كازابلانكا صباحا. تبدو المدينة كئيبة رمادية غارقة في النفايات التي تملأ الأرصفة، تغرق واجهات المتاجر والشوارع الشبيهة بمنافي مفتوحة أمام اجتياح الأطياف. المدينة تمتد كصحراء مأهولة بالعزلة/بالعزلات. الناس يعبرونها كأفراد مسكونين بالصمت كأن لا لغة توحدهم. اللغة أول الأشياء المشتركة، لكنها في هذا الفضاء-الغابة الممتد الأطراف والأرجاء المتناسل الكوارث، تبدو كقدر محتوم، كلعنة تحكم الأجساد، تلزمهم بالسكن في ملاذاتهم الخاصّة، في منافيهم الآيلة للإنقراض. كل واحد يلوذ بلغته الخاصة وصمته المحتوم. لا أحد يكلّم الآخر إلا باللغة البالغة العدوانية ذاتها التي يتكلمها الكل، والتي هي المشترك. الناس/الأفراد اندلقوا من بطون الوحوش المعدنية توّا، من مقصورات القطار في كازابور وحافلة 900 المهترئة التي تخترق طريق زناتة، تلك الطريق الغروبية الممنوحة للفقدان والضياع وشاطئ المحيط المليء بالنفايات، حيث يعيش المنكوبون والمهمشون والمقصيون من دورة الإنتاج، تلك الطريق التي تكتشف عبرها تاريخ الجهد الإنساني وتتيقن بالفعل بأن الصراع الطبقي مازال جزءا هامّا من التاريخ اليومي للإنسانية. الأفراد يجازفون جماعات بعبور الشارع الخطير ذي الاتجاهين، يدخلون في صراع معلن مع سائقي السيارات العصابيين الذي يضطرون للتوقف عنوة، أمام هذا السيل البشري العابر، فينتقمون من الآخرين ومن أنفسهم بإطلاق العنان لأبواق سياراتهم الصاخبة. الكل يركض. الأفراد-الأطياف يمارسون الهرولة الصباحية. كل واحد يهرول حسب جهده وحاجته، النسوة البدينات بمؤخراتهن الضخمة المضغوطة في سراويل الجينز، المراهقات النحيفات الشبيهات بمانكانات، الشيوخ والشبان الذين يتدافعون مع الآخرين بالمناكب ويركبون صلف عنفوانهم، الحضريون والبدو الذين يقطعون الشارع كما لو أن الأمر يتعلق بحقل بطاطا، وموظفو الأبناك ببذلاتهم الأنيقة اللاصقة. الأطياف تعبر أسفل الأبراج الشاهقة لفندقي إبيس وسوفيتيل. البواب هناك أمام بوابة الفندق ببذلته السوداء وقبعته الإنجليزية التي تعود إلى القرن الثامن عشر، يبدو كشكل نشاز وسط معالم هذه الحداثة العمرانية المعطوبة. البعض اندلق باتجاه شارع الجيش الملكي والبعض الآخر نحو بوسمارة حيث البحث المضني عن مقاعد في حافلات مهترئة أخرى تقود إلى بعض المناطق داخل الغابة. سائقا طاكسي أوقفا سيارتيهما وسط الشارع أمام الفندق، وشرعا يتبادلان السباب بكلمات بذيئة فيما بعض السياح الأجانب يتفرجون على المشهد بغرابة. هذه المدينة البالغة الغموض التي تركتها منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، قلت لنفسي، تزداد إيغالا في عريها ووحشيتها. لقد انتشرت وتناسلت وتغولت وصارت كلها شبيهة بقرية كبيرة يرتادها المهاجرون من كل حدب وصوب، يبيعون الحلزون والتين الشوكي والبيض المسلوق وأكياس المناديل الورقية، بجوار الفنادق والمقاهي والمطاعم والمتاجر ذات الماركات العالمية. سائقو السيارات المرسيدس البيضاء يتصايحون قرب البرانس، ينادون على أسماء الأحياء الهامشية، البرنوصي، شارع الشجر، شارع ال...