"الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34        البطولة الوطنية الاحترافية لأندية القسم الأول لكرة القدم (الدورة 11): "ديربي صامت" بدون حضور الجماهير بين الرجاء والوداد!    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع الجابري وتجديد الخطاب الديني

في هذه السنين الأخيرة التي احتدت فيها الحرب الدولية ضد التطرف الديني والطائفي، بدأت تظهر في الساحة السياسية العربية، ومن أعلى المستويات، دعوات صريحة وجريئة لتجديد الخطاب الديني. والمقصود هنا بالتجديد بدون شك، هو إعادة النظر في أسس الخطاب المعاصر الذي يفهم به المسلمون دينهم دون المساس بالمبادئ السامية للدين الإسلامي الحنيف.
والواقع أن مسألة التجديد والتحديث كانت، منذ عدة عقود، شغلا شاغلا وهما مزمنا لثلة من المثقفين العرب، وعلى رأسهم الدكتور محمد عابد الجابري الذي كرس معظم جهده الفكري ليقدم لنا مشروعا فكريا ضخما، تناول فيه بالنقد والتحليل قطاعات واسعة من الفكر العربي الإسلامي من عصر التدوين إلى اليوم. ويعتبر هذا المشروع في نظري، أرضية مهمة ووثيقة ثمينة يمكن الاعتماد عليها في أي برنامج تجديدي للخطاب العربي، سواء في بعده النظري: المعرفي والعقائدي، أو في بعده العملي: السياسي والأخلاقي.
في هذه المقالة، بمناسبة ذكرى وفاة الجابري، لم أتطرق إلى كل الجوانب المرتبطة بمشروع هذا المفكر العقلاني النقدي، لأن مجرد تلخيصه في مقالة واحدة أمر بالغ الصعوبة. إن ما سأحاول القيام به هنا، هو الوقوف عند بعض المفاهيم والآراء التي أبرزها الجابري، والتي يمكن استثمارها في مواجهة القضايا والتحديات الفكرية العربية المعاصرة التي تشغل بال المثقفين والفاعلين السياسيين في الوطن العربي.
1 – ضرورة قيام العقل العربي بمراجعة شاملة لمبادئه ولمفاهيمه وتطوراته ورؤاه
«اعرف نفسك»، هذه المقولة المشهورة تنسب إلى الفيلسوف اليوناني المعروف سقراط. ولكي يعرف الإنسان نفسه لابد أن يعرف كيف يعرف، أي لابد أن يعرف الطريقة التي ينتج بها معارفه التي بها يفهم نفسه والآخرين والأشياء التي تحيط به، و بها أيضا يدبر أموره ويعالج مشاكله التي تواجهه في حياته. لقد أدرك الجابري، كما فعل سقراط وغيرهما من المفكرين العظام مثل ابن رشد و ديكارت، أهمية البحث في المعرفة ومناهجها وأسسها. وكم كان يتمنى لو أن مفكري النهضة العربية في القرن التاسع عشر كانوا قد أدركوا،هم أيضا، هذه الأهمية وقاموا بنقد أسس المعرفة التي كانت سائدة في مجتمعاتهم والتي كانت السبب في جمود وتخلف المسلمين والعرب في عهود الانحطاط. ولكن للأسف هذا ما لم يفعلوه. يقول الجابري في تقديمه لكتابه تكوين العقل العربي الذي صدر سنة 1984: «يتناول هذا الكتاب موضوعا كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مئة سنة. إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة. ولكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى، ولعل ذلك من أهم عوامل تعثرها المستمر إلى الآن، وهل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟» (1)
وفي الواقع، فإن الجابري يوجه اللوم، أساسا، إلى النخبة العربية المثقفة المعاصرة التي مازالت إلى يومنا هذا، تتجاهل أهمية النقد الإبستمولوجي، أي: نقد طرق التفكير المتبعة في مختلف فروع المعرفة السائدة في المجتمعات العربية أثناء معالجتهم للأزمات الراهنة. وهذا الاقتناع بضرورة اعتماد النقد الابستمولوجي في دراسة الظواهر الفكرية، اكتسبه الجابري، بدون شك، من خلال أنشطته التربوية والعلمية عندما كان مشرفا على إعداد برنامج الفلسفة لطلاب البكالوريا، ومدرسا بكلية الآداب بالرباط. ويمكننا القول، بدون مبالغة، بأن الفضل يرجع إليه في إثارة انتباه مثقفي جيل السبعينيات في المغرب، إلى الإشكاليات المرتبطة بنظرية المعرفة الحديثة وفلسفة العلوم وخصوصيات العقلانية المعاصرة التي عرفت في القرنين الأخيرين تطورا بالغ الأهمية. وقد توج الجابري مجهوده الفكري في هذا المجال سنة 1976 بإصداره كتابا في جزأين بعنوان «مدخل إلى فلسفة العلوم، العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي».
– الجزء الأول: «تطور الفكر الرياضي و العقلانية المعاصرة»
– الجزء الثاني: «المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي»
ومن بين ما جاء في مقدمة هذا الكتاب: «تكتسي الدراسات الابستمولوجية –التي تتناول قضايا المعرفة عامة والفكر العلمي خاصة– أهمية بالغة في الوقت الحاضر، بل يمكن القول إنها الميدان الرئيس الذي يستقطب الأبحاث الفلسفية في القرن العشرين…
…ونحن هنا في الوطن العربي مازلنا متخلفين عن ركب الفكر العلمي، تقنية وتفكيرا، وما زالت الدراسات الفلسفية عندنا منشغلة بالآراء الميتافزيقية أكثر من اهتمامها بقضايا العلم والمعرفة والتكنولوجيا، الشيء الذي انعكست آثاره على جامعاتنا ومناخها الثقافي العام. هذا في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى "تحديث العقل العربي" و"تجديد الذهنية العربية". وغني عن البيان القول بأن وسيلتنا إلى ذلك يجب أن تكون مزدوجة متكاملة: الدفع بمدارسنا وجامعاتنا إلى مسايرة تطور الفكر العلمي وملاحقة خطاه والمساهمة في إغنائه وإثرائه من جهة، والعمل على نشر المعرفة العلمية على أوسع نطاق من جهة ثانية. إن توجيه اهتمام الطلبة و المثقفين إلى "الفلسفات العلمية" التي تعمل جاهدة على ملاحقة الفكر العلمي في تطوره وتقدمه تحلل مناهجه وتدرس نتائجه محاولة استخلاص ما يمكن استخلاصه منه من رؤى فلسفية جديدة وآفاق فكرية رحبة، ضرورة أكيدة، إذا ما نحن أردنا الارتفاع بطلابنا ومثقفينا إلى المستوى الذي يمكنهم من أن يعيشوا عصرهم، عصر العلم و التكنولوجيا، بكل ما يطرحه من مشاكل نظرية وعملية ويساهموا في تشييد حضارة عربية في مستوى حضارة العصر علما وعملا.»(2)
لكن الجابري لم يكتف فقط بدعوة المثقفين إلى الاهتمام بالأبحاث والنظريات الابستمولوجية في الوطن العربي، بل تخطى ذلك بكثير، حينما اعتمد النقد الإبستمولوجي منهجا في دراسته للفكر الإسلامي، إلى جانب مناهج أخرى كالمعالجة البنيوية والتحليل التاريخي والطرح الإيديولوجي.
