرز» في النصف الثاني من عام 1993، التي أكّد فيها أن سقوط النظام الشيوعي وتفكك دويلات الاتحاد السوفييتي مؤذنٌ بنهاية الصراع الأيديولوجي، ولكن على الغرب ألّا تأخذه نشوة النّصر وسكرة الفوز، لأن العالمَ مقبلٌ على نوع آخر من الصراع، صراع يتخذ من الدين والثقافة والإثنية شرطاً للتكتّل، وستصبح الحضارة الإسلامية والكونفوشوسية في طليعة المنافسين للغرب، وعلى الرغم من أن فكرة نهاية التاريخ تتماشى مع الحدث الكبير، بحيث تؤرّخ لانتصار أمريكا في صراعها الأيديولوجي مع الاتحاد السوفييتي، فقد حدّدت البشرية خيارها، الذي يكمن في النظام الرأسمالي الليبرالي، ورفضها للنظام الاشتراكي، إلا أن الاهتمام الإعلامي انصبّ على خطاب الصدام، وتجاهل خطاب النهاية، ما يستدعي الاستغراب والاندهاش. على هذا الأساس، لا يخفي الجابري اندهاشه من سيل الدراسات والأبحاث التي راحت تناقش أطروحة «صراع الحضارات» بحثاً ونقداً، تاركة الحدث البارز في ذلك الوقت، وهو انهيار الشيوعية كنظرية، «وكان المفروض أن يهتم الأكاديميون ومختلف فئات المثقفين بموضوع نظري وعملي هو بحق نهاية هذا القرن، أقصد سقوط الشيوعية كنظرية، وانهيار المجموعة الدولية التي كانت تحمل شعارها، وتغزو العالم بالفكر والدعاية والسلاح لنشرها، وتحقيق طموحاتها». هنا، يقرر الجابري بأنّه كان من المفروض أن ينصبّ اهتمام الباحثين والمفكرين على سقوط الشيوعية، ومعها الماركسية، وفشل مشروع البريسترويكا الذي صاغه الرئيس السوفييتي ميخائيل غوربتشوف، نظراً للتاريخ الحافل بالبحوث والإنجازات التي قام بها هذا النّظام، على الأقل منذ قرن ونصف القرن من الزمن، لقد تناسى المفكرون والإعلاميون كل هذا الرصيد، وأطلقوا عنان أقلامهم للبحث في فكرة «صدام الحضارات»، التي لم يمرّ على ميلادها سوى أيام فقط من عام 1993، والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل أراد الغرب من خلال هذا العمل أن ينسى العالم فكرة الشيوعية، التي مثلت، بحق، حلماً كبيراً بالنسبة إلى الشعوب المقهورة؟ وعلى ماذا يدلّ هذا الاهتمام الزائد بفكرة «صدام الحضارات»؟ هل يدلُّ على أن العالم داخل في تجربة تاريخية أخرى، سيكون لها تأثير عميق في سيرورة الأحداث العالمية المقبلة؟