دائما أبعد من النهار أقيم في هذه المدينة المتوحشة، الآكلة لأرواح ولحوم البشر، التي لا تبكي على الإطلاق سواء من أجل نفسها أو من أجل أي أحد، منذ ما يناهز العقدين، ولم يحدث قط أن جادت الصدفة العمياء بلقاء الصديق محمد عنيبة الحمري نهارا.حسنا فعلت المقادير والتصاريف!.. فالنهار للأصباغ والأقنعة. النهار للبلهاء ومشاهدي القناة الأولى. النهار ماهو سوى كلب..كلب أجرب. الآن، فهمت لماذا لانعثر على النهار في أشعار محمد عنيبة الحمري. فالنهار وعاء الزهرة الفارغ، والليل حديقة كاملة.النهار ملك للطيور ذوات الأجنحة الواحدة، أما الليل فسماء تحلق في أفقها الطيور الجريحة. الآن، أدركت لم كلما قرأت قصائد هذا الذي أسميه ب «عامل صاحب الجلالة على أقاليم الليل» إلا وجلبت الدموع إلى مآقي.الرجل يذهب دائما أبعد من النهار، لذلك لديه توق جارف لكتابة الأعمال الكاملة لليل.. الليل الذي يندى له جبين أي نهار. فالعمى في أشعاره هو الضوء.الموسيقى ريح خفيفة بين الكراسي. العبارة نقاء اللهب المطهر للجرح.العاطفة للمنتحرين الذين يقتلون أنفسهم بسبب غياب أدنى طرق على صدر الباب. الناس ثعالب بئيسة تخرج من مخابئها القصية وجحورها الضيقة بحثا عن القطن. الوقت «أوان منكسر» كرقيقات الزجاج، والوجود كائن لاينكس الكأس ولايتقهقر باكرا إلى البيت . ثمة إعجاب سرمدي لانهائي ميتافيزيقي يراودني صوب الشاعر. أحب أن أغمس يدي ممدودة كل المد معه في عصيدة الليل. أحب أن أتلصص عليه،وهو يولد من الشفق ، ويحبو في اتجاه مملكة الظلام. أحب فضة قلبه المبتهجة ، وأسنانه الضاحكة في وجه قباحات وحماقات الحياة ، التي طالما كانت في عرفه مجرد ريش تبدده الرياح .أحب الحدوس التي يغمز لها ويستدرجها مخفورة بالفتنة وبراعة الصوغ إلى تخوم المبسط..كيف يغريها وكيف يربطها بحبال الوهم والاستعارة. كيف يستمتع بارتباكات الفريسة بين عيون شبكة الخيال، وكيف ينفج الصائد الكامن فيه لدرر الحرف إثر وثبة الطريدة. ثم كيف يضعها في الكيس ليحملها معه إلى مطبخ الكتابة الطاهر. صاحب منهج للقنص بكل هذا البذخ، بالتأكيد، هو شاعر حقيقي، لذلك أحبه. أحب نبله الواضح كالصوان الشفاف. أحبه مشعا ومنبسطا كلسان نظيف وعفويا مثل كرنفال من الفرح. لحظتها، يسير على الكريستال.يسيل يسيح على الجمال . يراقص ظله. يصير ضوءا يضيء نفسه دون أن يطفئ الآخرين. يتحول إلى عاصفة سعيدة، لكنها رقيقة الحاشية مثل هذب جفن. لحظتها يفنى القارئ ويبقى الشاعر. يفنى حين يبطل شعوره بكل ما حوله وتتعطل حواسه الظاهرة، فلا يدرك ما هو خارج القصيدة شيئا مما حوله. ويبقى الشاعر بعد أن يفقد كل حس، ويفقد كل حس بفقدان ذلك الحس . تبطل مفردات الوجود الشعري وتتحقق ذات وجد الشاعر ويرتفع الفرق بين عاقل النص ومعقوله. أعود من شطحي إلى السطح، لأجرب ربط خيبة محمد عنيبة الحمري، التي استشعرها تحت جلد كلماته وسوانح خواطره كلما التقينا. خيبته كشاعر مغربي كبير وعميق داخل شرنقة عزلته، لم ينل ما يستحق من حظوة وتقدير وتوقير خليق به و بمساره الأدبي التليد .