أقيم هنا في هذه المدينة، التي لا تبكي من أجل أحد، منذ أكثر من عشر سنوات ونيّف، ولم يحدث أن التقيت الصديق محمد عنيبة الحمري نهارا. حسنا، فعلت الصدف. فالنهار للأصباغ والأقنعة. النهار للبلهاء ومشاهدي القناة الأولى. النهار كلب أجرب. الآن، فهمت لماذا لا نعثر على النهار في أشعار محمد عنيبة الحمري. فالنهار وعاء الزهرة الفارغ، والليل حديقة كاملة. النهار ملك للطيور ذوات الأجنحة الواحدة، أما الليل فسماء تحلق في أفقها الطيور الجريحة. الآن، فهمت لماذا كلما قرأت قصائد محمد عنيبة الحمري إلا وجلبت الدموع إلى عيوني. الرجل يذهب دائما أبعد من النهار، لذلك لديه توق جارف لكتابة الأعمال الكاملة لليل.. الليل الذي يندى له جبين النهار. فالعمى في أشعاره هو الضوء.. الموسيقى ريح خفيفة بين الكراسي.. العبارة نقاء اللهب المطهر للجرح.. العاطفة للمنتحرين الذين يقتلون أنفسهم بسبب غياب أدنى طرق على صدر الباب.. الناس ثعالب صغيرة تخرج من مخابئها بحثا عن القطن.. الوقت «أوان منكسر» كالزجاج.. والوجود كائن لا ينكّس الكأس ولا يتقهقهر باكرا إلى البيت. ثمة إعجاب لانهائي وميتافيزيقي يراودني صوب محمد عنيبة الحمري. أحب أن أغمس يدي معه في عصيدة الليل. أحب أن أتلصص عليه وهو يولد من الشفق، ويحبو في اتجاه مملكة الظلام. أحب فضة قلبه المبتهجة، وأسنانه الضاحكة على طريقة شارل بوكوفسكي في وجه الحياة التي طالما كانت في عرفه ريشا تبدده الرياح. أحب الحدوس التي يغمز لها، ويستدرجها إلى المبسط، كيف يغريها ويغويها بالجعة تلو أختها، وكيف يربطها بحبال الوهم والاستعارة كي يضعها في الكيس ليحملها معه إلى سرير الكتابة الطاهر. صاحب منهج للقنص بكل هذا البذخ، بالتأكيد، هو شاعر حقيقي. لذلك أحبه في كل يوم أكثر. أحب نبله الواضح كالصوان الشفاف. أحبه مشعا، ومنبسطا كلسان نظيف، وعفويا ككرنفال من الفرح. لحظتها، يصير محمد عنيبة الحمري هو «المايسترو» كما أوثر أن أناديه. يسير على الكريستال. يسيل على الجمال. يراقص ظله. يصير ضوءا يضيء نفسه دون أن يطفئ الآخرين. يتحول في حضرة «السقاط» إلى عاصفة سعيدة، لكنها رقيقة الحاشية مثل هدب جفن. ياه... محمد عنيبة الحمري... كم هو كوكب صالح للحياة. جرّبت ربط خيبة محمد عنيبة الحمري، التي ستشعرها تحت جلد كلماته كلما التقينا، بهذه السطور. خيبته كشاعر مغربي كبير وعميق وغفير داخل عزلته، لم ينل ما يستحق من حظوة وتقدير وتوقير. كأنه يقول لي: «إنها خيبة شعب بأكمله». أجرّب، فأجدني أضعه في شرك هزيل، لأن الشاعر الفذ مثله تعود على الكتابة بشكل خفي، على أشغال اللامرئي، وعلى جعل وقت الحياة كله شمعة. يكتب في الهامش، ويعيش في الواجهة. ليكن ما جرّبت «داء الأحبة». وهو للنسيان. وليظل محمد عنيبة الحمري بعيدا عن إعلانات أفضل صابون. عنيبة ليس هو القطار، لأنه المحطة. ليس هو العصافير، لأنه الشجرة. ليس هو المسافة، لأنه الطريق. وليس هو الأجراس، لأنه الكاتدرائية. عنيبة ليس هو المسرح عنيبة هو الصرخة في المسرح عنيبة ليس هو الأضواء عنيبة هو انطفاء كل الأضواء عنيبة هو المقاعد الخلفية عنيبة هو الحب في الظلام... هو الحب في وضح القصيدة.