شهدت المكتبة الوطنية بالرباط، بالأمس، جدلا قويا حول العلاقة بين الإسلام والحرية، في ندوة دولية دعت إليها جمعية «ضمير»، كشفت عن صراع قوي بين من يرى أن الإسلام، وخاصة في بعض أحكامه، يشكل عائقا أمام الحريات، وبين من يدافع عن رؤية أخرى تقول بعدم وجود أي تعارض بينهما. نحن نعيش اليوم أزمة وعي إسلامي هاشم صالح، باحث سوري مقيم بفرنسا، اعتبر الأمة العربية تعاني اليوم «أزمة وعي إسلامي»، وهذه الأزمة لا يمكن فهم عمقها، ولا كيفية الخروج منها، إلا بالمقارنة مع أوروبا، «لأننا وإياها على ضفتين لبحر واحد». المقارنة تقول إن الحرية بأوروبا اليوم لم تكن كذلك من قبل، إنما بلغت وحققت حريتها بعد مسار طويل من النضالات. وكان أول تحول حدث داخلها هو الانتقال من «النموذج المعرفي القروسطي للدين» إلى «النموذج المعرفي الحديث للدين». في الأول، لم تكن هناك «حرية دينية»، بل «دين واحد صحيح لا يقبل النقد أو التشكيك»، وداخل هذا الدين (المسيحي)، هناك مذهب واحد صحيح «لا يأتيه الباطل»، و»الباقي على خطأ»، ويعتبر صالح أن هذا الفهم الانغلاقي هو الذي أدى إلى الحروب الدينية في أوروبا، التي كانت تجليا فقط «لأزمة الحقيقة الدينية». ويوضح هاشم صالح أنه حين دخلت «الحقيقة الدينية في أزمة مع نفسها»، أدى ذلك إلى نتيجة مهمة في النهاية، حيث بدأ الاقتناع ينتشر بأن «ليس هناك دين واحد صحيح، بل هناك أديان صحيحة»، بمعنى حصلت قناعة لدى الأوروبيين بأن «هناك طرق متعددة توصل إلى الله، وليس ثمة طريق واحد فقط». طبعا، لم يصل الغرب إلى النتيجة بسرعة، بل تطلب منه ذلك قرونا، تخللتها حروب دامية. وعليه، لا يمكن لهذا «الغرب اليوم أن يطالبنا بتحقيق ما حققه هو في قرون أن نحققه نحن في عقود قليلة». ويشير صالح إلى أن هذه القناعة «بالمساواة بين المذاهب» ترسخت أولا داخل أوروبا بين المذاهب المسيحية. لكن في سنة 1965، أقرّت الكنيسة الكاثوليكية أنه حتى «الأديان الأخرى يمكن أن تكون صحيحة»، كما أقرت بالقول إن «الثوابت يمكن تعديلها أو التراجع عنها». لكن هاشم صالح لم يكن دقيقا في التمييز بين المذهب داخل الدين الواحد (كاثوليكية- بروتستانتية..)، وبين دين وآخر (المسحية، الإسلام..)، خاصة وأن الحروب الدينية في أوروبا كانت داخل الدين المسيحي وبين مذاهبه، في حين أن الاختلاف المذهبي في الإسلام مشروع، ولا اعتراض عليه بين فقهائه. لكن رغم ذلك، اعتبر أن هذا المسار الذي مرت منه المسيحية يمكن أن يتكرر بالنسبة إلى الإسلام، المدخل إلى ذلك، هو «توسيع مفهوم الفرقة الناجية»، يقول هاشم لأن تشمل «كل الناس الطيبين الذين يحبون الخير» حتى لو اختلفت أديانهم. بمعنى آخر، يشير هاشم صالح إلى أنه في التراث العربي الإسلامي تكمن «هناك أسس للحرية الدينية، لأن في هذا التراث هناك توجه عقلاني تنويري يمكن البناء عليه، وهناك توجه انغلاقي تكفيري يجب تحييده، لأنه المسؤول عن «أزمة الوعي الحادة»، التي تخترق جسد الأمة العربية، وتنفجر «على شكل أزمات مرعبة» كما هو الحال اليوم في سوريا والعراق. حين يتحول الدين إلى دولة تصبح الحرية في خطر لكن في الوقت الذي يعتبر هاشم صالح أن تأسيس الحرية الدينية، بما فيها فكرة التعددية الدينية والمساواة بين الأديان، ممكنة من داخل التراث العربي الإسلامي، قدم أحمد عصيد، باحث وناشط أمازيغي، قراءة أخرى، تنطلق من قناعة لديه تقول بتعارض الإسلام والحرية، مركزا في هذا الصدد على الاستعمال السياسي للدين. عصيد أوضح أن التصادم بين الدين والحرية حدث «حين تحول الدين إلى دولة»، أي تحول إلى وسيلة في الصراع السياسي بين المتنافسين على السلطة. حدث