، وأسماء أخرى شبه مقذوفة في مدارات النسيان. أطفال الشوارع الصغار السن يتمرنون على الاستيقاظ عند عتبات العمارات وأسفل الواجهات الزجاجية. مراهقون طاعنون في تيه لا رجعة منه، كأن المدينة حقل شاسع ومتاهي يمخره العميان. لم يكن لكازابلانكا يوما مّا مركز حضري قار والآن تعددت مراكزها ساحت وانتشرت كوباء أخطبوطي غامض لم يعد قابلا للتحديد في الزمان والمكان. وحدها القبائل تعيش فيها، تعيشها، تخترقها يوميا موظفون صغار، رأسماليون كبار، كائنات هلامية قادمة من هوامش عمياء تتعايش فيها الأجساد والمصائر المحجوزة والأرواح المكسرة، فراشة يبيعون كل شيء، عاهرات، مدمنو مخدرات، نصابون، نشالون وقطاع طرق، بورجوازيات تافهات يرطنن بفرنسية ركيكة ويعتقدن بأنهن يعشن في باريس. لم تعد الأمكنة مقسمة بالتساوي بين الأقوياء من الأغنياء والضعفاء من الفقراء. تداخل الغنى والفقر في كل الأمكنة. المتسولون يجوبون الشوارع الفسيحة حيث تتراص المقاهي الأنيقة التي يرتادها أبناء الذوات، تمتد الأيادي بصلف كأنها تروم حيازة حصتها الملعونة عنوة، بائعو التين الشوكي يحتلون الأرصفة بعرباتهم المهترئة. كل واحد يصرخ في أعماق ذاته «ها هي كازابلانكا...إنها مدينتي». قال لي سائق طاكسي مرة حين سألته عن الآلاف من الكائنات التي صارت تملأ الشوارع والأرصفة: (ثلثا سكان هذه المدينة فراشة يبيعون ويشترون في كل شيء، ولو ثم تنظيم المدينة وإزالة كل علامات ومظاهر الفوضى لقامت الحرب الأهلية). شابان مشردان في هذا الصباح الرمادي حاولا سرقة متسول مقعد يسير على كرسي. امرأة واقفة أمام البنك تصرخ وتشتم في التيلفون المحمول، تتلفظ بكلمات وقحة غير آبهة بالعابرين، أحدهم يقف ملتصقا بحائط ويشرع في التبول الذي تملأ رائحته الكثير من الزوايا والأمكنة كأن الشوارع مرحاض مفتوح. في هذه المدينة من الضروري أن يتبنى المرء أقصى درجات الاحتراس حتى لا تباغته المفاجئات غير السارة والصدف المجنونة، مثل أن يسرق أحدهم هاتفك المحمول وحافظة نقودك وأوراقك الرسمية، أو يترصدك لصوص مسلحون بخناجر كالسيوف وأنت تسحب بعض المال من الموزع الأوتوماتيكي للبنك ليسرقوه منك، أو غير ذلك من الأحداث المبهمة الذي يدعوك آخرون بعدها إلى ضرورة حمد الله لأنك نجوت بحياتك. في إحدى الشوارع طلبت منّي شابة جميلة بأن أقف بجوارها حتى تسحب بضع أوراق نقدية من الموزع، لأن المكان خال وحين انتهت شكرتني بابتسامة مشرقة وذهبت. مع تداخل الشرائح والطبقات المتناقضة وزحف فقراء الهوامش الرثة على المدينة العصرية، صارت كل الشوارع شبيهة بسوق قروي مفتوح يباع فيها كل شيء ويشتري. أما التسول فقد صار حرفة الآلاف الذين يتصايحون، يصرخون بالدعوات كأنهم يودون الإمساك بخناقك. منذ أسابيع وأنا أرى بجوار واجهة بنك امرأة محجبة صحبة فتاتين، أجدهما كلما حضرت إلى المدينة غارقتين في النوم في عز الصباح، عكس طبيعة الأطفال في اللعب والشغب. مؤكد أن المرأة تكتريهما وتعطيهما مخدرا ليناما طيلة النهار. حيثما وليت وجهك لا تجد غير عربات الساندوتش، التي يوقفها أصحابها أحيانا قرب صناديق القمامة. الكل يلتهم حصته من تلك المأكولات الغامضة المصدر. منذ أيام توقفت للحظات قرب عربات بائعي الصوصيص (النقانق) المنتشرين قرب القيسارية في بلوك الكدية بالحي المحمدي. راعتني الحمرة القانية للصوصيص، التي لم أرها من قبل أبدا، وحين سألت أحدهم قيل بأنهم يخلطون اللحم المفروم الغامض، المصدر بمادة كيميائية صالحة لصبغ خيوط الصوف ومسببة للسرطان. غير بعيد كانت