2 – مفهوم الأزمة في التفكير العلمي
كيف تطورت الرياضيات والفيزياء عبر التاريخ؟ كيف كان الرياضيون والفيزيائيون ينتجون معارفهم، أي كيف كانوا يفكرون في ما مضى؟ ما هي خصائص العقلانية المعاصرة؟ هذه هي الأسئلة الرئيسة التي تمحورت حولها مواضيع كتاب مدخل إلى فلسفة العلوم. وقد استثمر الجابري مجموعة من المفاهيم الابستمولوجية التي شرحها وحللها في هذا الكتاب في دراسته للعديد من العلوم والنظم المعرفية العربية. وقد استعرض الجابري في كتابه هذا مختلف مراحل تطور كل من الفكر الرياضي والفيزيائي عبر التاريخ… فأبرز مجموعة من المعطيات التاريخية والعلمية التي تساعدنا كثيرا في فهم الطرق والآليات التي ينتج بها الذهن البشري معارفه وفي إدراك مستوى التقدم الذي حققه وما زال يحققه العقل الإنساني في سعيه الدؤوب لتحقيق عقلنة شاملة لمختلف أنشطته النظرية والعملية. ويبدو لي أنه من المهم هنا أن أقف عند محطتين اثنتين هما: محطة تطور الفيزياء مع جاليلو في القرن السابع عشر، ومحطة ظهور ما يسمى بالهندسات اللا أوقليدية في القرن التاسع عشر. وذلك من أجل توضيح ثلاثة مفاهيم أساسية ترددت كثيرا في كتابات الجابري، إلى جانب مفاهيم ابستمولوجية أخرى، وهذه المفاهيم هي: الأزمة في العلم، القطيعة الابستومولوجية، النسق أو النظام المعرفي.
هناك خطوتان حاسمتان في تاريخ تطور الفكر العلمي قام بهما العالم الإيطالي جاليلو في القرن السابع عشر. فمن جهة أكد جاليلو من خلال ملاحظات تجريبية، فرضية كوبيرنكوس التي تفيد بأن الأرض تدور، وليست هي مركز الكون كما كان يعتقد من قبل، ومن جهة ثانية يعتبر جاليلو أول من حدد خطوات المنهج التجريبي الحديث، وهي: الملاحظة، الفرضية، التجربة، والقانون. كما يعتبر جاليلو أيضا أول ما صاغ القوانين الفيزيائية صياغة رياضية. وبهاتين الخطوتين يكون هذا العالم الإيطالي قد قطع نهائيا مع فيزياء أرسطو القديمة، بعبارة أخرى يكون قد أحدث ما يسمى حاليا في فلسفة العلوم بالقطيعة الابستومولوجية. ومفهوم القطيعة في هذا السياق، هو ظاهرة ابستومولوجية تحدث عندما يبلغ العلم مرحلة الأزمة، أي عندما يلاحظ العلماء ظاهرة جديدة تعجز المفاهيم الأساسية لهذا العلم عن تفسيرها. وهذا العجز يدفعهم إلى البحث عن مفاهيم علمية بديلة. إن هذا هو ما حصل بالفعل، عندما شاهد عدد من الفيزيائيين ومن بينهم كوبرنيكوس وكيبلر وجاليلو نفسه ظواهر فلكية جديدة لم يستطيعوا تفسيرها بالتصورات الفيزيائية الأرسطية، الشيء الذي اضطرهم إلى تجاوزها واعتماد فروض ونظريات فيزيائية جديدة بديلة. ولابد من التشديد هنا على أن تجاوز الأزمة في الفيزياء كان يقتضي من الفيزيائيين الأوروبيين التعرف على فيزياء أرسطو وفهمها واستيعابها أولا، ثم نقدها والقطيعة معها ثانيا. فالتقدم في المعرفة إذن هو عملية تراكمية من خلالها يعمق ويطور اللاحقون ما أبدعه السابقون. وقد لعب ابن رشد الدور الحاسم في هذا المسار التاريخي في علم الفيزياء: ففي القرن الثالث عشر للميلاد ترجم الأوروبيون جميع كتب ابن رشد التي شرح فيها نظرية أرسطو الفيزيائية كاملة، إلى جانب كتب علماء عرب آخرين كابن الهيثم في البصريات والبطروجي في علم الفلك. وهكذا يمكننا أن نستخلص في هذا السياق أن الأزمة في العلم ليست في أي حال من الأحوال دليلا على عجز الإنسان من أن يعرف الحقيقة، بل هي لحظة أساسية وضرورية في تاريخ الفكر العلمي يتمكن فيها العقل المنتج للمعرفة من تحديث وتطوير آلياته ومبادئه وتصوراته ورؤاه.
أما المحطة الثانية التي ارتأيت الوقوف عندها في هذه المقالة، فهي الفترة التي حدثت فيها أزمة علمية أخرى، ولكن في ميدان الرياضيات هذه المرة، وذلك حينما ظهر ما يسمى بالرياضيات اللاأوقليدية في القرن التاسع عشر. فقبل هذه الفترة كان الرياضيون يعرفون هندسة واحدة فقط هي هندسة أوقليدس التي كانت تنطلق من مجموعة محدودة من المسلمات أو الأسس أو المقدمات، من بينها مسلمة تقول: من نقطة خارج المستقيم يمر مواز واحد فقط لهذا المستقيم. و كانوا يستنتجون انطلاق من هذه الأسس عددا لا يحصى من المبرهنات والقوانين والمعادلات الهندسية منها على سبيل المثال أن زوايا المثلث تساوي o180. وفي القرن التاسع عشر شيد كل من العالم الروسي لوباتشفسكي، والعالم الألماني ريمان، هندستين جديدتين تختلفان في الأسس والنتائج. فحسب لوباتشفسكي زوايا المثلث تساوي أقل من o180 لأنه ينطلق من مسلمة تقول: من نقطة خارج المستقيم يمر أكثر من مواز واحد لهذا المستقيم؛ في حين يستنتج ريمان في هندسته أن زوايا المثلث تساوي أكثر من o180 لأنه ينطلق من مسلمة تقول: من نقطة خارج المستقيم لا يمر أي مواز لهذا المستقيم. ها نحن الآن أمام أزمة علمية عميقة، وهذه المرة في ميدان الرياضيات. من نصدق: أوقليدس؟ لوباتشفسكي؟ أم ريمان؟ ألم تكن الرياضيات طيلة قرون عديدة العلم الوحيد الذي لم يكن أحد يجرؤ على الشك في أسسه ونتائجه؟ ألم تكن الحقائق الرياضية تعتبر من طرف الجميع عين الحقيقة واليقين؟ كيف نفسر هذا الاختلاف بين الرياضيين، ألا يهدد في الصميم مصداقية التفكير العقلاني؟ ألا تشكل هذه الأزمة حجة قوية لخصوم العقل الكوني كي يبرروا معتقداتهم وأساطيرهم اللاعقلية؟ في الواقع، كانت هذه الأزمة فرصة ثمينة للرياضيين كي يعيدوا النظر في تصورهم للرياضيات وللعقل الإنساني ذاته، فالمفكرون لم يعودوا ينظرون الآن إلى الرياضيات على أنها مجموعة من المعلومات والحقائق اليقينية، يقينا مطلقا، بل أصبحوا ينظرون إليها على أنها سلسلة من الاستنتاجات المترابطة والمتناسقة منطقيا انطلاقا من فرضيات أو أوليات يختارها الرياضي بكل حرية. ولا يشترط في القضايا الرياضية وفروضها أن تكون متطابقة مع واقع أو مع حقيقة ما. إن الرياضي المعاصر يمتلك الآن كامل الحرية في الافتراض ولم يعد يتقيد إلا بمبدأ أساسي واحد هو مبدأ عدم التناقض. وهكذا يقال عن الرياضيات المعاصرة بأنها نسق أو نظام فرضي- استنتاجي .Système hypothético- déductif وقد ترتب عن هذا التغير الجذري لتصور العلماء للرياضيات تغير مماثل للرؤية العقلانية المعاصرة للعقل الإنساني. فابتداء من القرن العشرين بدأ المفكرون المعاصرون، بعدما تجاوزوا أزمة الأسس في الرياضيات، ينظرون إلى العقل الإنساني على أنه فعالية ونشاط ينتج من خلالها المعارف المختلفة وكذلك الأنساق والنظم المعرفية إلى جانب الأسس والمبادئ والقواعد التي ينشأ بها هذه الأنساق. يقول الجابري: «إن العقل في التصور العلمي الحديث والمعاصر ليس مجموعة من المبادئ بل هي قوة تمارس نشاط معينا حسب قواعد معينة، إنه في الأساس فاعلية.» (3)
نحن هنا الآن أمام تصورين اثنين مهمين: فمن جهة لدينا العقل باعتباره نشاطا ينتج المعارف بمختلف أنواعها، ولدينا من جهة ثانية المبادئ والأسس والقواعد التي تتشكل منها النظم المعرفية التي ينتجها هذا النشاط العقلي ذاته.
