أهدف من هذا البحث إلى تشخيص الأعراض الأساسية لأزمة الوعي الإسلامي المعاصر.وأنطلق من فكرة مفادها أن الوعي الإسلامي دخل في أزمة حادة بل وشديدة الخطورة مع نفسه ومع العالم بأسره.وأكبر دليل على ذلك الوحشية غير المسبوقة لداعش وأشكالها.وهي أزمة لن تنفض أو قل لن تنحل قبل أن تحصل المصالحة الكبرى بين الإسلام والحداثة. وربما لن يتحقق هذا الهدف العظيم قبل ثلاثين أو أربعين سنة قادمة.ينبغي العلم بأن أزمة الوعي الإسلامي لا تختلف كثيرا عن أزمة الوعي المسيحي الأوروبي في المنعطف الكائن بين القرنين السابع عشر والثامن عشر.وهي الأزمة التي شخصها بول هازار في كتابه الشهير الذي أصبح كلاسيكيا الآن: أزمة الوعي الأوروبي.فالإنسان المسيحي آنذاك كان متأرجحا بين تصورين للعالم: التصور الديني التقليدي الموروث/والتصور العلمي الفلسفي الصاعد.فما يقوله الأول عن أصل العالم والإنسان والحياة على هذه الأرض يختلف كليا عما يقوله الثاني.ولذا وجد الإنسان المسيحي نفسه بين خيارين يمزقانه ويقلقانه.فإذا ما صدق الكتب العلمية الفلسفية شعر بأنه خان مباديء دينه وعقيدته المقدسة وفتاوى البابوات ورجال الدين.وهذا ما يؤلمه أشد الإيلام خصوصا في بدايات صعود الحداثة وحصول التفاقم الصراعي بين الوعي العلمي/ والوعي الديني.وإذا ما صدق المقولات الدينية وأشاح بنظره عن الاكتشافات العلمية الحديثة شعر بأنه انقطع عن حركة العلم والعصر.وفي كلتا الحالتين يشعر بالتمزق.وهذا هو المعنى الحرفي للأزمة.انك مشدود بين قطبين وتخشى أن تغضب أحدهما اذا ما اخترت الآخر.والأزمة إما أن تقتلك وإما أن تحييك وتنعشك وتخرج منها أقوى مما كنت عليه سابقا.وكما يقول نيتشه: الأزمة التي لا تقتلني تقويني.وحتما سبب نجاح الغرب وتفوقه على جميع النطاقات الحضارية الأخرى هي أن أزمته وصلت الى حل في نهاية المطاف.فالكنيسة الكاثوليكية البابوية التي حاربت الحداثة والأفكار الجديدة طيلة عدة قرون كان يمكن أن تقضي على مستقبل الغرب لولا أنها قبلت أخيرا بالعالم الحديث.وكان ذلك إبان انعقاد المجمع الكنسي الشهير باسم: الفاتيكان الثاني عام 1962.ففيه تمت المصالحة بين المسيحية والحداثة بعد طول صراع وعداء.ولم تعد تكفر قيم العالم الحديث:كحرية الضمير والمعتقد أي حرية التدين أوعدم التدين،وكالقبول بالتعددية الدينية والمذهبية داخل المجتمع،وكذلك القبول بالفكرة الديمقراطية وأن السيادة للشعب وليست لرجال الدين،الخ.. نفس الشيء ينطبق على العالم الإسلامي. الفرق الوحيد هو أن العالم المسيحي واجه المشكلة الأصولية قبل قرنين أو ثلاثة وحلها قبل نصف قرن أما نحن فقد ابتدأنا نواجهها اليوم. من هنا تأزمنا المتفاقم الذي أصبح يشغل العالم كله وليس نحن فقط. لقد أصبحنا مشكلة عالمية بل ومشكلة القرن الحادي والعشرين.والله وحده يعلم متى ستنحل أزمتنا المتفجرة حاليا بشكل غير مسبوق. على أي حال فأعراض الأزمة هنا وهناك واحدة. فكما تمزق الإنسان المسيحي الأوروبي بين التراث/والحداثة فإننا نتمزق نحن اليوم.وهذا ما يشعر به الإنسان المسلم حاليا. من هنا حيرته وضياعه وتمزقه بل وانفجاراته العنفية الهائجة.