طيلة يومي 17 و 18 نونبر 2014، ومن خلال ثلاث جلسات علمية، ناقش عدد من الأساتذة الباحثين، والمهتمين، من المغرب ومن خارجه، موضوع سؤال الدين الحرية. وبحثا عن بعض عناصر الجواب عن هذا السؤال الذي تزداد راهنيته يوما بعد يوم، ناقش المشاركون في هذا الملتقى العلمي محورا أولا يخصّ «سؤال الحرية في البناء النّظري الإسلامي»، حيث أكّد المتدخلون على أهمية إحياء الجانب المضيء من التراث الإسلامي، وعلى رأسه دعاة الإصلاح النّهضوي، دون إغفال أهمّية الدراسات المقارنة مع تجارب إنسانية ناجحة، ودون إهمال البُعد الاجتماعي، والسياق التاريخي الذي يلقي الضوء على العديد من العوائق التي لازمت الحضارة العربية- الإسلامية. ومن بين النقط التي تمّ التّأكيد عليها ضرورة استحضار نسبية المعطيات التاريخية التي تسمح بتجاوز المقاربات التقديسية. وفي محور ثان، تناظر المتدخّلون في موضوع الدين والحرية في علاقتهما ببعض المنظومات القانونية، وبناء بعض دساتير صمن سياق ما سمّي ب»الربيع العربي «. في هذا الإطار تمّ بسط التّجربة القانونية والدستورية الألمانية، مع التّركيز على الطابع التفاعلي الإيجابي الذي يطبع العلاقة بين السلطة السياسية والمؤّسسات الدينية. أمّا فيما يخص الحالة المغاربية، فقد تمّ التّأكيد على الطابع المزدوج للدستور المغربي الذي يجمع بين وعاءين، مدني وديني، كما تمّت الإشارة، رغم ظاهر الأشياء، إلى نوع من التّراجعات على مستوى النص الدستوري مقارنة مع ما سبق تحقّقه بدءا من دستور 1961 . وفيما يخصّ التجربة الجزائرية، فقد تمّ التّأكيد على غلبة التّيارات التقليدية المحافظة مقارنة مع وزن التيارات المجدّدة. ولم تكتف أشغال هذا الملتقى العلمي على موضوع الدساتير، بل قاربت أيضا المنظومة القانونية المدنية والجنائية مبرزة بعض أوجه الحدّ من الحرّيات الفردية باسم الأحكام الدينية. كما تمّت مناقشة التّصور الديني التقليدي للعلاقات الدولية وإبراز كيف أنّ التقسيم التقليدي بين دار الإسلام ودار الحرب لا يرتكز أصلا على أحكام شرعية أو دينية وليس بالتالي من ثوابت الدين. وفي محور ثالث تمّ طرح سؤال الدين والحرية في علاقته بحقوق المجتمع المدني. في هذا السياق تمّت مناقشة موضوع التّنشئة الاجتماعية في علاقتها بالتّدين من خلال المنظومات التّعليمية التي تحتاج في هذا المجال لإصلاحات عميقة. كما تمّت الإشارة إلى ضرورة نقد «فقه المواجهة» وتعزيز فقه جديد ينبني على مبادئ الحرية والمواطنة. وفي النهاية، تقدّم هذا الملتقى بالتوصيات التالية : 1 - ضرورة التنصيص الدستوري على مدنية الدولة وحرية الضمير كشرط رئيس لممارسة مختلف أوجه الحقوق المنصوص عليها 2 - العمل على ملاءمة القوانين المدنية والجنائية لمسايرة التّأكيد المجتمعي لهذه الحقوق والحريات. 3 - راهنية توجيه إصلاح المنظومات التعليمية، والبرامج الدراسية، والمناهج التربوية في سياق تثبيت مبادئ الحرية الإنسانية. 4 - ضرورة تطوير منظومة الإعلام في اتّجاه تأكيد مبادئ الحرية والتّعددية. 5 - تثمين دور المجتمع المدني في معالجة قضايا الدين والحرية في المجالات العامة، والتّأكيد على ضرورة الانفتاح على الأفق الكوني المبني على احترام الأديان والاختيارات الروحية. للإشارة، فإن الندوة نظمت بتعاون بين المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، ومؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية، وحركة ضمير. شارك في هذه الندوة من الجهة العربية عدد من المثقفين المعنيين عموما بشؤون التجديد الديني، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر عز الدين العلام الذي أدار الجلسة الأولى وكانت بعنوان »سؤال الحرية في البناء النظري الإسلامي«. وقد تحدث فيها أحمد عصيد ومحمد جبرون ورشيد بن زين وهاشم صالح. وكان رأي الأستاذ عصيد الذي أتحفنا بمداخلة عصماء أن الإسلام بحاجة إلى »أنسنة« برامج التعليم الديني وتجديدها بشكل جذري لكي تتماشى مع العصر. فلا يمكن أن نظل نعلم تلامذتنا في المدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية أفكارا قديمة. وأما الأستاذ محمد جبرون فقد ألقى مداخلة قيمة أيضا عن »الإسلام والحرية في الفكر الإصلاحي العربي«. واستعرض هنا أفكار الشيخ محمد عبده ورفاعة رافع الطهطاوي وعلال الفاسي وسواهم من كبار المصلحين. وقال لنا بأن الإسلام إذا ما فهمناه جيدا لا يتعارض إطلاقا مع أفكار التقدم والحرية والعقلانية. وأكبر دليل على ذلك هؤلاء المصلحون الكبار وأمثالهم. وذكرني كلامه بكلام الدكتور فهمي جدعان في كتابه الكبير »أسس التقدم عند مفكري الإسلام«. ولكن المشكلة كما قال الأستاذ أحمد عصيد هي أن جمهور الفقهاء المتشددين يعتبرون آراء هؤلاء الإصلاحيين الكبار »شاذة لا يعتد بها«! فإذا كانت آراء الشيخ محمد عبده شاذة فما بالك بنا نحن الليبراليين؟ وركز رشيد بن زين على ضرورة التفريق بين المعرفة التاريخية بالتراث الإسلامي والمعرفة التبجيلية أو الآيديولوجية. ودعا إلى أرخنة تراثنا الكبير. وفي جلسة بعد الظهر ألقى الدكتور محمد الصغير جنجار مداخلة قيمة عن مفهوم حرية الضمير والمعتقد على ضوء الدستور المغربي الجديد. والدكتور جنجار هو رئيس »مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية« في الدارالبيضاء. وهي مؤسسة ضخمة تحتوي على مكتبة هائلة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية. وقد اقترح عليّ الدكتور عز الدين العلام زيارتها بعد أن شعر برغبتي الشديدة في ذلك. وقال لي: كرس من وقتك صباحية كاملة للتعرف عليها أو حتى يوما كاملا. فهي ليست مزحة! إنها تحفة حقيقية وتطل إطلالة رائعة على البحر. متى سأشبع أنا من الإطلالات، من الحور العين والغزالات؟ وربما كانت أفضل مشروع أقامته السعودية في المغرب إضافة إلى »جامعة الأخوين« المنتشرة على سفوح أفران العالية. وتدخلت القاعة كثيرا في النقاش إلى درجة أن بعضهم كان يقدم مداخلات مصغرة ولا يكتفي فقط بطرح الأسئلة كما هو متوقع من الجمهور. وتلاحظ من خلال الأسئلة التي طرحت والنقاشات التي احتدمت أن الهموم العربية الإسلامية متشابهة أو متقاطعة إلى حد كبير من المحيط إلى الخليج. فسواء أكنت في البحرين أم السعودية أم الإمارات أم مصر أم المغرب أم تونس أم الجزائر أم غيرها، فإنك ستصطدم بنفس التساؤلات والهموم والإشكاليات. الجميع يتخبطون: الجميع يبحثون عن مخرج، عن علاج. ولكن متى ستشفى هذه الأمة، متى سيخرج من أعماق أعماقها نور وهاج؟ ويجب ألا ننسى مداخلة القس البروتستانتي المحترم كيرشنر هولشتاين. في اليوم التالي للندوة طرح الباحث سعيد لكحل الشعار التالي: »ضرورة الانتقال من فقه المواجهة إلى فقه المواطنة«. وقال موضحا: إننا نعيش في عقلية فقه التكفير والقتال والمواجهات الساخنة. فرغم أن الفقهاء بلوروه في فترة قديمة من الزمن فإنه لا يزال ساري المفعول على يد »داعش« وبقية المتطرفين. وقال بأنه لا يوجد فرق بين المعتدل والمتطرف من حيث الاعتقاد. الفرق الوحيد هو أن المعتدل يؤجل التنفيذ إلى مرحلة لاحقة عندما تحين الفرصة ولا يتهور ولا يغامر بنفسه مثلما يفعل المتطرف. وشاركه نفس التوجه الباحث سامر أبو القاسم الذي قال إن البعض منا يربي الأطفال الصغار منذ رياض الأطفال على أفكار تكفر الآخر وتحتقره في عقيدته والنتيجة تكون كارثية عندما يكبر. فلا يستطيع التخلص من هذه الأفكار الإقصائية التكفيرية بسهولة لأن العلم في الصغر كالنقش في الحجر. واتفق الباحثان على ضرورة مراجعة برامج التعليم بشكل جذري إذا ما أردنا أن نربي أجيالا صالحة مستنيرة. ولكن الباحث حسن الخطابي قال لنا بأن الآيات التي تتحدث عن السلم أكثر بكثير من الآيات التي تتحدث عن الحرب والقتال. وبالتالي فالخطأ خطأ الفقهاء المتأخرين بل وفقهاء عصر الانحطاط. فمقولات مثل دار الإسلام، ودار الحرب، أو فسطاط الإيمان، وفسطاط الكفر وغيرها لا وجود لها في القرآن. يضاف إلى ذلك أن الله عز وجل خاطب نبيه قائلا: وإنك لعلى خلق عظيم، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. وبالتالي فالتربية الإسلامية الصحيحة مليئة بالهدى والرشاد ومكارم الأخلاق. ولا يمكن اختزالها إلى مجرد ثقافة الكره والإقصاء والتكفير كما يتوهم الكثيرون بسبب ما يحصل من أعمال متطرفة وفظاعات داعشية مرعبة. كل المشكلة تكمن في أن الفهم الصحيح للإسلام غائب أو مغيب في ثقافتنا العامة، والفهم الخاطئ المتشدد هو المهيمن. والحق على من؟ على بعض الفضائيات وبرامج التعليم والمعاهد التقليدية. وأخيرا خلص الجميع إلى القول بضرورة تربية المجتمع وفق منظومة قيمية حديثة لا منظومة قيمية قديمة لم تعد مناسبة لهذا العصر.