وسيستفيد الجابري من هذين التصورين إلى جانب تصورات ابستمولوجية أخرى في دراسته وتحليله للثقافة العربية الإسلامية. ولكنه سيستفيد أيضا في مشروعه النقدي، على مستوى المفاهيم والمناهج، من بعض الدراسات الرائدة التي ظهرت خلال القرنيين الأخيرين خاصة في مجال الفلسفة وعلم الاقتصاد والانثروبولوجيا وعلم النفس. ففي أواخر القرن الثامن عشر استعمل الفيلسوف الألماني إمانويل كانط في فلسفته النقدية مفهومين أساسيين أصبحا مشهورين في الفلسفة المعاصرة: الأول هو مفهوم العقل المجرد الذي قصد به مجموع الأحكام والمبادئ العقلية الخالصة التي يستعملها العقل في إنتاج المعرفة النظرية، والثاني هو مفهوم العقل العملي الذي قصد به مجموع الأحكام والمبادئ العقلية الخالصة التي توجه الإنسان في أنشطته العملية وسلوكه الأخلاقي. وفي القرن التاسع عشر استعمل كارل ماركس بدوره مفهومين أساسيان عرفا انتشارا واسعا في الأدبيات الفكرية الحديثة هما: مفهوما البنية التحتية والبنية الفوقية. ويوظف كارل ماركس مفهوم البنية التحتية ليفسر به مجموع العلاقات التي تربط بين مختلف فئات المجتمع والتي تحدد طرق إنتاج المجتمع لثرواته المادية في مرحلة من مراحل تطوره التاريخي، في حين يوظف مفهوم البنية الفوقية ليفسر به مجموع التصورات والقوانين والأعراف التي ينتج بواسطتها الناس معارفهم وقيمهم في المجالات الثقافية والسياسية والأخلاقية والفنية. وفي بداية القرن العشرين ظهر في الساحة العلمية مفهوم اللاشعور الذي يرجع الفضل في إثبات نجاعته الإبستمولوجية في علم النفس إلى العالم النمساوي سجموند فرويد. أما كلود ليفي شتروس فقد استفاد من ظهور مفهوم النسق الفرضي الاستنتاجي في الرياضيات المعاصرة، ومن أبحاث كل من كارل ماركس وسجموند فرويد، وكذلك فردنان دي سوسير في اللسانيات الحديثة، فأسس اتجاها فكريا جديدا أطلق عليه اسم البنيوية. ويمكن القول بدون مبالغة بأن البنيوية قد شكلت قفزة نوعية كبيرة في ميدان العلوم الإنسانية على المستويين النظري والمنهجي.
ومن بين الذين تأثروا بهذا الفكر الجديد نذكر جون بياجي الذي أسس فرعا خاصا من العلوم الإنسانية، أسماه الابستومولجية التكوينية. ويهتم فيه بدراسة مراحل التفكير عند الطفل منذ عامه الأول إلى مرحلة المراهقة. ولابد أن نشير هنا أيضا إلى الفيلسوف ميشال فوكو الذي لقيت مفاهيمه الأساسية رواجا كبيرا في أوساط الباحثين الذين تأثروا جزئيا أو كليا بالمنهج البنيوي، من بينها النظام المعرفي «épistémè»، ومفهوما الخطاب وسلطة الخطاب.
وفي أواخر السبعينيات من القرن العشرين كان الجابري يتابع عن كثب هذه المستجدات العلمية والفكرية الحديثة في وقت كان فكره ووجدانه مشدودين إلى الأوضاع المزرية التي كانت تعاني منها الشعوب العربية. لقد كان الجابري مفكرا وأستاذا جامعيا ومحاضرا مرموقا، وكان أيضا مناضلا وقياديا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي كان يخوض صراعا مريرا ضد التخلف والجهل والاستبداد.
وقد مكنه هذا الكفاح المزدوج أن يدرك بأن أزمة العرب كانت ومازالت إلى اليوم أزمة حضارة، أي أزمة خطاب وأزمة عقل. وهو لم يكن يتجاهل إطلاقا تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الوطن العربي، فهو كان يعيشها ويواكب تطوراتها يوميا مع رفاقه الحزبيين. لكنه كان يرى بأن الأزمة أعمق مما يتصوره المثقفون والسياسيون المعاصرون العرب، فأصل الأزمة عندنا، في تفكيرنا، لأن التصورات والآليات التي ننظر من خلالها إلى ذاتنا: أي إلى تراثنا وديننا، إلى واقعنا أي: إلى أوضاعنا ومشاكلنا، هي تصورات وآليات تجمدت وتحجرت منذ قرون عديدة، وعقل لم يعد ينتج معرفة بالواقع ولا حلولا لمشاكل، بل صار عقلا يختزل نشاطه في آلية ذهنية واحدة ووحيدة تبحث دوما عن أصل يمدها بمعارف وحلول جاهزة. وهذه الآلية هي التي تسمى في الخطاب العربي الديني بالقياس. وهكذا ترسخت لدى الجابري قناعة بأن التجديد وتحديث الخطاب العربي، وضمنه الخطاب الديني، مهمة ضرورية لتجاوز وضعية التخلف وتحقيق التقدم المنشود التي تناضل من أجله الشعوب العربية. لكن التجديد والتحديث يتطلبان، في نظره، عملية نقدية شاملة وعميقة للأسس والمبادئ التي تشكل بنية العقل العربي. وقد قرر الجابري أن يساهم في هذا العمل النقدي فأعلن ذلك سنة 1980 في مقدمة كتابه «نحن والتراث» حيث قال عندما انتقد آلية القياس السائدة في الخطاب العربي، «هذا النشاط الذهني جزء -ولو أنه أساسي- من كل: إنه جزء من بنية العقل العربي الذي يتعين فحصه بدقة، ونقده بكل صرامة، قبل الدعوة إلى تجديده أو تحديثه. أنه لن يتجدد إلا على أنقاض القديم، إلا انطلاقا من نقد شامل وعميق نرجو أن تكون لنا فيه مساهمة متواضعة من خلال الكتاب الذي نعده بنفس العنوان» نقد العقل العربي. 4
3 – العقل العربي والنظم المعرفية الثلاثة: البيان والعرفان والبرهان
يمكننا أن نستخلص مما سبق أن العقل، سواء تعلق الأمر بالعقل الفردي أو بالعقل الجماعي، ينتج في نفس الوقت المعرفة وأدوات إنتاجها. والعقل من هذه الناحية يشبه الصانع الذي ينتج أشياء معينة، وينتج أيضا الأدوات التي يصنع بها تلك الأشياء. والبنية في هذا السياق هي منظومة من المبادئ والقواعد والتصورات الأساسية التي ينتج في إطارها المفكرون معارفهم المتنوعة والمتراكمة والمترامية داخل فضاء أو حقل معرفي معين: النحو، الفقه، علم الكلام،الرياضيات، الفيزياء… وغالبا ما تكون هذه البنية لا شعورية لا يعي بها إلا العلماء الذين أنشؤوها أو الذين قاموا بتحليل إبستمولوجي لهذا الحقل المعرفي الذي تؤطره هذه المنظومة.. فالجميع على سبيل المثال يحترمون أثناء كلامهم المبادئ المنطقية الأساسية كمبدأ عدم التناقض و مبدأ الهوية ومبدأ الثالث المرفوع. لكن الذين لهم بعض الإلمام بعلم المنطق هم وحدهم الذين يعرفون هذه المبادئ. أما معظم الناس فهم غير واعين بها. ومن ناحية أخرى تتميز البنية أو النظام المعرفي بالثبات وعدم التغير طيلة فترة تاريخية معينة قد تطول أو تقصر حسب الظروف السائدة من جهة، وحسب المستجدات الثقافية والعلمية من جهة ثانية.