النسوة جالسات وسط إسفلت الشارع مباشرة، يقمن بصنع البغرير الذي راعتني صفرته المفرطة، وحين سألت إحداهن قالت بكل وضوح بأن سبب الصفرة استعمال الزعفران. حتى الدجاج الميت في سوق الجملة يباع مشويا في السناكات والمطاعم. لكن الكل يأكل بنهم غير عابئ بالعواقب الوخيمة، بل إن المنتظرين الجالسين مصطفين أمام عربات النقانق يفوق عددهم التصور، ينتظرون بأناة وصبر بالغين، كأن الأمر يتعلق بساندويتش العمر. الشيء الوحيد الذي يمكن أن تثق به في كازابلانكا هو ألا تثق في أي شيء. الناس تائهون، حائرون، بعضهم يظل جالسا في المكان ذاته طيلة النهار، بل لأيام وشهور عديدة. غبت سنوات عن المدينة وحين عدت مضطرا لزيارتها، وجدت الرجل الذي يبيع السجائر بالتقسيط ذاته جالسا أمام واجهة البنك في ساحة 11 نوفمبر، الاختلاف الوحيد هو أن شعر رأسه ازداد بياضا. أمّا البعض الآخر فيوغل في ممارسة رياضة المشي، في التيه عبر الأزقة شأن فلاسفة مشاءين لكن بلا فلسفة. أمام باب مراكش وداخل الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وفي الساحة الفارغة أمام رصيف مقهى وحانة دون كيشوت، بل في كل الأزقة والشوارع مهاجرون سريون من جنوب الصحراء بأعداد مذهلة يتجوّلون، يبيعون أشياء غامضة، ويزرعون في فراغات الغفلة تعاملاتهم التجارية الماكرة. صارت كازابلانكا وأماكن أخرى دون شك مثل باماكو أو واغادوغو أو دكار. نسوة إفريقيات جالسات فوق المقاعد العملاقة أمام سور باب مراكش، ينهمكن في تصفيف شعور طفلات ومراهقات مغربيات على الطريقة الإفريقية. لقد فقدت هذه المدينة العملاقة أو الميغالوبول روحها أو أرواحها العديدة. متى؟. لا أحد يدري. لربّما فقدتها إبان الثمانينات أو قبل ذلك بقليل حين اجتاحتها الهجرات القروية المتلاحقة وتزايدت فيها أحياء القصدير الهامشية، وتناسلت فيها المساكن العشوائية التي تبنى ليلا تحت أنظار سلطات الوصاية، وذلك الجيش العرمرم من ممثلي السكان المنتخبين، ولربّما فقدتها مع بروز ذلك الشيء النشاز الذي لم يتم الإعداد له جيدا والمسمى «وحدة المدينة» بمجلس حضري موحد وأخطبوطي، وعمدة مضطر للبحث عن ولاءات داخل الخضم المتلاطم من الأشخاص ذوي الولاءات والانتماءات والمصالح الشخصية المتضاربة، ممّا عرقل السير العادي لشؤون المدينة وأعاق مشاريع إعدادها خضريا وإصلاح الخلل المركب الذي تعانين. كل واحد يبحث عن حصته الخاصة ومنافعه الشخصية بينما تغرق المدينة في الفوضى والخراب والترييف والبداوة، وتصير بمثابة سوق عشوائي وتذهب مغمضة العينين إلى المجهول، ليتناسل فيها العنف اليومي والإجرام من قتل وسرقة ونهب واعتداء جسدي والدعارة بمختلف أشكالها وأصنافها، من الدّعارة الشعبية كما تمارس في الأزقة الخلفية والحدائق المهملة وقاعات السينما المنسية، إلى تلك الدعارة الراقية التي تخدم زبناء خليجيين في الشقق والفيلات المحروسة وغرف الفنادق المصنفة. في هذا الوقت بالذات تنهار معالم كازابلانكا وتحفها العمرانية التي تبقت من زمن الحماية، أيام جرّب فيها بعض المهندسين المبدعين عمارة الآر-ديكوArt-déco. انهار فندق لينكولن، وتم تدمير مطعم نجمة مراكش وتحوّل المارشي سنطرال إلى مكان مليئة جنباته بالنفايات ورائحة البول، والكثير من البنايات الأثرية علا واجهاتها التآكل والإهمال. لم يعد