يبدو الزقاق كجوطية دائمة ومفتوحة تحتله عربات باعة الخضر والفواكه وبضائع أخرى. يصعب على العابر أو الزبون اجتراح طريقه وسط العربات المتلاصقة تقريبا. الباعة يبدون من أعمار مختلفة، مع نسبة هامة من الشباب و المراهقين ، ملامح وجوههم مكفهرة ، ومثيرة للتوجس خصوصا وأن الكثير من النذوب والجراح الملتئمة تطرزها. الباعة يتصايحون ، يصرخون معلنين أثمنة سلعهم.كل شيء يباع من الصابون البلدي إلى الدجاج الرومي مرورا بسلع أخرى غامضة . أقف عند بائع البصل أسأل عن ثمن الكيلو ، فيصرخ البائع في وجهي تقريبا( 8 ديال الدراهم ). المرأة العجوز تقف بجواري تختار حبات البصل بعناية وتناقش البائع في الثمن . فجأة يرن هاتفها المحمول ، تخرجه وتشرع في الصراخ ، تلصقه بأذنها وتسمع ثم تضعه أمام فمها وتصرخ موجهة الكلام لمن يوجد على الطرف الآخر للخط ، توجه بين الفينة والأخرى شتائم إليه أو إليها. الهاتف يبدو مثل لوحة ذات لون أبيض ومن أحدث الماركات. يبدو التناقض صارخا بين جلبابها القديم الحائل اللون وماركة هاتفها التي يعشقها المراهقون.تبرطم المرأة العجوز بكلمات مبهمة لعلها تعليقات أو شتائم ، حتى بعد أن تنتهي من مكالمتها . العامل الوحيد المتحكم في تحديد الأثمان هو مزاج الباعة وقابليتهم للنقاش أما عدا ذلك فهي عوامل تظل متخيلة أو مجردة في أحسن الأحوال . صديقي يقول لي بأنه لا يحب ارتياد هذه الأمكنة المليئة بحشد وسحنات غامضة. أشعر أنا الآخر بالضيق وسط هذه العربات المتراصة كما لو أنها مقبلة على سباق أو على خوض معركة ، وسط القاذورات والأزبال المتراكمة في هذا الحي الشعبي . لعل هذا هو الوجه الحقيقي لبياض هذه الدار الشاسعة المتداغلة والمفتوحة على أسوأ الاحتمالات . أرفع عيني إلى الأعلى . أتذكر بأننا في هذه البلاد غالبا ما ندمن توجيه النظر إلى الأسفل، كل شيء منذ الطفولة يدعونا إلى خفض النظر ، حتى أن نظراتنا تصير خبيرة في قراءة جغرافيات أحذيتنا . أرفع عيني ، حبال غسيل كثيرة تتدلى من النوافذ ، ثياب من مختلف الأحجام والألوان ، أقمصة ، سراويل وملابس داخلية وجلابيب. تبدو الحبال المعلقة في الهواء مثل صور شعرية نشاز وسط هذه الفوضى المسماة حياة يومية ، وسط العشوائية مثل فيروسات سريعة الانتشار. الفضاء مكتظ بالكلام والأحاديث التي لا تنتهي ، والنصائح و الخطابات التي تنتال من الأفواه . كلام عن كل شيء ولا شيء . الناس يعظون الآخرين بأشياء هم أول من لا يطبقها . أقف عند بائع الدجاج . العمال في الداخل يذبحون الدجاج يقومون بترييشه ينظفونه يقطعونه إلى أجزاء بحركات آلية متكررة . أتذكر حركات شارلي شابلين في فيلم ( الأزمنة الحديثة) . الدكان يبدو مثل مصنع للدجاج، أرواح كثيرة تزهق يوميا . حين ترى ذلك وترى الشروط المقرفة التي يتم فيها تفقد رغبتك في تناول وجبة الدجاج مرة آخرى . تأخذ أشلاء الدجاجة المقطوعة الأوصال . تقف امرأة في سن الكهولة ترتدي زي عاملات النظافة تبدو من هيئتها وحركاتها وصوتها الأجش كامرأة مسترجلة . طلبت دجاجة وحين بدأ العامل يقطعها انتفضت غاضبة وقالت لصاحب الدكان بأنها لن تقبل بدجاجة ( معوقة). لا أدري هل كانت جادة أم ساخرة . فجأة بادرت البائع قائلة : هل تبيع لحم البقر ؟ أريد فخدا منه. الآخرون صامتون ينصتون إليها أما البائع فقد كان يتبادل اللمز والغمز معها ، كأنه متعود على كلامها . منحت التاجر الثمن وغادرنا المكان يحاصرنا الضجيج والصخب والفوضى والنظرات المتوجسة والروائح النثنة التي تنبعث من أكوام النفايات المتراكمة قرب جدران المنازل كأننا كنا في مزبلة لا سوق شعبي . مررنا بجوار المقر المركزي الحصين للنقابة . كان يتعالى سامقا كبرج إسمنتي يتصادى الفراغ داخل أروقته وتتناسل اللاجدوى وتورق الزعامة الأبدية كنبات باذخ الخضرة ينبت فوق القبور . المقر فارغ وصامت بعدما هجرته الاحتجاجات والشعارات . صارت الطبقة العمالية مجرد طيف وشاخت الوعود تاهت الحشود في غابة الشعارات المليئة بالغموض بلا زعماء ، تاهت في التفاصيل السرية للخطابات . نعبر كأننا نمخر بطن الحوت . السيارات تمر مسرعة ، تقوم بمناورات خطيرة للتجاوز ، يبدو سائقوها كمجانين هربوا للتو من بويا عمر . تتوقف السيارات عند الضوء الأحمر ، فينهمك سائقوها في الضغط بعنف على الكلاكسونات محدثين ضوضاء جنونية ، بينما يضغطون على دواسات السرعة فتزمجر محركات السيارات وتبدو كأحصنة في ساحة للروديو متأهبة للركض . صديقي يقول لي : ( إحذر عند عبور الطريق فهؤلاء المجانين الذين يمتطون السيارات مثل ظهور جياد بإمكانهم اغتيالنا). تقترب مني امرأة تبدو من ملابسها ولكنتها البدوية بأنها قادمة من حي في الضواحي بعيد جدا عن هذا الحي الذي تسكنه طبقة وسطى مفرنسة وتملأه المصحات الخاصة و المقاهي الغالية الثمن و تركن في جنباته السيارات الفارهة وتسألني عن جمعية للتضامن مع النساء لا أعرف أين توجد . سرت مع المرأة بضع خطوات فسردت بسرعة وإيجاز أسباب بحثها عن مقر الجمعية ، قالت بأنها تريد زيارة ابنتها التي وضعت طفلا خارج الزواج وعلقت على الأمر بأن لا أحد يرضى عن ذلك . طيبت خاطرها وشرحت لها بأن الأمر يتعلق بأمهات عازبات و الأهم عدم تركهن صحبة أطفالهن عرضة لقسوة الشارع ولشبكات الدعارة المنظمة . الناس فوق الأرصفة يسيرون يهرولون في شتى الاتجاهات ، وعلى الإسفلت تركض السيارات كأنها ذاهبة إلى مواعيد صاخبة مع الأبدية ، تتعالى العمارات ويكتظ الهواء بثاني أوكسيد الكربون وتغرق المدينة- المتاهة في الإحساس بالرعب والخوف ترتعد فرائسها كأن حشودا من الزومبي تتربص بها الدوائر أو كأنها تتمرن لأول مرة على الحياة . أفكر في أن هذه المدينة فقدت روحها مذ أمد بعيد . وفي شقة في الطابق الرابع أنهينا المسير ونحن ننصت لموسيقى البلوز مندمجين جسدا وروحا في إيقاعاتها في مدينة شبيهة بنفق معتم ننصت صامتين للأسئلة كأننا وسط الأدغال ، آخر الأحياء .