نحن هنا لا نناقش مفهوم العقل من الناحية الفلسفية الميتافيزيقية ولا من الناحية السيكولوجية، بل نناقشه من الناحية الأبستمولوجية لأن ما يهمنا في هذا البحث هو معرفة الكيفية التي يتم بها إنتاج المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية. وغالبا ما يطلق مصطلح العقل مرفوقا بمصطلح آخر للدلالة على البحث الذي يهتم بطرق المعرفة في ميدان معين. ويبدو أن أول من استعمل هذا النوع من التسمية في هذا الاتجاه الابستمولوجي بعيدا عن الميتافيزيقية اللاهوتية هو الفيلسوف الألماني امنويل كانط في أواخر القرن الثامن عشر حين استعمل في فلسفته النقدية كما قلنا سابقا، مفهومي العقل المجرد والعقل العملي. وفي القرن العشرين بدأت تتوالى مفاهيم مماثلة كالعقل المكون (بكسر الواو) أو العقل الفاعل، والعقل المكون (بفتح الواو) أو العقل السائد، والعقل السياسي والعقل الأخلاقي…
وقد عنون الجابري مشروعه الفكري تحت اسم «نقد العقل العربي» وهذا المشروع يغطي ثلاثة مجالات من التفكير في الثقافة العربية الإسلامية. الأول هو مجال التفكير النظري، وقد خصص له كتابين هما «تكوين العقل العربي» الصادر سنة 1984، و«بنية العقل العربي» الصادر سنة 1986. والثاني هو مجال التفكير السياسي الذي خصص له كتابا بعنوان «العقل السياسي العربي» الصادر سنة 1989، والثالث هو مجال التفكير الأخلاقي الذي خصص له كتابا بعنوان «العقل الأخلاقي العربي» وقد صدر سنة 2001. وقد يتساءل القارئ هنا: لماذا لم يعنون الجابري كتابيه الأولين ب «تكوين العقل النظري العربي» و«وبنية العقل النظري العربي»، ليبقى مفهوم العقل العربي عاما يشمل المجالات الثلاثة؟ يبدو لي أن هذا التساؤل وجيه للغاية. لكنني أحيل القارئ على مقدمة الجابري للجزء الأول من كتابه «مدخل إلى القرءان الكريم» لعله يجد فيها ما يجعله يتفهم به هذا اللبس.
والعقل العربي الذي يغطي الثقافة العربية الإسلامية كلها والذي يتحدث عنه الجابري الذي اتجه إليه بالنقد والتحليل، لم يتشكل إلا بعد مرور قرن ونصف قرن من ظهور الإسلام، أي خلال الفترة التاريخية التي تعرف بعصر التدوين. ففي هذه الفترة تأسست العلوم والاتجاهات والمذاهب والفرق العربية في مختلف المجالات. ونذكر في هذا الصدد، على سبيل المثال لا الحصر: جمع اللغة العربية وتأسيس النحو العربي مع الخليل بن أحمد الفراهدي وسيبويه وابن جني، وظهور المذاهب السنية الأربعة مع أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وإشراف الإمام الشيعي الأكبر جعفر الصادق على تحديد الأسس الرئيسية للمذهب الشيعي الإمامي، وتأليف الكتب في مجال التصوف خاصة مع الحارث بن أسد المحاسبي، وتطور البلاغة مع الجاحظ، وظهور الفلسفة مع الكندي، إلى غير ذلك من الانجازات الثقافية العلمية التي لا تحصى.
والنقطة الأساسية التي أكد عليها الجابري في هذا الصدد هي أن عصر التدوين يعتبر الإطار المرجعي للثقافة العربية الإسلامية العالمة. فمن خلال هذا الإطار المرجعي ينظر المثقفون العرب إلى العصر الجاهلي وصدر الإسلام والعصر الأموي، ومن خلاله أيضا ينظرون إلى عصر التدوين ذاته. ومازال المثقفون العرب إلى اليوم، ينظرون إلى حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم من خلال هذا الإطار المرجعي الذي تشكل منذ أربعة عشر قرنا. يقول الجابري «إن عصر التدوين حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له وفي كل ماض أخر منظور إليه من داخل الثقافة العربية الإسلامية، كما هو حاضر في مختلف أنواع «الغد» التي أعقبته (عصر التدوين). هو حاضر في كل ذلك بكل معطياته وصراعاته وتناقضاته الأيدولوجية وأيضا، وهذا ما يهمنا بالدرجة الأولى، بكل مفاهيمه ورؤاه ولأدواته المعرفية. وبتعبير آخر إن المعطيات والصراعات والتناقضات التي عرفها عصر التدوين والتي تشكل هويته التاريخية هي المسؤولة عن تعدد الحقول الايديولوجية والنظم المعرفية في الثقافة العربية كما وأنها هي المسؤولة عن تعدد المقولات وصراعها في العقل العربي».5
ففي عصر التدوين وقع ما يمكن أن نسميه بالانفجار الثقافي والعلمي في المجتمع العربي الإسلامي: عدد لا يحصى من المفكرين والعلماء والمبدعين في مختلف التخصصات ظهر، الآلاف من الكتب والرسائل ألفت أو ترجمت، مئات المذاهب والفرق والمدارس الفكرية تأسست، وكل هذا حدث في وقت وجيز، إذ الفاصل الزمني بين جيل جعفر الصادق وابن المقفع وجيل الجاحظ والكندي لا يتعدى مئة سنة.
