الدار البيضاء "مغارب كم": عثمان صديق منهك من قسوة التاريخ والذاكرة، يتصبب حزنا يملأ أطلاله المتصدعة. صامد ينزف بين لحظة وأخرى فتات بنائه المهترئ. إطلالته الأوربية كهلة شاحبة. ملامح الماضي تُستشف من صمت عصي يقبع داخله، حيث صور الممرات والشرفات المندحرة تحيلك إلى تأويل المكان تأويلا يتشابك في تصوراته الأصل والواقع. ملاطه المتآكل ينصهر موضحا قصة مأساته. نوافذه الصماء تكشف عن النسيان الذي طبع هذا المكان. يلبس تاريخا قشيبا من تاريخ مدينة الدارالبيضاء، لكنه لا يستطيع أن يبدي زينته إلا ما ظهر من رسم هندسته المحبك. هو أخرس صوت يقطن شارع محمد الخامس، أقدم بناية عليه. أجمل ما يؤثثه من تاريخ، أقبح ما يلبسه من تصدع. أغنى ما يحمله من تراث، أفقر ما يضمه من اهتمام. إنه فندق *لينكولن*، أو بالأحرى كان فندقا، قبل سنة1989، تاريخ إغلاقه، فصار خندقا يستقبل ضيوفا آخرين ممن يتقاسم معهم قواسم المعاناة والتشرد، يتخذونه لحافا يقيهم رحلة الشتاء والصيف. ومزبلة ينتحر أمامها التاريخ خجلا من جلالة قدره. وذكرى تدون فصول الانهيار البطيء. يحتل ما بين زقاقين ضيقين يقودان إلى أماكن أقل صخبا. مرتفع على طوابق ثلاثة، يؤثث واجهته الأمامية نوافذ كثيرة أحيطت برسومات زخرفية ، شكلت في تمازجها تكاملا إبداعيا باهرا. يشرئب من فوق الفندق سقف خشبي مسنم يحوي نقوشا مغربية إسلامية، تمازجت بشكل انسيابي مع أصل البناء الأوربي. مجموعة من المشاكي رصع بها رصيف الفندق لا زالت واقفة إلى حدود اليوم، انطفأت قناديلها منذ سنوات. تجاورها ثلاث نخلات فارعات الطول، يزكين بوجودهن روعة المكان. وفي الأعلى حمام يبرح سقف الفندق ثم يعود إلى أعشاشه التي نسجها هناك. جمالية كادت تتم مع واقع آخر غير الذي عُقد به مصير الفندق. بعد أن أطبق الإهمال يده عليه، لم تبق لمسات للجمال. كل الأشكال والأوصاف تنتحر في صمت. حروف من اسمه لا تزال عالقة فوق بابه الشمالي وقد شحب لونها. جارت على جدران الفندق مواسم من الأمطار فتصدعت وتهاوى الجزء الشمالي من الواجهة الأمامية للفندق، وما تبقى مستعد أن ينهار في أي لحظة. قصصه مع الشتاء مأساوية، تدون في محاضر الشرطة. والعشب الأخضر الذي نما فجأة داخل الفندق الظاهر للعيان، لم يجد إلا أكواما من الأزبال تؤانسه، يستغله بعض السكان مطرحا للنفايات. أبوابه التي فتحت على مصراعيها ذات زمان وُصدت بالإسمنت فانغلق البناء نهائيا. فجأة خفت توهج الفندق بعد أن كان معلمة حقيقية لمدينة الدارالبيضاء. وسكنا ترتاده الشخصيات الوطنية والأجنبية. لم يبق من الفندق غير الأطلال ووعود بالانعتاق والتحرر لم يعرف لها سبيل إلى غاية اليوم. هو أحزن وجه تلاقيه في شارع محمد الخامس، يطل مباشرة على السوق المركزي، أو ما يعرف عند ساكنة الدارالبيضاء ب*مارشي سانطرال*. السوق الذي يعج يوميا بالمئات من زائريه، أو ممن قدر لهم المرور عند عتباته. وعند الرصيف المحاذي تصطف سيارات أجرة من الحجم الكبير تقل