للمدينة مركز بل تناسلت مراكزها وساحت في أمكنة أخرى، وصار من الضروري وضع مخطط عمراني عقلاني للحد من انتشارها الفوضوي ليلا، لأن سياسة المدينة لا تتعلق فقط بجوانب مادية، بل هي سياسة ساكنتها في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وبالتالي هي سياسة الناس الذي يسكنونها ويشتغلون فيها، أي نوع من السياسة الذي لا بذّ من أن تخضع لمنطق الحكامة الحضرية الرشيدة وتعتني بالإنسان قدر عنايتها بالعمران. لنتأمل فقط المشكل الاجتماعي والاقتصادي والأمني الذي صارت يطرحه جحافل الباعة الجائلين أو ما يسمى بالفراشة، وهم يحتلون الساحات والشوارع التي تعتبر بمثابة شرايين حيوية مثل كراج علال أو شارع محمد السادس، ومثل الشارع الفسيح أمام قيسارية الحي المحمدي والذي أصبح مستحيلا على السيارات والحافلات المرور منه بالرغم من دوره الحيوي وصار يشهد اختنافات مرورية كارثية وذلك أمام أنظار رجال البوليس المنظمين للمرور...؟ ناهيك عن أماكن أخرى في هذه المدينة-الغول. ثم أتى الطرامواي الذي بقر بطون المدينة المتعددة وأخرج أحشائها، واقتطع مساره من لحم الشوارع القليلة التي كانت تخدم السير والجولان وتضمن لهذا العدد الهائل والمهول من السيارات الشخصية المرور. (لماذا لا يثق المغاربة في وسائل النقل العمومية ويتخلون عن عادة اقتناء سيارة خصوصية قد تفاقم مشكلة الاختناقات المرورية وتساهم في تلوث المدينة بثاني أوكسيد الكاربون؟). منذ سنوات، أي منذ أيام البصري وزير الداخلية الراحل، أنجزت دراسة أو دراستان بالعملة الصعبة من طرف مكاتب دراسات أجنبية لإنجاز الميترو، (ثم تنفيذ المشروع بعد الدراسات المغربية في كل من القاهرة والجزائر العاصمة)، ثم وضعت في رفوف المكاتب وتمّ إهمالها نهائيا خصوصا بعد ارتفاع تكاليف الإنجاز. أمّا الطرامواي فهو فكرة قديمة تم تحيينها بالرغم من أن التكنولوجيا التي يعتمدها قد تجاوزها التخطيط الحديث للمدن، أما في كازابلانكا فقد تسببت أشغاله في كوارث مرورية كبرى وضاقت المدينة بسياراتها بالرغم من طرقها وشوارعها المحدودة. المدينة مليئة بالحفر والخنادق والأحجار، كأنها بيروت إبان الحرب الأهلية، حالة من التحول غيرت معالم الكثير من شوارعها وأضافت المزيد من الضيق، حيث لم تبق غير أشرطة إسفلتية صغيرة لمرور السيارات. هل يكون الطرامواي القادم من سيدي مومن والحي المحمدي الحل لأزمة النقل الخانقة؟. يتمنى المرء ذلك بالرغم من أن لا شيء مضمون، إذ يمكن لجماهير الكرة التي تحدث أضرارا كل أحد في الملعب الوحيد وتقوم بتخريب حافلات النقل الحضري والسيارات أن تقوم بتخريبه، ناهيك عن عشرات السلوكات العدوانية غير المدنية التي قد يقوم بها البعض دون تفكير في مصالح الآخرين من سكان المدينة ودون احترام للفضاء العمومي. أنت الذي ابتعدت عن كازابلانكا سنوات عديدة استوطنت فيها مدنا هامشية صغرى، تبدو لك فوضاها غريبة لأنك لم تتعود على كل هذه السلوكات المتصفة بالعدوانية والصلف، على الجري في الشارع لقطعه، والرعب الذي ينتابك من أن تدهسك سيارة مسرعة سرعان ما يشتمك صاحبها، والنظرات الغامضة التي ترى فيك مجرد ضحية، وحتى حين عرض عليك السكن فيها ثانية رفضت. ملاحظة أخرى تبدو لافتة للنظر وهي أن كازابلانكا مدينة تدير ظهرها للبحر، وميناؤها الشاسع لا علاقة له