لكن الحدث الأبستمولوجي البارز الذي ظهر في هذا العصر والذي استأثر، بالدرجة الأولى، باهتمام الجابري، هو قيام عدد من المفكرين الرواد في هذه الفترة بعملية تأصيل واعية لعلومهم ومذاهبهم. والتأصيل هو تأسيس الأصول والمبادئ التي تحدد منهجية العلماء والمفكرين ورؤيتهم للعالم، وبعبارة أخرى: طريقة تفكرهم وإنتاجهم للمعرفة. ويمكننا القول بأن عملية تأصيل المذاهب ظهرت في وقت مبكر نسبيا، خاصة مع مؤسس فرقة المعتزلة واصل بن عطاء الذي توفي سنة 131 هجرية. ومن أشهر أصول المعتزلة: العدل والتوحيد. لكن أهم إنجاز ابستمولوجي عربي في هذا المجال، أي مجال التأصيل الواعي للعلوم، تحقق في الواقع علي يد محمد بن ادريس الشافعي الذي توفي سنة 204 هجرية. فإلى هذا الإمام الكبير والفقيه الجليل، وبشهادة جميع مؤرخي الفكر الإسلامي، يرجع الفضل في تأسيس ما يسمى حاليا بالعقل البياني العربي. فالشافعي هو الذي أسس علم الأصول الذي يشرع للمشرع حسب تعبير الجابري. فإذا كان الفقه يشرع الأحكام، أي القوانين الفقهية، للمجتمع، فإن علم الأصول يحدد المبادئ وطرق التشريع للفقيه. إن علم الأصول حسب شهادة أحد المفكرين، أوردها الجابري، هو العلم «الذي ابتكره المسلمون لأول مرة، والذي لا نجد له نظيرا لا عند اليونان والرومان في الغرب ولا عند البابليين والصين والهند وإيران ومصر في الشرق، ولا في أي مكان آخر». 6
إن كتاب الشافعي المعروف ب»الرسالة» هو في الأساس كتاب في علم أصول الفقه. لكن سرعان ما استلهمت منه العلوم العربية المشهورة الأخرى أصولها، وخاصة النحو والبلاغة وعلم الكلام. فالأمر هنا يتعلق إذن بقواعد للتفكير تشمل عدة علوم. وهذا ما دفع البعض إلى أن يقول عن الشافعي إنه ديكارت العرب.
والمبادئ أو الأصول التي حددها الشافعي في كتابه الرسالة هي: القرآن، والسنة والإجماع والقياس. وقد تبنى هذه الأصول الفقهاء في المذاهب السنية الأربعة المعروفة إضافة إلى علماء النحو واللغة وإلى المعتزلة وإلى الأشاعرة والفرق المقربة من هاتين الفرقتين الكلاميتين الأخيرتين كالزيدية والماتريدية. وقد استلهم الجابري مفهوم النظام المعرفي»épistémè»، من الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، فجمع الفقه والنحو والبلاغة وعلم الكلام في قطاع معرفي واحد داخل الثقافة العربية الإسلامية وأطلق عليه اسم النظام المعرفي البياني. ويشتمل كتاب «تكوين العقل العربي» و»بنية العقل العربي» على فصول كثيرة يتحدث فيها الجابري عن تشكل وتطور هذا النظام المعرفي وعن الإشكاليات الابستمولوجية المتشابكة التي أثارها المفكرون العرب داخل هذا القطاع المعرفي الواسع.
ولابد لنا هنا من الوقوف قليلا عند خاصيتين اثنين أساسيتين تميزان هذا النظام المعرفي البياني: فمن جهة كان الهدف الرئيسي للمفكرين البيانيين العرب هو تبيان وإظهار وإفهام المعاني الحقيقية للنص الديني المتمثل في القرآن والسنة. وكانوا يدركون بأن الوسيلة الأساسية الوحيدة التي تمكنهم من تحقيق هذا هو ضبط وتقنين وتقعيد اللغة العربية نحوا وبلاغة. ولهذا فإنهم لم يكونوا مضطرين للاستعانة بعلوم أجنبية، أي: غير عربية. فالأدوات والمضامين المعرفية التي كانوا بحاجة إليها كانوا يبحثون عنها في النص الديني وفي كلام العرب. وهذا ما جعل الجابري يصف هذه العلوم البيانية بأنها علوم عربية خالصة، ويقول عنها أحيانا بأنها تشكل الموروث الخالص في الثقافة العربية الإسلامية.
ومن ناحية ثانية فإنه بالرغم من انطلاق جميع البيانيين، بما فيهم المعتزلة، من أصول ومقدمات ومعتقدات دينية لم يكونوا يقبلون إطلاقا بالطعن فيها أو التشكيك في صدقها، فإنهم كانوا جميعا، ولو بدرجات متفاوتة، يعتمدون في تفكيرهم على أساليب استدلالية عقلانية كان لها دور كبير في غزارة الإنتاج الفكري والعلمي في الثقافة العربية الإسلامية قبل عصور الانحطاط. وهذه العقلانية المحدودة هي التي جعلت الجابري يسمي أيضا البيان بالمعقول الديني.
والثقافة العربية الإسلامية لا تشتمل على النظام المعرفي البياني فقط، بل تشتمل أيضا على نظاميين معرفيين آخرين هما، حسب الجابري، العرفان والبرهان.
يذكر الجابري أن خالد بن يزيد، أي ابن الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، هو أول من استدعى بعض المثقفين المسيحيين وطلب منهم ترجمة بعض العلوم السحرية السرية إلى اللغة العربية كالكيمياء والطب والتنجيم. ويبدو أن نتائج جهود خالد بن يزيد الذي توفي سنة 85ه لم تظهر إلا في بداية عصر التدوين مع جابر بن حيان الذي اشتهر في صناعة الكيمياء. وللتوضيح نقول بأن المقصود بالعلوم السحرية السرية الأجنبية ما ينتمي منها إلى الثقافة العالمة المكتوبة والتي تشكل مجال اهتمامات الجابري النقدية والابستمولوجية. أما الأساطير والخرافات الشفوية التي تنتمي إلى الثقافات الشعبية والموجودة في كل المجتمعات، بما فيها المجتمعات العربية، قديما وحديثا، فإنها لا تدخل ضمن اهتمامات الجابري الفكرية. وهذه العلوم السحرية كانت في الواقع تنتمي إلى مجال معرفي واحد بدأ يزدهر منذ أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني للميلاد في مراكز فكرية عديدة في الشرق الأوسط كالإسكندرية وأنطاكيا وحوران ومراكز أخرى في العراق وإيران. ويتضمن هذا المجال المعرفي الواحد إلى جانب العلوم السحرية التجريبية، آراء ومذاهب فلسفية ودينية متنوعة ولكنها متقاربة. ويرى الجابري بأن أقوى تيار فكري يمثل هذا المجال المعرفي الموحد هو ما يسمى بالفلسفة الهرمسية.
ويمكننا تلخيص التصورات الميتافيزيقية واللاهوتية لهذا التيار في ما يلي: الإله المتعالي منزه تنزيها مطلقا، الإله الصانع هو الذي يدبر شؤون الكون وليس الإله المتعالي، الكائنات السماوية من عقول وأفلاك تؤثر في جميع الكائنات الأرضية، نفس الإنسان أو روحه من طبيعة سماوية إلهية، هناك مماثلة بين بنية العالم وبنية الإنسان وكأن العالم إنسان كبير أو الإنسان عالم صغير، سعادة الإنسان تتحقق بتحرر روحه من جسمه وعودتها إلى أصلها الإلهي في السماء، وتسمى هذه العودة في الأدبيات الهرمسية بالميعاد. أما في ما يتعلق بنظرية المعرفة في الفلسفة الهرمسية فيمكننا أن نوجزها في أن الحقيقة سر لا يعرفه إلا من تمكنت روحه من الاتصال مباشرة بالذات الإلهية، فحينها فقط تتمكن الروح من مشاهدة الحق جليا ساطعا لا يفصلها عنها أي حجاب. ويسمى هذا النوع من المعرفة بالغنوص أو العرفان.