كأنه يقول لي جوابا ضمنيا على مسوغ جحود الوقت وكساد اللمعان: «إنها خيبة شعب بأكمله»!.. أعاود تجريب ربط الخيبة في وتد آخر، فأجدني أضعه في شرك هزيل، لأن الشاعر من محتده الفذ مثله تعود على الكتابة بشكل خفي، على أشغال اللامرئي، على النأي عن مساقط الضوء الساطع، وعلى جعل وقت الحياة كله شمعة خفيفة شاحبة الإنارة. صرخة في مسرح خاو إنه شاعر «لاتجف صفحاته أو تضيع من كفه المحبرة». حرق الكلمات ألمت به منذ ستينيات القرن الماضي، عندما جدد أنساغ الكتابة الشعرية المغربية بديوان (الحب مهزلة القرون) (1968). وهاهي الحرق ذاتها، شأن من نذر نفسه لتضميد جرح الحياة بالشعر، تعاوده بعد أن اشتد وقرها في الذائقة وقويت شكيمتها في الحرفة، في ديوانه الثامن الموسوم ب (تكتبك المحن) (2013). محن الشاعر كريمة العناصر من صلب مساره السيري الطاعن في الليل الأشد حلكة للوجود، الساعي إلى اقتناص الجمال بمكيدة الخيال. فخلجانه مفتوحة الحدس على المشاهدة والتجربة والحكمة. متضامة كالأطياف ومتعانقة مثل ثلاث منظورات في لوحة تكعيبية: محن الذات، محن الآخر، ومحن الأشياء. إنها مكابدة لحرف «لايدرك الهائمون مداه «وسفر باطني بمسافة مديدة» يشرب الهم أنفاسها فتموت». مكابدة وسفر يعتبرهما الشاعر طقسا خاصا وحميميا له نبراس في السرائر، لا قوانين معلنة على الملإ. وفي الواقع فإن محنة الذات هي عينها محنة الآخر كما لو أننا نرنو إلى حجر بلوري من زاويتين مختلفتين، وما استبطان التاريخ سوى قناع مستعار عن خيبة الشاعر الذي لاينتظر إنصافا أو اعترافا من أحد. يتغلغل الشاعر ويتسرب إلى ما وراء هذا الظاهر ليصور الأشياء كواقع داخلي له مستوياته الكتيمة وطبقاته الغميسة، التي تطلبت من الشاعر أن يعصر ويقطر عمرا بأكمله حتى يدرك بأن الأشياء ماهي في المحصلة النهائية للوجود سوى قبض إناء « تكسر في غفوة، فإذا ما انتبهت، لم تجد بيديك منه غير بقايا خزف». بالتأكيد، هي شعرية الشظايا ومزق الروح المكلومة الرائية التي رسخها الشاعر في ديوانيه السابقين (سم هذا البياض) (2000) و(انكسار الأوان)(2006)، ليصقل مراياها من جديد بلغته المعتقة، وخياله الوثاب، وبصناعاته الإيقاعية المتجددة ، ودربته المحنكة التي لاتخفت حيلها في كتابة «محن» القصيدة، ثم «محوها» شعرا. فليظل محمد عنيبة الحمري بعيدا عن إعلانات أفضل صابون. عنيبة ليس هو القطار ،لأنه المحطة. ليس هو العصافير ، لأنه الشجرة. ليس هو المسافة، لأنه الطريق. و ليس هو الأجراس ، لأنه الكاتدرائية. عنيبة ليس هو المسرح، هو الصرخة في المسرح الخاوي.عنيبة ليس هو الأضواء، هو انطفاء كل الأضواء. عنيبة هو المقاعد الخلفية. عنيبة هو الحب في الظلام ..هو القبلة في وضح القصيدة.