بدا كما لو أنها أصيبت بمرض الموت، منذ مدة طويلة، منذ سنوات ربما. كتبت «ربما» بالرغم من البرهان الملموس الذي كان الكل يلمسه ويراه : الجسد الذي عمه التآكل والانهيار تماما مثل جدران بيت مهجور نهشتها الرطوبة. اجتاحتها الموت كمرض لا مفر منه، تماما كما تجتاح مويجات البحر الساحل الرملي المبلل، فتمحو شيئا فشيئا ملامح الوجه المنحوت فوقه. كان واضحا أن (خ) منذ شهور ربما، أو منذ سنوات قد صارت طيفا، مجرد طيف يسكن أنقاض شخصية أخرى. الذين خبروا عشرتها من أهلها ومعارفها كان يقولون بأنها لم تعد هي، وأن الجسد الصلب والروح العنيدة حد الهذيان والصلف، الروح التي دأبت على السكن فيه بالرغم من الكوارث قد فقدت بوصلتها، وكانوا يرددون في أحاديثهم الهامسة بأن الموت لن تفلتها، وأنها فقدت بوصلتها وتاهت في أروقة الحياة. لم يستوعبوا بأن مرض الموت كان يشتغلها بدأب وأناة، كما يشتغل الأجساد الآيلة إلى حتفها. بعضهم كان يقول هامسا وساخرا في آن بأنها قد جنت، وأنها كانت تضيع أحيانا في أزقة وشوارع الدارالبيضاء عائدة إلى الحي المحمدي منهكة القوى والأعصاب بعد حصص الدياليز القاتلة ببطء. كانت تفقد وجهتها بالرغم من خبرتها العميقة منذ الطفولة بكل زقاق ودرب وحي، حتى البعيدة منها. ثم نامت (خ) في مرض/أمراض لا رجعة منها. نامت في الصمت الشبيه بجريمة قتل معلنة، وهجرها الكثيرون تاركينها لقدرها المحتوم، تماما كما تهجر لبؤة خانها الزمن. هل كانت (خ) نائمة طيلة الأيام/الأزمنة التي سبقت لحظة الموت، نائمة في مقام الصفح الجميل عن حيواتها المتعددة المنذورة للفرح والحزن، للانخطاف والعصف الأليم، أم نائمة في صمت شبيه بانسحاب هادئ بعد الصخب والجنون الذي عم حياتها. لا أحد يدري وحدها كانت تعرف حقيقة الغياب، والتأويل الممكن للموت وعجزها الصارخ عن مواجهة التعب الوجودي الزاحف. ثم استسلمت للنوم كطفلة، لم تفقد رغم الكوارث براءتها. البعض اعتقد بمكر بأنها ليست نائمة، وأنها تفتعل النوم حتى تديم زمن الحلم الذي ارتكبته، تماما كما نرتكب حياة نعلم سلفا بأنها ستخوننا. ثم ماتت. قيل لي في الهاتف المحمول: لقد ماتت. يعني ذلك أن الطيف انذغم في طيفية لا رجعة منها. امتدت براري الغياب، وركضت الفرس الوحيدة في الحقل الشاسع الممتد بجوار غابة الفلين، ورأيت نجمة يتيمة تغادر مخفورة بأشعة الشمس، بعيدا جدا عن صخب الحياة اليومية. ماتت (خ) هذا الصباح. قد تكون ماتت منذ سنوات، منذ اللحظة التي سمحت فيها للعاصفة بأن تمسك دفة سفينة حياتها/حيواتها دون اعتبار للحواجز والصخور الناتئة.قيل لي في الهاتف: (لقد ماتت منذ لحظة). أنصتت للجملة أنا الآخر كطيف. شيء ما كطيف ينصت وهو في حالة انخطاف. تركت مكاني حملت حقيبة الظهر، انتظرت طويلا في موقف الحافلة 87، ركبتها وقصدت الحي المحمدي. في الكراسي الخلفية الفارغة جلس شابان وشرعا يشتمان الركاب بكلام بذيء. نبرات صوتيهما البطيئة جدا، بل والمائعة كانت تشي بتناولهما حبات الهلوسة. ألفيت باب البيت مشرعا كعادة الناس في الأحياء الشعبية، والدار مليئة بالجيران والأشخاص الغرباء. تلاوة القرآن كانت تنبعث بصوت مسموع. الكل واجم طاعن ربما في التفكير في جلال الموت ووقارها. البعض كان يحكي عن الميتات والجنازات التي عاشها منذ أمد بعيد. كانت الموت الموضوع الوحيد الذي تتمحور حوله الأحاديث والتعليقات. المرأة العجوز البدينة كانت كما رأيتها في جنازات سابقة منخرطة في