فالنظريات العلمية تناقض تصوراته الدينية الموروثة عن أصل الأرض مثلا أو عن كيفية تشكل الكون.فالنظرية العلمية تقول له بأنه تشكل قبل أكثر من ثلاثة عشر مليار سنة عن طريق الانفجار الهائل المدعو بالبيغ بانغ.ولكن الموروث الديني يقول له بأن عمر الخليقة لا يتجاوز ستة آلاف سنة.فأيهما يصدق؟إذا ما صدق نظريات علماء الفلك خان تصورات دينه وعقيدته وشعر بألم شديد وخاف من نار جهنم.وإذا ما صدق أقوال مشائخه خان العلم الحديث أو ضرب بنظرياته عرض الحائط وانقطع عن حركة التاريخ والعصر وتخلف عن الركب.من هنا قلق الإنسان المسلم المعاصر وتأزمه وتوتره.ولكن هناك أمثلة أخرى على هذا التأزم أخطر بكثير.فمثلا الأصولية الدينية تقول له بأن كل الأديان الأخرى محرفة مزورة ،ضالة، مضلة.وبالتالي فالدين الوحيد المقبول عند الله هو دين الإسلام فقط.وهذا يعني أن جميع الآخرين كفار من يهود ومسيحيين وبوذيين وكنفشيوسيين وهندوسيين الخ..من هنا الصراع الهائل المندلع حاليا بين الاصوليين الاسلامويين/ وكل الاديان الاخرى في الشرق والغرب. نحن لسنا في مواجهة مع الغرب الاوروبي- الاميركي فقط وانما مع العالم الروسي والصيني والياباني والهندي،الخ..كلهم يطرحون علينا نفس السؤال: لماذا تكرهوننا؟ لماذا تكفروننا؟ نحن أيضا نحب تراثاتنا الدينية مثلما تحبون أنتم أيضا تراثكم.وهذا حق لكم.ولكن لا تنكروا علينا نفس الحقوق.واعلموا أنه توجد في تراثاتنا قيم أخلاقية نبيلة مثلما يوجد في تراثكم الكبير.ولكن مشكلة التكفير لا تقتصر على الأديان الأخرى وإنما تشمل المذاهب الأخرى داخل الإسلام نفسه..فهنا نجد أن أتباع ابن تيمية والوهابية عموما يعتبرون كل المذاهب الأخرى في النار ما عدا مذهبا واحدا هو مذهبهم.وهذا يؤدي مباشرة إلى الحرب والضرب بين الشيعة والسنة مثلا في المشرق العربي.وبالتالي فالتصورات الدينية القديمة ليست مجرد تصورات ذهنية وإنما هي تصورات فعلية تشعل الواقع إشعالا وتدخل الناس في حروب طائفية مذهبية لا تبقي ولا تذر. ماالحل؟ماالعمل؟ لكي ينفك التأزم التاريخي الذي نعيشه حاليا ينبغي علينا مراجعة موروثنا الديني كله وغربلته من أوله الى آخره.وهذا ما فعله محمد أركون في مشروعه الكبير: نقد العقل الاسلامي،بالمعنى التاريخي والانتربولوجي والفلسفي العميق لكلمة نقد.فإعادة تأويل النصوص على ضوء الفكر الحديث هو الذي يحل التأزم المتفاقم السائد حاليا.فمثلا آيات القتال الواردة في القرآن الكريم ينبغي ربطها بسياقاتها التاريخية لا تعميمها في المطلق على كل زمان ومكان.وقل الشيء ذاته عن الآيات التي تكفر اليهود والمسيحيين.فهي أيضا مشروطة بزمانها وبالظروف الصعبة التي عاشها النبي الأكرم قبل أن تنتصر دعوته التي ضحى من أجلها بالغالي والرخيص.أما فيما يخص الصراع السني/الشيعي فلا يوجد أي ذكر له على مستوى القرآن لسبب بسيط هو أنه حصل بعد وفاة النبي.ولكن الفقهاء الكبار من أمثال ابن تيمية رسخوه وخلعوا عليه المشروعية الإلهية عن طريق تكفير المذاهب الشيعية قاطبة.كل هذا ينبغي أن يتعرض للغربلة التاريخية النقدية.بدونها لا يمكن لأزمة الوعي الإسلامي أن تنحل.وهذه الغربلة سوف تشغل نصف القرن القادم كله. حول هذه القضايا وكثير غيرها سوف تدور مداخلتي.