الركاب إلى وجهات مختلفة. وعلى طول الشارع من امتداده الضارب في مركز المدينة حيث *مقهى فرنسا* و*الكرة الأرضية* و*باب مراكش* إلى الناحية الأخرى حيث الطريق المؤدية إلى *محطة القطار المسافرين*، على امتداد هذا الشريط تستوطن حركة دؤوبة طيلة اليوم بحكم تمركز العديد من المؤسسات الاقتصادية في نفس الشارع، بالإضافة إلى ضجيج الأشغال القائمة من أجل إقامة قطارات الطرامواي. أمر يجعل من وسط شارع محمد الخامس حيث يوجد فندق لينكولن مكانا مزدحما بالمارة، القليل منهم من يسرق نظرة متعجلة منه، نظرة جافة لا توحي بشيء، إلا إذا كان الإحساس خوفا من هذا الإرث الآيل للسقوط، والذي أسقط ذات يوم قتيلين نتيجة انهيار أحد أعمدته، مما يشكل خطرا حقيقيا على كل مار حذوه، رغم السياج الذي لف به من طرف السلطات المعنية. تتوقف حافلة سياحية تقل أجانب فرنسيين عند باب السوق المركزي، ينزلون ثم في لحظات يلتفون حول مرشدهم السياحي، صاحب الشارب الممتلئ وجلبابه المغربي الأصيل، يحدثهم بصوت خافت مشيرا حواسه إلى الفندق المنتصب فوق الطرف الثاني من الرصيف. **إنه فندق لينكولن، بني سنة1917 على يد المهندس *إيبير بريد*، صنفته وزارة الثقافة المغربية تراثا عمرانيا هندسيا لمدينة الدارالبيضاء** هذا ما قاله المرشد السياحي حرفيا، ثم حور الكلام متجها بفوج السياح إلى باب السوق المركزي الأكثر أمنا والأرحم تفهما. فتغيب عن السائح أشياء أخرى عن واقع هذا الفندق، وأول ما يغيب عنه ممكن أن يتلمسه قبل بلوغه المكان، حيث الرائحة القديمة التي تنبعث منه وتكسي الفضاء، ليست روائح الماضي أو شيء من هذا القبيل، بل هي روائح نتنة يصير الفندق حقيقة في استنشاقها مرحاضا بدون باب. سائحان آخران شقراوان. يتنزهان لوحدهما. ذكر وأنثى، في الثلاثينيات من العمر. عتبا رصيف الفندق ثم أخذا يحدقان ببصرهما في هذه البناية الكئيبة. يلحظ من توقفهما الطويل أنهما أكثر من سياح يكتشفون المكان. صورا الفندق من كل جوانبه. توغلا قليلا داخل الفندق وحازا على صور أكثر تعبيرا. بعد دقائق من الاستطلاع برحا المكان في صمت. انزوى محل صغير قبالة الفندق. محل صغير يبيع صاحبه الورود وبعض اللوحات. عجوز يتخذ من تجارته هواية أكثر منها عملا. يتذكر السيد العجوز الأيام الخوالي للفندق. كان أكثر من فندق للمبيت. بعض من مرتاديه يتذكرهم بالصوت والصورة. منهم من قضى نحبه. يتذكر بعضا من الشخصيات، الأجنبية على الخصوص. يستحضر أنوار الفندق المتلألئة التي كانت تجعل من المكان لؤلؤة نورانية. ليس هذا فندق لينكولن الذي يعرفه. تغيرت ملامح الشارع تماما عنده. على نفس الرصيف، حيث الحركة لا تكاد تنتهي إلا بعد المغيب. شاب حليق الذقن يحتل حيزا يعرض عليه صورا تستفز المارين بخصوصياتها. صور قديمة تعود لمدينة الدارالبيضاء مع بداية القرن العشرين. يعرضها للبيع بثمن بخس. دراهم معدودة، وكان المارة فيها من الزاهدين. صور عبقة بالتاريخ. فندق لينكولن موجود بين الصور. كان