الحديث عن ابنها وحفيداتها القاطنات في كندا. كانت تستعيد الحكايات والثرثرات ذاتها حد القرف والغثيان، وتصوب ذات اليمين وذات اليسار نظرات ماكرة تتلصص على الجالسين. كان واضحا بأنها بعد كل هذه السنوات لم تبرأ بعد من مرض الكلام. بين الفينة والأخرى كان تروي النكات وتنفجر ضاحكة وحدها، دون أدنى اعتبار لألم الغياب. الحاجة العجوز أم (خ) كانت تنتحب في صمت. دخلت الغرفة حيث كانت تنام الميتة مسربلة أسفل قناع جنائزي. صمت مهيب كان يندلق من الجدران كسائل لزج، صمت ينثال من الجسد الرخامي المتمدد كمومياء. كانت (خ) نائمة في الغرفة ذاتها التي نامت فيها على مدى سنوات. تأملت قناع الموت، تساءلت ما الفرق بين الحضور والغياب، ولماذا تخوننا هشاشة العالم. لقد انتهى كل شيء دفعة واحدة. تذكرت قول الشاعر أبي الأصبع العدواني: (وإذا المنية أنشبت أظفارها/ألفيت كل تميمة لا تنفع). انتهى كل شيء تماما كما نشرب كاس حياتنا دفعة واحدة حتى نلحق بالقطار، نركبه وهو منطلق. كل الصخب والجنون والفرح الغامر والحزن المقيم، كل حيوات (خ) الشبيهة بترحيلات دائمة في المناطق والسهوب البالغة الناي...أطلت مرة واحدة من كوة صغيرة وانسحبت، انمنحت بغثة لصمت داهم. هل هو صمت الموت؟ قد يكون كذلك. تذكرت قول العميق المعري: (خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد). قد تقيم الموت في أمكنة القرب، في البعد الطاعن في جوار فادح لا مفر منه. ها هي (خ) مقيمة أسفل نظري، عيناها المفتوحتان كأنها تنظران إلي. الموت تتكلمنا حين تخفت أصواتنا. هكذا فكرت، وأنا أرى جثتها هاجعة في السكينة الأبدية وسط فضاء الغرفة المحايد، التي اقترفت حياتها وصخبها وغضبها الدائم على مدى سنوات. فكرت في روكيام لراحة الميتة. أخوها الذي يتحدث عن ضرورة اختبار طقوس الحداد عميقا قال : (لقد ارتاحت...) ثم استدرك: (سترتاح). لغات تتهدل من شرفات البياض بلا يقين. الحاجة أم (خ) تنتحب صامتة. تبكي الغياب. الأطياف وحدهم يختبرون الحقيقة، يحتفلون بالغياب في خلاءات ما. الرجل البدين جالس بجوار أمه العجوز، يتبادلان أحاديث هامسة وينفجران ضاحكين كأن الموت مجرد نكتة. تذكرت قول نيتشه عن الجنون كحل ساخر.النائمة عنوة في سرير موتها، صامتة تبدو كما لو أنها تتفرج على مسرح الأحياء. بدت كما لو أنها تحرك عينيها ذات اليسار وذات اليمين وتردد في قرارة نفسها: (أوقفني في الاختيار وقال لي كلهم مرضى). النائمة بدت كما لو أنها تتفرج من كوة خفية على الرعب الذي اجتاح الأحياء فجأة. الحاجة تقول بلوعة: (لقد تركتني وحيدة). الناس يدخلون ويخرجون من المنزل. إحداهن شرعت ترتجل خطابا وعظيا حول الموت وعذاب القبور. النسوة واجمات يترقبن كأن على رؤوسهن الطير. إحدى إخوة (خ) يدخن بشراهة، سيجارة تلو أخرى، واقفا في البلكون، يطل من خلف زجاج نظارته الطبية بعينين محتقنتين دما. الغضب ينفلش من عينيه ممزوجا بنفحة هذيان غامض. فكرت بأنه قد يكون مصاص دماء. الأحياء حول جثة (خ) بدوا كما لو أنهم فرحون، لأنهم أفلتوا هذه المرة من مكر الموت. بدا لي كما لو أن (خ) غابت وكفى. اكتفت بالغياب. كانت نائمة في الصمت والصخب ينمو من حولها، يصاعد كحشائش ضارة وسط حقل مكتظ بسنابل النسيان. طيلة الترحيلات التي ارتكبتها اختبرت (خ) كل الحيوات، كانت تمضي بخطى جريئة خلل الهندسات الغامضة، تمضي في كل آن غاضبة من نفسها، غاضبة من الآخرين ومن العالم كله، غاضبة من