بها ما عدا المشاكل المرورية التي يتسبب فيها خروج الشاحنة المحملة بحاويات البضائع، بحيث لا تفكر ولو لحظة واحدة حين تبتعد عن ساحل البحر بأنها مدينة شاطئية. هنا يتكتل الرأسمال ويتناسل ويلتهم كل شيء، رأسمال جشع لا يهمه غير الربح، حتى ولو تم ذلك على أنقاض المدينة التي تأوي هوامشها البئيسة قوة العمل التي يعتمد عليها، وتأوي الأحياء الصناعية معامله. الرأسماليون من رجال أعمال وأرباب مصانع ومديري شركات وأبناك ينذغمون في نظام مالي ذو معالم غير واضحة كلية، بينما ينذغم الفقراء والبروليتاريون في دورة اقتصادية محلية وهامشية. يراكم الأوائل الرأسمال المالي بينما يتحايل الآخرون ليسدوا رمق العيش وليضمنوا قوت يومهم. كل فئة أو شريحة اجتماعية تستثمر فضاء خاصا بها لتتحوّل كازابلانكا إلى مدينة-بلاد، مدينة-منطقة، لا يمكن اختزالها فقط في وضع تصميمات حضرية لضمان إعادة إنتاج قوة العمل، داخل المقاولات. لقد أصبح من الضروري الآن بالنسبة لمدن عملاقة ككازابلانكا الأخذ بعين الاعتبار نظام الحكامة الحضرية والسياسية، وتحفيز المبادرات وأشكال التعاون وتجميع الكفاءات حول مشاريع متعددة ومتجددة. إحدى سمات الليبرالية الحديثة هو خلق تماهي مباشر بين المدينة والمقاولة حتى يتم التأكيد على التحول الذي يصاغ عبر الريع العقاري وبروز أشكال هندسية وبنايات مدهشة ولافتة للنظر، بينما تظل المدينة مهملة ومهمشة ولعل هذا التهميش هو ما سينقلنا من المواجهة بين الأحياء الهامشية في الضواحي ضد الميتروبول إلى مواجهة بين العمال والباطرونا. لكن مدينة ميتربول أي عملاقة مثل كازابلانكا هي أكبر من مجرد مقاولة أو مصنع، لأن الثروات الكامنة فيها والتي تنتجها وأنماط العمل الضرورية داخلها تمثل قدرات وممكنات هائلة تفرز قوة السكان الحضريين أي المواطنين والعمال الذي يعيشون معا داخل نمط عيش مشترك. من الضروري إذن التفكير لا في مجرد مفهوم حضري وعمراني لسياسة المدينة، بل في سياسة سياسية للمدينة. كلما صار التناقض بين الرأسمال والعمل حادا وصراعيا ومعقدا، في ارتباطه بالأنشطة المادية واللامادية، وبالسياسة الحيوية التي تضع نصب عينيها الساكنة la population، كلما ادغم الرأسمال في مجموع الدائرة الاجتماعية ومنحها المزيد من القدرات والكفاءات. لم يعد ممكنا أبدا النظر إلى المدن ومعالجة مشاكلها واستشراف مستقبلها وتحليلها كمناطق فاعلة في الاقتصاد فقط، وذلك ضد السياسات الحضرية للدولة، بل صار واجبا النظر إليها (: المدن) عبر التداخل المعرفي بين اختصاصات مرتبطة بوجهة نظر التاريخ والسوسيولوجيا والعلوم السياسية والقيام أولا وقبل كل شيء بإعادة تحديد مناطق العلاقة بين الرأسمال والعمل. هذه الأمور تطرح بحدة بالنسبة لمدينة كازابلانكا يتم النظر إليها واختزالها فقط في كونها عاصمة اقتصادية وذلك لإهمال وتجاهل المسائل الأخرى المرتبطة بالسياسة الحيوية لساكنتها. إذا ما صارت المدينة إطارا أساسيا للتعاون بين الكفاءات والطاقات لإنجاز مشاريع واستراتيجيات ما وراء المقاولة وحدها فإن ذلك سيؤدي حتما، من وجهة نظر سوسيولوجية إلى أن تمثل إطارا للفعل يسمح ببروز استراتيجيات مشتركة لصالح المواطنين...