اكثر تحضرا من الآن. لم ينكر التاريخ قط هذه المعلمة. لكن الواقع اليوم تنكر لها بشكل مفرط. ينسدل ثوب الليل على الفندق. الحركة تكاد تكون منقطعة على الفندق كما على امتداد الشارع. كل الناس قد غادروا. *مارشي سانطرال* صار جثة هامدة. سائقو سيارات الأجرة حملوا من تبقى من المتأخرين ورحلوا. صورة أخرى تُرسم متوحشة. وجه بشع للفندق. لا يبشر بخير قط. تضرب القتامة في كل حيز منه. تغيب عنه كثير من ملامح النهار. كأنه صورة أحرقت. لا زال يستضيف زواره في الليالي الصماء، أو ربما قاطنيه. رغم الحظر المضروب على دخوله. يقول *خالد*، أحد المتسكعين المداومين على الاستئناس داخله: جل المتشردين وسط المدينة يلجؤون إليه ليلا من أجل المبيت فيه، ذكورا وإناثا، كؤوس الخمر تقرع باستمرار داخله، ناهيك عن الانحراف الأخلاقي والانفلات الأمني. هو ليل الفندق الذي لا يعرف عنه الناس الكثير. ليل في عيني خالد نهار بعيد عن دوريات الأمن. نفعل ما نشاء، كما نشاء. يقول خالد دائما. بعد أن تشل الحركة بشكل كلي في شارع محمد الخامس، عدا ضجيج بعض الحانات المتسلل إلى الخارج. تنطلق الحركة داخل الفندق بعد أن كان خلال النهار وحيدا معزولا. صار وكرا للفساد والانحراف بكل أنواعه. لم تعد له أية وظيفة أو مكانة، إلا أن ينهار جزء منه فيتسبب في خسائر في الأرواح، أو يشحذ أناسا داخله من أجل ممارسة الانحراف. يتمم خالد.غرفه المنسية لا زالت تفتح وتغلق، وتحضن أجسادا. فصول تمثيلية لمسرحية أخرى، أبطالها المتشردون، وركح مسرحها فندق لينكولن. ومع استمرار صمود الفندق رغما عن أنف الحاضر والمستقبل، تستمر معه إشكالات وطموحات إعادة ترميمه وتجديده، إذ أن كل المشاريع التي تمت صياغتها من أجل هذا الغرض لم يكتب لها أن ترى النور. النور الذي غاب عن فندق لينكولن أكثر من عقدين. كثيرة هي الإشكالات التي تعيق أي مبادرة حقيقية، وأهمها الإشكال القانوني، والذي رغم المرسوم رقم 2.08.093 الذي نشر بالجريدة الرسمية سنة 2009 والذي يقول أن المنفعة العامة تقضي بإعادة ترميم وتجديد فندق لينكولن من طرف الوكالة الحضرية لمدينة الدارالبيضاء. إلا أن حجم التعويض المستحق لصاحب ملكية الفندق الجزائري الأصل يطعن في قرار نقل الملكية. الأخير الذي كان قد اقترح على سلطات المدينة هدم محتويات الفندق الداخلية ، وبناء ستة عشر طابقا مع ترميم الواجهات، إلا أن سقوط أجزاء من الفندق جعل هذا المقترح مرفوضا. ثم أضف إلى هذه المشاريع ما اعتمده مجلس مدينة الدارالبيضاء من أجل إعادة تهيئة الفندق محددا مبلغا مثاليا في 400مليون سنتيم، إلا أن العروض التي توصل بها المجلس فاقت ملياري سنتيم، مما اضطر معه المجلس إلى رفض جميع العروض، لتبقى المعاناة قابعة في أرجاء الفندق، أبية على أي قرار أو مبادرة تعيد الفندق إلى الأيام الخوالي. فلا يستفيد من التراث والتاريخ غير المتشردين أصحاب الذوق في الاستئناس بإرث تاريخي يعود أصله إلى حوالي مائة سنة من الآن.