يجد الفنان التشكيلي، في فيلم الأذربيجاني «نبات» لمخرجه إلشين موسى أوغلو، ما يقنعه بأن اللوحات تنبع أيضا من الشاشة، وهو يتابع متوالية الفيلم، لوحة تلو أخرى، من قبيل التصوير تحت المطر للأرملة نبات تدفن زوجها، ويتجول الفنان كما لو كان في معرض متجول... كما يجد الشاعر أيضا ما يقنعه بأن الشعر موزع، طيلة ساعة ونصف وأزيد قليلا، وله أن يجلس أمام الشاشة ليصف و بلغة مباشرة ما يراه، وليصنع في النهاية قصيدة، غاية في الدهشة، كأن يكتب« في آخر الفيلم « وأخيرا وصلت الحرب تحت أنظار الذئاب». يحكي الفيلم قصة نبات، من أداء الإيرانية فاطمة معتمد اريا ، وهي سيدة متزوجة برجل اسمه ألكسندر، يقيمان في بيت بعيد عن قرية في الجبل. ينطلق الفيلم بصورتها وهي تحمل قارورتين من الحليب تبيعه إلى أحد الجيران، يقوم، وهميا ببيعه. المشتري يقول لوالدته بأنه يصعب عليه أن يخبر «نبات» بالحقيقة، أي أن الناس لم يعودوا يشترون الحليب من لدنه.. توصيه أمه بأن يبقي الأمر سرا، فليس لديها ما يعينها.. و في ذلك سرعان ما نكتشف أن في الأمر حيلة أخلاقية لكي يبقى مصدر الرزق قائما، لأن الزوجين لا يملكان سوى بقرة ، هي مبرر الوجود. وطوال الفيلم كانت الكاميرا والفرقة التقنية تركب عالما فريدا، حول امرأة وجدت نفسها، في منتصف الشريط وحيدة وعليها أن تملأ العالم. هي تبقي زوجها حيا، وتبقي صورة ابنها حاضرة ، عبر البحث عن صورته عند مصور القرية، ثم عند المسؤول عن القرية، ابنها الذي مات في حرب تصل صداها إلى القرية. الفيلم بالفعل فيلم عن الحرب، ولكن بدون حرب، بدون جنود وقتلى وجرحى ودمار واضح. هذه الحرب تملك منها نبات الفراغ الرهيب الذي اتسع مع هروب أهل القرية جميعهم، ووفاة زوجها وبقائها وحيدة مع البقرة اغجا، التي ستغادرها بدورها بعد أن غادر الضرع منها وجف الحليب. يبقى لها الذئب، الجوار الصعب، مع حيوان كان هو الشر وحده، عندما يعوي في الليل ، وتخاف منه وتستل بندقيتها وتطلق الرصاص في الهواء. قبل أن يقودنا الشين موسى أوغلو إلى معادلة فلسفية ، وهو يضع المرأة والذئب وجها لوجه. في الواقع لقد حفرت نبات حفرة للإيقاع بالذئب، ولما وقع في الفخ فعليا، أرادت قتله، ثم أحجمت عن ذلك. والعبرة ، في فيلم عن الحرب التي تفرغ العالم من سكانه هي أن عدوها الوحيد الذئب الذي لم تقتله نبات، ويبقى أن العدو الحقيقي هو الإنسان ذئب أخيه الإنسان. إذا كانت البقرة مبرر وجود السيدة الأرملة، فالذئب مبرر وجودها أخلاقيا.. تقضي نبات بياض نهارها في إشعال السراج في البيوت التي هجرها أصحابها، وتنشغل بأمور الغائبين.. المصلون على رأسهم، فتسهر على حماية العقيدة من الذين هجروها.. وتسهر على ضوء المسجد.ولم نرها في أية لحظة تصلي، تسهر على بيوت الآخرين وتشعل الإضاءة .. وهي تسمع أصداء الحرب ليلا، وتجد الآثار القليلة لدمارها في الصباح، وكل بيت تصيبه الحرب تشعل فيه سراجا، وتلك طريقتها في رد الحرب عن القرية، التي تسكن بعيدا عنها .. ويشعرنا المخرج بأنها سبب في الحفاظ على قريتها المهجورة تماما عندما ينقل لنا حوارا قصيرا للغاية بين مسؤول عسكري وآخر. يقول العسكري أنه لا أحد في القرية. ويسأله الكولونيل»هل استولوا هم الآخرون على القرية. فيجيبه لا، ثم يضيف لا أعرف لماذا. لماذا؟ لأن السيدة نبات موجودة، وهي تدفع الحرب إلى خارج القرية، وعندما تنطفيء المصابيح التي أشعلتها يصل الجنود، وتكون الأرملة ميتة في حالة جمود، واللحظة وصول الحرب إلى القرية ، في المشاهد الرهيبة والرائعة تبدو البطلة كما لو أنها تطفو فوق الطبيعة فنيا, وفوق الحياة، كتابة .. زوجها اعترف، في الحوار القليل معها بأنها كانت على حق، وكان عليهما أن يسكنا القرية عوض البقاء في البعيد فوق التلة .. لا كلام، كما لا حرب.فالحوارات قليلة منعدمة تقريبا، والحاجة إلى اللغة ليست ضرورية، كما لو أن الكلمات تدمر الصورة الفنية، وتلغي جمال الصورة والرسالة معا. الفيلم، من النوع الذي لا يحتاج إلى نهاية. لهذا عندما تظهر نبات في النهاية وهي مستسلمة إلى حالة جمود ووحدة، نشعر كما لو أن الفيلم بدأ من النهاية.. فهو فيلم بلا عواطف،ولا دموع، ولا ضحكات..حتى البقرة لم نسمع خوارها. البقرة نفسها تنتهي في الضباب يتبعها صوت نبات وصدى الجبال ، التي تردد صدى الحرب. لقد كسر الفيلم بجماليته الرهيبة أساطير العديد من السينمائيين المغاربة الذين يعتبرون أن كل صناعة سينمائية لا بد لها من مبالغ خيالية وإمكانيات هائلة، والحال أن الأرملة نبات يمكن أن تكون سيدة أطلسية أو ريفية، في أعالي القمم وهي تحاور وحدتها. كما أن الفيلم أعطى القيمة للتصور في صناعة الجمال والقيمة والسمو الفني، وليس فقط الشغف بالضجيج وبالحديث عن التمويل والميزانية.. التقدير الحقيقي للقوة الهائلة للأداء الذي تمكنت منه فاطمة معتمد الممثلة, هو بالفعل جائزة الأداء النسائي ، وهي التي تجر وراءها تجربة رهيبة في السينما القوية. ولدت فاطمة يوم 29 أكتوبر 1961، وخلفت تراكما فنيا كبيرا، من 13 فيلما، نالت جوائز كبيرة أو رشحت لها.. ويكفي أن الجمهور وقف طويلا يصفق لها عندما علم بأنها في قاعة عر ض فيلم نبات في مراكش.. وهو ما يرشح الفيلم بدوره للجائزة الكبرى. لعل أروع ما الفيلم هو الحالة الذهنية، فنيا وجماليا التي ترك عليها الحاضرين، من مستويات عديدة. وهي لحظة اقتسمها أهل الفن وأهل الإعلام وعموم المشاهدين. لقد صرخت برافو، وبعدها اعتبرت أن علي أن أصرخ شكرا لصاحب الفيلم والممثلة ، وهو شكر يليق بمن منحنا لحظة رفعة قوية .. شكرا إذن ممنون بالإيرانية تشكر اديريم