القارات والشعوب والقبائل وسياسة الربوات الضاحكة في شاشات التلفزة، وغاضبة من الحصة الملعونة التي تبقت لها، بعد أن فر اللصوص والمنافقون والكاذبون بحصص أخرى أكثر أهمية. كانت تعتبر حصتها الملعونة غنيمة حرب وتحمد الله راضية بالمكتوب. ولجت المنزل نسوة مسربلات في السواد من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، قلن للحاجة بأنهن أتين لغسل الميتة وتكفينها. انهمكن صامتات في عملهن، ثم غادرن الغرفة وحين همت الحاجة بمنحهن بضع المال، قلن بأنهن فعلن ذلك في سبيل الله لأن في ذلك أجرا مكتسبا، حين أخرجت جثة الميتة مرفوعة على الأكتاف ظلت النسوة تنتحبن في صمت، وحدها إحداهن شرعت تحيي الذاهبة إلى أتون غيابها الأبدي، وتطلب منها تبليغ التحية للغائبين الآخرين من أهلها. اخترقت المدينة البيضاء للمرة الأخيرة غير آبهة بصخب وصلف الأحياء. متى ولجت (خ) منطقة النهاية؟ لا أحد يدري. لقد انزلقت في الموت بغثة تماما كما ننزلق بقشرة موز، نفقد توازننا ونسقط بغثة. انهد جسدها المقاوم دفعة واحدة، وانهار كما لو أن العديد من الشروخ الجوانية التي تسكن أعماقة انبجست على السطح. ماتت غاضبة وتائهة وغامضة ورحالة كما كانت طيلة حيواتها. ماتت لأنها عشقت الحياة حد الصلف والهذيان، فنامت أياما قبل أن تغيب نهائيا. رفضت الاستيقاظ من نومها، مغادرة حلمها الذي لم يعرفه أي أحد، حلم مسكون ربما بفرح صاخب وعصف أليم، ككل أحلام الشخصيات المتوترة دوما...السيارات تخترق الشوارع المكتظة لاهثة للالتحاق بالجثة النائمة في سيارة نقل الموتى. السيارات الأخرى تزاحم الموكب الجنائزي وتسابقه، محدثة فوضى مرورية عارمة. في هذه المدينة-الغول يبدو أن لا أحد يحترم مرور الجنازات، كأن الموت لا تعني الحشد الهائل من الساعين للبقاء قيد الحياة. ولج الموكب مملكة الموت التي كانت تمتد شاسعة وطاعنة في صمتها. الموتى لا يحبون الصخب والضجيج. هنا ينتشر سلام القبور والنوم الدائم في سرير عدمي. عشرات القبور المحفورة توا تمتد على حد البصر، مقابر عائلية تنتظر ساكنيها. المكان الضالع في صمته يشي بأن الأجساد التي تحيا، تسير على قدمين مجرد جثث ممكنة، وأن الموت تنضج في جوانية الأحياء ببطء تماما كما تنضج الفاكهة. أمام إدارة المقبرة نصبت لوحة رخامية ضخمة على شكل شاهدة تتضمن أصناف القبور وأثمان كل واحد منها، من القبر الهاي كلاس حيث يمكن أن ترقد جثة بورجوازي ثري إلى القبر البسيط العديم الملامح، حيث يمكن أن تثوي جثة شخص فقير طاعن في بؤسه الاجتماعي والمالي. تظل المقامات والامتيازات محفوظة حتى في الموت. نامت (خ) في حفرتها. وضعت فوقها أغطية إسمنتية ضخمة وهيل عليها التراب. تحلق فقهاء بجلابيبهم الحائلة اللون والمتسخة حول القبر. كانوا يوزعون نظرات ماكرة من أعينهم المحتقنة دما، وهم يتفرسون في ملامح الحاضرين من أهل الميتة ومعارفها وينذغمون في تلاوتهم السريعة، وكلما امتدت يد ما إلى الجيب كلما رفعوا من الإيقاع وأسرعوا في سرد الأدعية. بدأ المرافقون للجنازة يوزعون الأوراق المالية على الفقهاء وحفاري القبور. أهيل المزيد من التراب على الغياب. عم الصمت واستعد الكل للإياب. ابتعدنا عن القبر. غادرنا المقبرة وظلت (خ) هناك وحيدة صحبة الأطياف، كأنها تفكر في نصب مكائد للعدم. انتشر النسيان في المكان كعدوى غامضة وعم ممكة الأموات وقبل أن أغادر البوابة الضخمة استدرت بحركة غريزية كأنني أبحث عن (خ).(...)