أمّا وجهة النظر السياسية الهامة جدّا، فهي التي ترى المدينة وقد صارت فضاء ديمقراطيا وتعدديا طليعيا، يسمح للمواطنين داخله بعدم الانكفاء على هويتهم وانتماءاتهم الضيقة جذّا وفضاءات تواجدهم اليومي المعزولة عبر الربط بين المحلي و الكوني، ما وراء تصور الدولة-الأمة والذي يحدّد مفهوم السيادة. إن مفهوم المدينة لا يمكن أن يكون إلا مفردا بصيغة الجمع، أي متعددا وتعدديا، إذ لم يعد ممكنا في ظل الفوضى والتخبط الذي طال كازابلانكا أن تظل خاضعة لتلك النظرة الموجهة من أعلى، النظرة التي عبرها تفرض الدولة قواعد نظامها الحضري، وتصاميمها المديرية لتهيئة المجال، تفرضها على الجماعات المحلية، أو نظرة الرأسمال الذي يستفيد من مناخ الأعمال دون أن يستثمر في ما يهم المواطنين أساسا (: ما يسمى الرأسمالية المواطنة). مؤكدا أنه بعد انهيار وانحسار المفهوم التقليدي للمدينة مع العلاقة الصدامية مع الاستعمار أو الحماية الأجنبية، ظل المفهوم العصري والحداثي معاقا محصورا في جزر حضرية وعمرانية شبه معزولة، ولم يتحقق على مستوى الذهنية الجماعية، على مستوى القدرة على التخيل والإبداع الحضريين وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية. لقد ظلت المدينة الحديثة كذهنية، كفكر وكسياسة وجودية مجرد مشروع مؤجل محكوم بسوء الفهم أو انعدامه. إن المدينة ليست مجرد جدران وعمارات وشوارع وساحات ووسائل نقل عمومية وسيارات خصوصية، ولكنها، وهذا هو الأهم، تكثيف مادي ورمزي لعلاقات اجتماعية، تجسيد لعبقرية الإنسان، داخل عبقرية المكان، أي للمدينة/المدن كمناطق للسكن بمعناه المادي، الوجودي والرمزي. في مدينة كازابلانكا يلمس الملاحظ نوعا من التوتر والصراع الدائم بين ديناميتين أو سرعتين متناقضتين، الأولى تتعلق بالإستراتيجية الفوضوية التي عبرها تحتل الحشود من السكان، سواء المقيمين أو الوافدين والمهاجرين حديثا والمهمشين والمشردين الأمكنة العمومية لممارسة أنشطتهم سواء كانت تجارية غير مهيكلة أو غير ذلك، أمّا الثانية فتتعلق بالمنطق الذي يحكم الدولة بأعيانها ومخططيها ومحترفي الانتخابات ومهندسيها الحضريين للإبقاء على احتكاراتهم القديمة للأشياء والشؤون المتعلقة بالجماعات الحضرية. هذا الصراع الشرس أحيانا المهادن أحيانا أخرى، هو الذي يعوق ذاتية المدينة ويمنعها من البروز. لا ينشغل الرأسمال الصناعي أو التجاري ومجالات الأعمال المتعلقة بالقطاع المالي والبورصة بهذا الصراع، لأن الرأسمال يبدو غير معني بها، يستغلها ويستفيد من الهشاشة التي تنجم عنها ويظل ملتزما بحياده غير الموضوعي. لا يستغرب المرء بالضرورة أن يكون الريع العقاري إحدى الأنشطة المدرة للأرباح بسرعة والأكثر انتشارا من حيث الكم والكيف. يصعب بالتالي اعتبار كازابلانكا نموذجا لمنطقة يسودها التعاون بين الفعلة الاقتصاديين والاجتماعيين, بل تسودها القطائع والتهميش والأنانية التي تصير عقيدة لدى شرائح وفئات تعيش داخل جزرها العمرانية الراقية, وبالتالي لا يمكن أبدا الحديث عنها انطلاقا من وجهة نظر قد تعتبرها منطقة حاملة لفرص ديمقراطية جديدة. لقد أخفقت الديمقراطية المحلية إخفاقا ذريعا في كازابلانكا وتمّ الدّوس عليها تحت أقدام المصالح والامتيازات الشخصية، ولم تحقق للكثير من المواطنين من دافعي الضرائب الحد الأدنى من الخدمات العمومية التي يمكن أن يستفيدوا منها في حياتهم اليومية (التنقل، السكن، التعليم...