هذا في الماضي ويتكرر اليوم. ويرى عصيد أن الذي سمح بذلك هو نوعان من المبررات: نوع يتصل بالنص الديني نفسه، ونوع يتصل بالفهم الفقهي للدين. بخصوص الأول، أشار عصيد إلى ما سمّاه «الآيات المتعارضة»، التي تفتح الباب للتأويل، ولاحظ أن الآيات المكية أكثر دعوة للتسامح والحوار، في حين شرعت الآيات المدنية للمواجهة والعنف والقتال. وإمكانية التأويل تعني أن صاحب السلطة هو من يفرض رأيه، ولذلك حدثت الكثير من مظاهر العنف وتقتيل المخالفين بسبب ذلك. القضية الثانية تتعلق ب»الناسخ والمنسوخ» في القرآن، التي أثيرت من قبل الفقهاء للقول إن الآيات التي تسمح بالحرية الدينية (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) قد نسخت بآية السيف. لقد أدى هذا الوضع، يقول عصيد، إلى استحالة حسم الصراع على قاعدة الدين، وكان أن لجأ المسلمون إلى حلول من خارجه. الفهم الفقهي مسؤول بدوره على هذا الوضع، فمفهوم الإيمان في أصله يعني «إقرار العبودية لله وحده»، لكن بعضهم جعل من شروط الإيمان «طاعة الحاكم»، وبالتالي، خلق الوساطة بين الله والناس، وأدى ذلك إلى أن الإيمان لم يعد مفهوما كونيا، بل انحبس وانغلق في حدود دائرة السلطة. وقال عصيد إن مشكلة المسلمين اليوم أنهم «يعجزون عن التفكير خارج الفقه التراثي»، وأصبح الفقه وسيطا بين الناس والنص الديني. وانتقد عصيد مقولة «إن الإسلام أصح الأديان»، واعتبرها «فكرة عنيفة جدا»، متأسفا لأن «المقررات الدراسية تلقن التلاميذ هذه المقولة على أنها صحيحة ومسلم بها»، إلا أنه أكد في النهاية أن هذه القضايا تحتاج إلى حوار وطني علمي مفتوح من أجل تغييرها. الفقه الإصلاحي لم يكن أبدا ضد الحرية بينما كان الاتجاه هو محاولة الإقناع بقولة إن الإسلام والحرية لا يجتمعان، قال امحمد جبرون، أكاديمي مختص في التاريخ السياسي، إن القراءة المتأنية والعلمية للاجتهادات الفقهية التي قدمها كبار الفقهاء المصلحين في القرن التاسع عشر، أي القرن الذي وقع فيه التماس بين المسلمين وأوروبا، تؤكد أن الإسلام لم يشكل عائقا أمام الحريات. وتساءل جبرون قائلا: «هل هناك مشكلة بين الإسلام والحرية في التحولات الكبرى التي عاشتها الأمة؟»، وأكد أن التجربة التاريخية أكدت أن «التحرر لا يجب بالضرورة أن يكون في صراع وتعارض مع الإسلام، بل أثبتت أنه يمكن أن يكون التحرر بالدين كذلك». لكن، ما الحرية أولا؟، وأجاب جبرون أن «الحرية مرتبطة بالوعي بها»، وأكد أنه بالعودة إلى التاريخ، «فهناك تطور في الطلب على الحرية»، وأكد أن الحرية ليست قضية نظرية، بل واقع معاش، الأمر الذي يتطلب البحث عنها في تحققها التاريخي، وإن كانت الحرية بحثا عن القيود التي تحول دونها، وتساءل مرة أخرى عن القيود التي يطرحها الإسلام أمام مسيرة الحرية. للجواب عن ذلك، رجع جبرون إلى أربعة فقهاء كبار هم رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده (مصريان)، وحسن الحجوي وعلال الفاسي (مغربيان). وخلص، بناء على استقراء في كتاباتهم حول الحرية من منظور إسلامي فقهي، إلى أن ثمة سلاسة كبيرة في القبول وتبني الأفكار الوافدة، بدءا بالديمقراطية، حيث اعتبر عبده مثلا أن «النزوع نحو الديمقراطية هو نزوع واجب في الشرع»، يورد جبرون، الذي أكد أن «التفكير الفقهي، الاجتهاد، لا يقف عائقا أمام نزوعات التحرر»، طالما كان ذلك نزوعا داخليا، أي بمثابة تعبير عن طلب مجتمعي داخلي. لماذا؟ لأن جبرون لاحظ كذلك أن هؤلاء الفقهاء حينما يتعلق الأمر بطلب وضغط خارجي كانوا يرفضون، ففي القرن 19 مثلا، طالبت دول أوروبية من المغرب الإقرار بالحرية الدينية لفائدة مواطنيها داخل المغرب، وللمحتمين بها من المغاربة، إلا أن الفقهاء رفضوا ذلك «رفضا شديدا» يوضح جبرون، أما «حين يكون الطلب موضوعيا، فإنهم يبحثون له باستمرار عن مسوغات». والدليل على ذلك، ما يتعلق بحرية المرأة وتعليمها، وما يتعلق بالحجاب وتعدد الزوجات، وفاجأ الحضور بالقول إن هؤلاء الفقهاء الإصلاحيين لم يرفض أحد منهم، أو اعترض على حرية المرأة وتعليمها، بل وافقوا كذلك على منع التعدد في الزوجات دون أدنى مشكلة، لدرجة أن علال الفاسي اعتبر أن «تلك أحكام مرتبطة بزمانها». الخلاصة التي وصل إليها جبرون تقول إن هناك ثلاثة شروط «لنجاح التأقلم» بين الفقه ومتطلبات الواقع: أولا توفر عقلية فقهية متجددة، وثانيا الوعي بالحرية وشروطها، وثالثا معالجة الموضوع من منظور تاريخي، لأن الحرية هي تحقق موضوعي تاريخي، وليس مسألة نظرية فقط، وخلص جبرون إلى أن الإسلام لم يكن في يوم ما ضد الحرية، التي يعيشها الناس طبقا لشروطهم التاريخية. دستور 2011 يسمح بكل القراءات سؤال الإسلام والحرية قاربه محمد الصغير جنجار، أستاذ علم الاجتماع، ومدير مجلة مقدمات داخل دستور 2011. جنجار انطلق من القول إن هذا السؤال قُدّمت حوله إجابتان: الأولى انطلاقا من نظام معياري، حيث يلعب الدين دورا مهيكلا للنشاط البشري، والفرد غير مستقل في إرادته ولا يشرع لنفسه، بل الشرع هو ما يقوله الدين أو نظام معياري آخر. الثانية قدمتها أوروبا الغربية وأمريكا، وتقوم على أساس «استقلالية الفعل البشري»، حيث كل مناحي الحياة مستقلة، والدين أحد مجالاتها وليس مهيمنا عليها. وفي هذه التجربة، نشأت استقلالية السياسي عن المجال الديني. كيف يبدو الوضع في دستور 2011؟ يجيب جنجار أن المغرب اليوم «ليس في النموذج الأول»، حيث سؤال الحرية الدينية لم يكن مطروحا أصلا، لكنه «لم يدخل النموذج الثاني بعد». فهو في وضعية أو بصدد «إنهاء خروجه من النموذج الأول، لكن لم يدخل النموذج الثاني بعد»، ذلك النموذج الذي يقوم على التمييز بين الديني والسياسي. في مجال الحريات، اعتبر جنجار أن النظام المغربي يعمل «بنظرية التساكن أو التعايش» في الدستور، حيث هناك تجاور لمرجعيتين، مرجعية دينية قائمة، ومرجعية مدنية قائمة كذلك، لكن النظام حين يضيف حريات جديدة، كما حدث في دستور 2011، فإن ذلك لا يكون على حساب المرجعية الدينية. واعتبر جنجار أن الدستور المغربي «أقل ثرثرة» في الحديث عن الدين، حيث كلمة «الإسلام لم تتكرر سوى ست مرات»، في حين أن الكلمة نفسها «تكررت 12 مرة في الدستور التونسي»، الذي هو دستور الثورة التونسية. ويبقى الغائب الأكبر في باب الحريات كما نظمها الدستور المغربي، هو «حرية الضمير والمعتقد»، التي اعتبرها «أمّ الحريات»، على اعتبار أنها «حرية جوانية داخلية مرتبطة بإنسانية الإنسان»، ولأنها «حرية تحيل على الفرد»، وقناعاته. واعتبر المتحدث نفسه أن الدستور حين يحيل على الإسلام، فهو يحيل عليه «كتقليد، وتراث، ومؤسسة»، بينما حرية الضمير «لا ترتبط بذلك». وأضاف أن مؤسسة إمارة المؤمنين هي «النواة المرجعية للإسلام» في الوثيقة الدستورية، وهي التي «تحل محل القضايا التي لا يتحدث عنها الدستور مثل تطبيق الشريعة». الخلاصة أن الدستور المغربي يقبل قراءتين: قراءة فقهية شرعية تجعلنا «وكأننا في دولة الخلافة»، وقراءة ديمقراطية مدنية «تجعلنا نشعر وكأننا في دولة ديمقراطية». وهي وضعية تسمح «لكل الأطراف في المجتمع أن تجد نفسها في الوثيقة الدستورية»، وهو «أمر صعب بالنسبة إلى الحريات». ويرى جنجار أن خارج مساحة التساكن بين المرجعيتين، هناك «مرحلة اضطرابات» لا بد من اجتيازها يوما ما.