هذا المجال المعرفي الهرمسي يشكل إذن نظاما معرفيا واحدا أطلق عليه الجابري اسم النظام المعرفي العرفاني، أو باختصار العرفان. ويمكنني أن ألخص للقارئ الفكرة المركزية في هذا النظام المعرفي في عنوان واحد هو: ازدراء العقل والحياة والواقع. فالمجهود الفكري أي العقلي لجميع المثقفين داخل هذا النظام المعرفي يهدف أساسا إلى تعطيل وظيفة العقل المتمثلة في إنتاج المعرفة، التي يفهم بها الإنسان ذاته وحياته وواقعه ويدبر بها شؤونه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فبدل العقل يتحدثون عن الروح، وبدل الحياة يتحدثون عن الخلاص، وبدل الواقع يتحدثون عن الإله السماوي. نحن هنا إذن أمام عقل يبرر استقالته ويدافع بكل قواه عن اللاعقل. ولهذا أطلق الجابري أيضا على هذا العقل اسمين لهما دلالة بالغة وهما اللا معقول العقلي والعقل المستقيل.
وفي الواقع، بدأ هذا العقل المستقيل في الظهور بعد تراخي العقلانية الأرسطية خلال المرحلة الهلينستية التي تمتد من نهاية القرن الرابع قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام. وقد عرف هذا التيار اللاعقلاني انتشارا كبيرا، توج بظهور الفلسفة الهرمسية في الشرق الأوسط خلال القرون الأولى بعد الميلاد، وصاحب ذلك انتشار الغنوصية والمانوية واشتداد الصراع بين المسيحية واليهودية، وظهور ما يسمى بالفيتاغورية الجديدة والأفلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية، حسب تعبير الجابري. وانتقل هذا الفكر فيما بعد سريعا في أوساط العديد من المفكرين ورجال الدين والسياسيين العرب فشكلوا بعلومهم ومذاهبهم وفرقهم قطاعا معرفيا عريضا في الساحة الثقافية العربية الإسلامية أطلق عليه الجابري اسم: النظام المعرفي العرفاني. يقول المستشرق ماسنيون بأن الشيعة هم أول من تهرمس في الإسلام. وبالفعل تشير المصادر التاريخية إلى أن أقوال بعض الغلاة من الشيعة الأوائل تتضمن عددا من الأفكار الهرمسية التي يكونون قد اطلعوا عليها في مدينة الكوفة. ومن بين هؤلاء البيان ابن سمعان والمغيرة ابن سعيد اللذان قتلا سنة 119ه. وفي منتصف القرن الثاني للهجرة ظهر في الكوفة أول متصوف في الإسلام وهو أبو هاشم الكوفي الذي تنسب إليه هو أيضا أقوال ذات مضمون هرمسي. ويعتبر كتاب إخوان الصفا أول مؤلف إسلامي تضمن بشكل واضح وصريح آراء الفلسفة الهرمسية. وتشير المصادر التاريخية إلى أن الإمام الشيعي الاسماعيلي أحمد بن عبد لله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق هو الذي أشرف على تأليف هذا الكتاب في منتصف القرن الثالث للهجرة.
أما بالنسبة لمؤلفات المتصوفة الأولى التي تتضمن آراء فلسفية فإن الجابري يشير بهذا الخصوص إلى كل من أبي القاسم ابن محمد الجنيد المتوفى سنة 297ه وإلى أبي المغيث الحسين ابن منصور الحلاج الذي قتل سنة 309 ه.
يتضح لنا مما سبق أن الشيعة والمتصوفة هما أكثر الاتجاهات الفكرية تأثرا بالفلسفة الهرمسية في الثقافة العربية الإسلامية. وبالرغم من الاختلاف الكبير بينهما على المستوى السياسي فإنهما على المستوى الابستمولوجي ينطلقان من أسس ورؤى متقاربة. ويناقش الجابري بتفصيل في كتابيه اللذين أشرت إليهما سابقا هذه المبادئ والرؤى منذ ظهورها وتطورها في صيغتها النسقية خلال الفترة التي تمتد من القرن الثالث للهجرة إلى بداية عهود الانحطاط. وإذا كانت الفلسفة الهرمسية قد تسربت مبكرا إلى الثقافة العربية الإسلامية فإن ترجمة منطق وفلسفة أرسطو لم تبدأ إلا في وقت متأخر نسبيا أي في عهد الخليفة المامون الذي توفي سنة 218ه. لقد أدرك هذا الخليفة العباسي المستنير خطورة التوظيف السياسي للاعقل الهرمسي من طرف المعارضة الشيعية فلجأ إلى العقل الكوني الأرسطي ليواجه به خطر اللاعقل المسيس ضمن استراتيجية تعتمد الحوار الفكري من جهة والحزم الأمني من جهة ثانية. وقد اتبع الخلفاء العباسيون الذين جاؤوا بعده نفس الاستراتيجية الثقافية لمدة طويلة. وبالفعل كان لهذه الاستراتيجية العقلانية الدور الحاسم في إنعاش وإحياء العقل الكوني اليوناني خلال القرنين الثالث والرابع للهجرة بفضل الترجمات الجيدة لبعض كتب أرسطو التي أشرف عليها حنين بن اسحاق وابنه اسحاق بن حنين اللذين لقيا رعاية وتشجيعا من طرف الخلفاء العباسيين. ويعتبر الكندي أول فيلسوف عربي بالرغم من أنه لم يكن مطلعا على جميع كتب أرسطو. ومنذ وفاة اسحاق بن حنين في أواخر القرن الثالث للهجرة عرفت مدرسة بغداد المنطقية إشعاعا عقلانيا لا نظير له منذ وفاة أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الثالث عشر للميلاد. وقد ترأس هذه المدرسة المنطقية كل من متى بن يونس ويحيى بن عدي وأبي سليمان السجستاني وذلك طيلة القرن الرابع للهجرة. ونشير في هذا السياق إلى أهم حدث علمي في تاريخ العلوم والتفكير العقلاني وهو تمكن العربي من العثور على كتاب «البرهان» لأرسطو الذي كانت السلطات الرومانية من قبل قد منعت تداوله منعا صارما. وقد لعب كل من الفارابي ومتى بن يونس الدور البارز في ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية وفي تدريسه للطلبة العرب آنذاك. ولابد أن نشير أيضا إلى أن بن رشد هو الذي تمكن من نشر وشرح جميع كتب أرسطو، ومن تنقيتها وتخليصها من التحريفات والتشويهات التي سببت الاضطراب والالتباس في فهم الفلاسفة العرب الأولين لأفكار وآراء معلمهم الأول.
وهكذا نخلص إلى القول بأن التوجه العقلاني في المجتمعات العربية قد بدأ في الظهور بعد وفاة الإمام الشافعي مباشرة، وهو يشكل طريقة في التفكير تختلف عن طريقة البيانيين وعن طريقة العرفانيين. ولهذا فهو يمثل بنية معرفية متميزة أطلق عليها الجابري اسم «النظام المعرفي البرهاني» وباختصار: البرهان.
وقد يتساءل القارئ ما الجدوى من هذا التصنيف الثلاثي الذي قام به الجابري لقطاعات الفكر العربي الإسلامي ومن توظيفه للمفاهيم الابستمولوجية التي استلهمها من فوكو وباشلار وبياجي وفرويد وغيرهم في دراسته لهذه النظم المعرفية الثلاثة؟ ما علاقة كل هذا المجهود بما نحن في حاجة إليه اليوم؟ فحاجتنا الملحة والمستعجلة الآن هي تحديث وتجديد خطابنا بما فيه خطابنا الديني.