إلخ). المدينة أفق ممكن دائما يبنيه العديد من الفعلة، أفق مشترك وليست ساحة صراع بين مصالح وامتيازات متضاربة تشل حركتها، وتحد من إمكانية الاستثمار داخلها نظرا لتشعب البيروقراطية وتغوّلها. أمّا الحديث عن الجانب الثقافي في كازابلانكا فيبدو من قبيل الرّجم بالغيب، إذ كيف لمدينة تأوي الملايين وتغلق فيها قاعات السينما باستمرار لتفتح مكانها محلات الأكل السريع ومتاجر الألبسة الجاهزة، مدينة بلا قاعة مسرح حقيقي وبمهرجانات مفبركة يكون كل همها الأساس ابتلاع ميزانيات ضخمة، مدينة شبيهة بصحراء ثقافية تعد فيها المكتبات على رؤوس الأصابع، ولا يسودها غير الحس الميركانتيلي الأرعن حيث يباع فيها ويشترى كل شيء، من الأجساد إلى السلع مرورا بأشياء أخرى غامضة. أعبر المدينة صامتا. الأزقة مكتظة بالمارة، المقاهي مليئة بالزبناء الذين يتأملون بشغف الأجساد الأنثوية العابرة، يتجول المشردون والمجانين بجوار الأغنياء والأسوياء. المدينة فضاء مفتوح لكل هؤلاء القادمين من قارات متناقضة. أشخاص يحشرون رؤوسهم في صناديق القمامة ويشرعون في التهام وجبتهم الصباحية، نسوة متقدمات في العمر يتصارعن في موقف مرس السلطان حول زبون يتبادلن الشتائم بكلمات عارية. أفكر، أتخيل المدينة كمركبة فضائية راسية هنا منذ سنوات وقد أترجل يوما مّا عن حافلة 900 أو القطار في كازابور لأكتشف بغثة بأنها لم تعد راسية في مكانها، وأنها حملت كل الكائنات الغامضة والحية والمتصارعة في رحلة إلى كوكب بعيد. أجلس في إحدى المقاهي المتراصة بجوار حديقة الجامعة العربية. يجلس بجواري مجموعة من المتقاعدين، أحدهم يسرد بفرنسية ركيكة وقائع سفره إلى فرنسا يتحدث عم سان مالو، بريست، هونفلور وعن بروج في بلجيكا التي تشبه فينيسيا، في ما الآخرون يجيبونه بالدارجة، يتحدث الشخص وهو يقوم بحركات من يديه تنم عن الخيلاء والتكبر. يبدو كما لو أنه يسرد عناوين أغنيات لجاك بريل. من يعرف ريبرتوار هذا المغني-الشاعر ويعشقه سيفهم المقصود. متقاعدون من الدرجة الأولى لا يقضون سحابة أعمارهم البئيسة جالسين عند ناصية الدرب أو فوق عشب الحدائق العمومية أو فوق كراسيهم يلعبون الضاما بالساعات. يتحدث هؤلاء المتقاعدون الهاي كلاس عن الأبناء الذين يدرسون في أوربا أو كندا، وعن مشاريعهم هناك. إنهم فئة ناجية تستفيد من فضائل بلاد اسمها المغرب، وتسخر بصلف من انسداد الآفاق. أي أفق؟. لا أحد يدري. الأمر لا يعدو أن يكون ضربا من الكلام المكرور والمعاد حذّ القرف، شيء ما كطقس شيزوفريني لجلد الذات الجماعية، لكن ذواتهم الخاصة تظل ملمومة على أنانيتها ومصالحها الضيقة دون أدنى إحساس بالمسؤولية. تحمل حقيبة ظهرك بعد أن ترتب أوراقك داخلها، وتخرج قاصدا حي غوتيي لتنجز المهمة التي أتيت من أجلها. أمام الرصيف المقابل للقنصلية الأمريكية يحتشد مجموعة من المغاربة شبان وشابات حاملين ملفات الهجرة. تتذكر فجأة بأن تاريخ اليوم هو 11 سبتمبر 2012 يا للصدفة العمياء. لكن الصدف، تقول لنفسك ليست وحدها من يصنع كوارث العالم ومآسيه. تخترق الأزقة والشوارع ثانية باتجاه كازابور، تمتطي القطار وسط الحشد المهرول تاركا خلفك الميغالوبول أو المدينة-الغول التي قال عنها عمر السيد عضو فرقة «ناس الغيوان» في إحدى البرامج التلفزية: (الدارالبيضاء غول ولكن احنا صنعناه).