4 – من أجل استراتيجية شاملة لحوار ثقافي هادئ وعميق
أستسمح القارئ لأسترسل قليلا، قبل الإجابة عن هذا التساؤل، كي استكمل الصورة التي يقدمها الجابري عن الفكر الإسلامي، مع التأكيد بأن هذه الصورة موجزة جدا.
إن النظم الثلاثة التي تحدثنا عنها كانت منذ نشأتها تتداخل في ما بينها في علاقة تصادم أحيانا وفي علاقة تصالح أحيانا أخرى. لقد مر الفكر الإسلامي حسب الجابري بثلاث مراحل نذكرها هنا بإيجاز شديد. نسمي المرحلة الأولى بمرحلة أزمة الأسس أو مرحلة التداخل التكويني. يؤكد الجابري بأن مختلف العلوم في هذه النظم المعرفية الثلاثة كانت تعاني من أزمات ابستمولوجية منذ نشأتها، ولهذا سماها بأزمة الأسس. ولا يسمح لنا حيز هذه المقالة بالتعرض لهذه الأزمات. وفي نفس الوقت كانت العلاقات بين البيان والبرهان والعرفان تتميز في هذه المرحلة الأولى من تطور الفكر العربي الإسلامي، بالتصالح أحيانا وبالتصادم أحيانا أخرى. وبالرغم من هذه الأزمات والصدامات فقد امتازت الثقافة العربية الإسلامية في هذه المرحلة بالذات بازدهار فكري رائع وبغزارة في الإنتاج المعرفي لا مثيل لهما. يكفي أن نذكر في الفقه والحديث مثلا: الأئمة الأربعة السنيين والبخاري ومسلم والنسائي وأبي داوود وغيرهم، وفي التفسير: الطبري وابن كثير والزمخشري والشركسي غيرهم، وفي النحو والبلاغة والعروض: الخليل بن أحمد وسيبويه وابن جني والجاحظ والعسكري وابن رشيق وغيرهم، وفي علم الكلام: أبا هاشم الجبائي والقاضي عبد الجبار وأبا الحسين البصري بالنسبة للمعتزلة وأبا الحسن الأشعري والقاضي الباقلاني والجويني إمام الحرمين، وفي مجال الفلسفة أي البرهان: الكندي والفارابي وابن سيناء وابن باجة، وفي مجال الفكر الشيعي: إخوان الصفا، ومدرسة خراسان وخاصة النسفي وأبا يعقوب السجي والرازي والكرماني وغيرهم، وفي الفقه الشيعي: نذكر القاضي النعمان في عهد الفاطميين. أما المرحلة الثانية فيسميها الجابري بمرحلة التداخل التلفيقي أو مرحلة تأسيس الأزمة ويمثلها بالدرجة الأولى الإمام الغزالي. فقد حاول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي الذي توفي سنة 505ه أن يؤسس لنظام معرفي يجمع فيه بين العرفان والبيان والبرهان، فحاول أن يوفق بين التصوف والمذهب الأشعري والفقه الشافعي السني والمنطق الأرسطي مع إقصاء الفلسفة إقصاء تاما. ونشير هنا إلى أن الغزالي أكد في فلسفته، رغم تكفيره للفلاسفة، على فكرة جوهرية هي فكرة التجويز التي تتناقض مع مبدأ أساسي في فيزياء أرسطو وفي الفيزياء الحديثة وهو مبدأ السببية. وكان الغزالي يهدف أساسا من إثبات فكرة التجويز أو العادة إلى تبرير المعجزات بالنسبة للأنبياء والكرامات بالنسبة للأولياء. وقد قام الغزالي في هذه المرحلة بما أسماه الجابري بعملية تفكيك لهذه النظم الثلاثة. فقد فكك العرفان إلى عرفان شيعي أبطله وعرفان صوفي أبقى عليه. وفكك الفقه، في مجال البيان، إلى عبادتين: عبادة جسمانية اجتماعية مخصصة للعوام، وعبادة روحية جعلها مقدمة للتصوف. أما في مجال البرهان فقد احتفظ بالمنطق ورفض الفلسفة كما قلنا. وبهذه العملية التفكيكية للنظم المعرفية الثلاثة التي تمت في مرحلة التداخل التلفيقي، يكون الغزالي قد أسس لأزمة العقل العربي المزمنة التي استمرت منذ عهده إلى اليوم، فبعد الغزالي أصبحنا أمام بنية فكرية مفككة ومعطلة أطلق عليها الجابري اسم البنية المحصلة. إن العقل الذي ساد في الفترة التي سماها الجابري الفترة «الغزالية الشهرزورية العثمانية»، هو عقل لا ينتج معرفة ولا منهجا ولا قيمة ولا رؤية في أي مجال من مجالات الفكر. بل هو عقل يحفظ ويستظهر ويردد ما قاله الآخرون، ويبحث عن الحلول الجاهزة عند السلف في الماضي البعيد. يلخص لنا الجابري وضعية العقل العربي قبل الغزالي بأنه كان «عقلا يبني منهجا ويشيد رؤية: في الحقل البياني وعلومه أولا، ثم في «الحقل العرفاني» و»أسراره» ثانيا، ثم في «حقل البرهان» وعلوم «الأوائل» ثالثا. في جميع هذه الحقول كان العقل العربي يشيد له مسكنا، ويبني عالمه ويبني نفسه في ذات الوقف: ينتج المعرفة أو ينقلها ويبني المناهج أو يطورها ويبتكر المفاهيم أو يكيفها أو يبيئها…».7
ويضيف الجابري في نفس السياق: «…وعلى الرغم من كل الثغرات والتناقضات التي أبرزناها في الفصول السابقة، وعلى الرغم من حضور اللا معقول، بهذه الدرجة أو تلك، في الحقول المعرفية الثلاثة التي مارس العقل العربي فيها فاعليته، فإن المرء لا يملك إلا أن يسجل، وبحروف غليظة، أن عالم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية في الفترة المذكورة كان عالما حيا، بل زاخرا بالحياة، وبالتالي فالمفاهيم كانت مفاهيم حية تحيل إلى عالم معرفي تحدده وتتحدد به…»8
ثم يلخص لنا وضعية هذا العقل بعد الغزالي، فيقول: «.. أما بعد لحظة الغزالي التي ابتدأت معها ما أسميناه هنا ب «التداخل التلفيقي» بين النظم المعرفية ومفاهيمها فإن «وضع» العقل العربي يختلف تماما: لقد توقفت عمليتا البناء والتبيئة، بل إن البناءات الثلاثة قد تفككت إلى قطع. وهكذا انصرف كل المجهود الفكري إلى المعاني التي أعطيت لهذا المفهوم/الكلمة أو ذاك. لم يعد المفهوم أداة نظرية تكشف علاقات وتحيل إلى عالم من المعرفة قائم، بل أصبح مجرد كلمة أو لفظ…».9
ولاستكمال هذه الصورة المختصرة اختصارا شديدا نشير إلى أن الجابري يؤكد بأن الثقافة العربية الإسلامية في المغرب والأندلس عرفت مسارا تجديديا مع كل من ابن تومرت وابن حزم وابن باجة و ابن رشد والشاطبي وابن خلدون. لكن هذا المسار توقف وعم الشلل الفكري جميع أقطار العالم الإسلامي.
ولتجاوز أزمة العقل العربي المزمنة دعا الجابري إلى عصر تدوين جديد، فحدد في خاتمة كتابه «بنية العقل العربي» ثلاث سلط هي سلطة اللفظ وسلطة الأصل وسلطة التجويز، وأكد على ضرورة التحرر من هذه السلط لتحقيق ما أسماه بالاستقلال التاريخي التام وهو مفهوم استلهمه الجابري من المفكر الاشتراكي الايطالي غرامشي.
قد نتفق أو نختلف مع الجابري في تحليلاته وآرائه ومواقفه ومع ذلك أرى أن مشروع الجابري النقدي يشكل أرضية مهمة لبلورة استراتيجية شاملة لحوار ثقافي هادئ وعميق.
نعم نحن في حاجة إلى مثل هذا الحوار الشامل في هذا الظرف التاريخي العصيب. ولا بد، في نظري، للمثقفين العرب الجادين وفي طليعتهم الحداثيين العقلانيين أن يتجاوبوا مع كل دعوة وكل مجهود لتجديد وتحديث الخطاب العربي عامة والخطاب الديني خاصة. ولكي لا تكون مثل هذه الدعوات كما كانت من قبل عند الأفغاني وعبده مجرد دعوة إلى الاستفادة من المعارف والعلوم والتقنيات الحديثة. يجب أن يهدف الحوار الذي ندعو إليه إلى تجديد الأسس والمبادئ والمناهج والآليات والتصورات الأساسية التي ننتج بها معارفنا وعلومنا. لقد تبين لنا من خلال تتبع تطور العلوم بأن تجاوز الأزمة لا يتم إلا من خلال مراجعة الأسس والمناهج والمفاهيم الأساسية التي تنتج المعارف والنظريات والأنساق. وهاهو الجابري يبين لنا من خلال تحليلاته الابستيمولوجية بأن العلوم العربية الأساسية كعلوم اللغة وعلوم الأصول كانت تعاني منذ بداية نشأتها في عصر التدوين من أزمة في الأسس. وفي كتابيه المشار إليهما يقدم لنا تفاصيل وأمثلة وافية عن هذه الأزمة في العلوم البيانية والعرفانية والبرهانية. ويكفي أن أشير هنا على سبيل المثال إلى تحليله العميق لأصل الإجماع والقياس في علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. ويبدو لي أن دعوة الجابري إلى إعادة النظر في هذين الأصلين اقتراح وجيه نأمل أن يؤخذ بعين الاعتبار من طرف الداعين إلى تجديد الخطاب الديني. ولا بد أن ننوه بأن الأمر عند الجابري لا يتعلق بأزمة في الدين أو أزمة في النص الديني الأصل بل بأزمة في الأسس حدثت بعد ظهور الإسلام بقرن و نصف قرن من الزمن. وهي في الأصل أزمة داخلية لم تسببها عوامل خارجية. فالأزمة حدثت أول مرة في الفقه بين إمامين جليلين هما أبو حنيفة و مالك اللذين اختلفا في «الأصل»: هل يكون هو: الرأي، أم يكون هو: الحديث؟ وجاء الشافعي ليوفق بينهما فصاغ الأصول الأربعة التي أشرنا إليها.
والجابري حينما يدعو إلى التحرر من سلطة «الأصل» فإنه في الواقع يدعو إلى اعتماد وسائل حديثة لإنتاج حلول حديثة لمشاكل جديدة بدل البحث عن حلول جاهزة في مصنع قديم لا يصنع إلا حلولا قديمة لا تجدي نفعا في معالجة مشاكلنا المعاصرة.
ومن ناحية أخرى فإن نظرية المعرفة التي استفاد منها الجابري كثيرا قد حققت انجازات مهمة للغاية يمكن توظيفها في مجالات كثيرة كالتربية والتعليم والتواصل. وإذا كان الجابري يلح باستمرار على ضرورة الفصل المنهجي في البحث بين ما هو ابستمولوجي وما هو ايديولوجي فإننا بدورنا نشدد على أهمية هذا الفصل في الحوار الذي ندعو إليه لأن التحليل الابستمولوجي يحقق في نظرنا درجة عالية من الهدوء والموضوعية أثناء تحليل الإشكاليات والأزمات في مجال المعرفة. ففي ميدان الابستمولوجيا لا مجال للإدانة ولا للإقصاء، والمفكرون لا يعتبرون الأزمة الابستمولوجية فضيحة ولا فتنة ولا عيبا ولا تخلفا ولا انحرافا، بل يعتبرونها فرصة مفيدة ولحظة ضرورية في تطور المعرفة. ولا أظن أن أحدا يقرأ الجابري ولا يلاحظ درجة الهدوء العالية التي اتسمت به تحليلاته رغم حساسية المواضيع التي تطرق إليها في جميع كتبه.
لكن الهدوء الذي نتحدث عنه هنا ليس هو هدوء من لا يبالي بالخطر، ولا هدوء المحايد السلبي تجاه قضايا وطنه المصيرية. فالجابري كان يعلن في كل مناسبة بكل وضوح عن انحيازه اللامشروط للعقل والحداثة والتقدم ولهذا فإن المثقفين العقلانيين مطالبون، انسجاما مع توجههم العقلاني ذاته بالتحلي بالهدوء والموضوعية والحزم في نفس الوقت. والحزم في مجال التفكير هو الجرأة في الوضوح وليس الإساءة أو التحريض العدواني. والحزم يقتضي منا أن نكون صريحين وأن نقول بأن الخطر يكمن ها هنا: في جمود الفكر وتحجر القيم.
والمشكلة لا تكمن عندنا في أن نختار بين أن نجدد أو لا نجدد، بل تكمن في أن نجدد في الوقت المناسب. إن التجديد مفروض على الجميع شاء من شاء وكره من كره. إن المشكلة عندنا هي أننا نكون دائما مضطرين إلى تغيير أفكارنا وقيمنا وطرق تفكيرنا وعيشنا، ولكن، ودائما، بعد فوات الأوان، أي في الوقت الذي يكون فيه الآخرون قد جددوا وطوروا وأنتجوا ما يريدون استهلاكه، في حين نحن نستهلك دائما ما كنا نرفضه من قبل. بالأمس كانوا يقولون: التصوير حرام، وها نحن اليوم نجد أكثرهم تطرفا، يتلاعب بالتصوير في الانترنيت بدون أدنى شعور بالذنب. ولهذا علينا أن نكون حازمين وواضحين مع الرأي العام، ونطالبه بأن يحدد اختياره: إما أن يكون مع الحداثيين العقلانيين الذين يوجدون دائما في مقدمة القطار يوجهون مساره وينظرون إلى الأفق الذي يقترب باستمرار ويأتي معه بالجديد، وإما أن يكون مع المتحجرة عقولهم الذين يوجدون دائما في مؤخرة القطار ينظرون إلى الأفق الذي يبتعد باستمرار ولا يأتيه إلا ما سبق أن رآه الآخرون في المقدمة. وهؤلاء وأولئك لا يستطيعون الخروج من قطار التاريخ لأنه قطار لا يتوقف ولو للحظة واحدة.
الهوامش:
محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط:9، ص:5
محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم،.مركز الدراسات الوحدة العربية، ط:8، ص:11و12
المرجع نفسه، ص:137
محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط:1، ص:17
محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي، ص:71
المرجع نفسه،ص:99 و100
محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط:7، ص:507
و9 – المرجع نفسه، ص:509


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.