– ما هي العوامل التي وجهت اختياركم لشعبة الفلسفة في التعليم الجامعي؟ – قرار اختيار شعبة الفلسفة في التعليم الجامعي، لم يكن في إطار توجيه تربوي، بل كان في إطار إيديولوجي، حيث انخرطت منذ المرحلة الإعدادية في العمل الجمعوي المؤطر من طرف الأساتذة ذوو الاتجاهات التقديمة خصوصا الذين كانوا آنذاك يقودون النضال في إطار حزب القوات الشعبية، عبر جمعيات ثقافية وشبيبية. في المرحلة الثانوية وجدت نفسي مرتبط بأحد أستاذة اللغة العربية الذي بدأ يزودني بالمجلات والكتب ويكلفني بتنظيم عروض داخل الفصل. كان الأستاذة يختارون بعض التلاميذ ويقومون بتأطيرهم بطريق غير مباشرة استعدادا لاستقطابهم فيما بعد. أساتذة الفلسفة آنذاك كان أغلبهم من الأردن ، حيث لم نكن نتجاوب معهم لأننا كنا نطالع كتبا في مكتبة (الجمعية الثقافية ). وأذكر ان من بين الأسماء التي كنا نتداولها : طيب تيزيني وحسين مروة ومهدي عامل وجورج طرابيشي، وأبرز مشروع لفت انتباهنا آنذاك هو مشروع الدكتور الطيب تيزني الذي يسعى إلى دراسة الجانب الفلسفي في التراث العربي الإسلامي في العصر الوسيط، من خلال رؤية جدلية تستند إلى خلفية ماركسية، بهدف الكشف عن الجوانب التنويرية والتقديمة في هذا التراث، خصوصا في كتابيه «مشروع رؤية للفكر العربي في العصر الوسيط» و»مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث». إن دراسة التراث بالنسبة للمفكر الماركسي ليست هدفا في ذاتها بل هي مناسبة لإعادة النظر في مجموعة من القضايا التي تهم المجتمعات العربية التي تعاني من التأخر التاريخي والتشرذم السياسي، وباعتباره مفكرا ماركسيا فقد كان من الضروري التسلح بالفكر الاشتراكي العلمي وأداته الحزبية الثورية من أجل تحقيق الاشتراكية والعدالة الاجتماعية عبر النضال ضد الطبقات الرجعية المسيطرة في تلك المجتمعات والتي تستغل التراث من أجل تكريس هيمنها على الجسد والروح معا. لذلك يبقى التراث هو المجال الملائم لخوض الصراع الإيديولوجي ضد هذه الطبقات الحاكمة. وانسجاما مع التصور المادي التاريخي يؤكد تيزيني بأن الفكر العربي الإسلامي لم ينزل من السماء وإنما جاء نتيجة لشروط اقتصادية واجتماعية وتاريخية محددة، وهذا ما يسهل عمل الباحث الذي يوظف أدوات التحليل التاريخي والجدلي من أجل تحقيق هذا الهدف، من هنا نجد بأن هذا الفكر يعكس الصراع بين قوى تقدمية مادية وأخرى رجعية غيبية مثالية. ولايعكس الصراع المفتعل بين العقل والنقل كما يدعي ذلك مؤرخو الفكر الإسلامي والفرق الكلامية. لقد رفع بعض الفلاسفة راية التقدم والفكر المادي لمواجهة إيديولوجيا الطبقات الحاكمة وكانت الفلسفة المادية هي سلاحهم القوي لهدم الفكر الغيبي. رغم صعوبة الأسلوب الذي كتب به هذا المؤلف كنا نحاول قراءته والتعرف على أطروحاته الغنية التي تقارب التراث العربي الإسلامي من منظور ماركسي. وهذا شيء طبيعي في تلك المرحلة التي كانت تعرف مدا عالميا للفكر الاشتراكي خاصة على المستوى الثقافي، بالنسبة لنا كان النضال الثقافي على رأس جدول الأعمال . كذلك كتابات الدكتور حسين مروة ومهدي عامل زودتنا بأدوات منهجية للتحليل والمناقشة خاصة وأن نصف مقرر الفلسفة كان مخصصا للفكر الإسلامي، فكان من الطبيعي أن نبحث عن الجوانب التي يسكت عنها المقرر والتي لايذكرها الأستاذ في دروسه . وغالبا ماكان هذا الأخير يفاجأ ببعض الأفكار التي يطرحها التلاميذ للنقاش. فتكويننا الفلسفي لم يكن داخل أسوار المؤسسة التعليمية ، بل في دور الشباب والجمعيات الثقافية وأحيانا في إطار الخلايا الحزبية. من هنا فإن قرار اختيار شعبة الفلسفة كان نتيجة لتكوين إيديولوجي سياسي، وبتوجيه من المدرسين الذي كانوا بالإضافة إلى مهامهم التربوية، مقتنعين بدورهم السياسي في توعية المجتمع عبر تأطير الشبيبة التلاميذية. ولاننسى أن المغرب عرف تأسيس النقابة الوطنية للتلاميذ التي لعبت دورا كبيرا في الحراك السياسي في مغرب السبعينات من القرن الماضي. هكذا ذهبنا إلى الجامعة وسجلنا أنفسنا في شعبة الفلسفة بمساعدة لجان الطلبة المنضوية تحت منظمة الاتحاد الوطني المغرب المحظورة في تلك الفترة، وبدعم من أساتذتنا وقد بقينا على اتصال بهم حتى مابعد تخرجنا من الجامعة. وأنا شخصيا عدت واشتغلت مع الكثيرين منهم في نفس المؤسسة التي حصلت فيها على شهادة الباكالوريا. – هل نستطيع الحديث اليوم عن فلسفة جديدة في المغرب بعد ما عرف بجيل الأساتذة؟ – الجيل الأول للأساتذة كما قلت كان منشغلا بالدور الإيديولوجي والسياسي للمثقف العضوي، وكانت اهتماماتهم الفكرية تنصب في هذا الاتجاه، لذلك فإن تكويننا الفلسفي في السبعينات، ومنذ تعريب شعبة الفلسفة، كان تكوينا يطغى عليه الطابع الإيديولوجي. كما أن معظم محاور البرامج يتم تدريسها برؤية إيديولوجية يسارية من خلال أنساق فلسفية ،إلى درجة أن أحد الأساتذة (حتى لا أذكر الأسماء) قد كان يحدثنا في إطار الفلسفة اليونانية عن اليمين واليسار الأرسطي، قياسا على التصنيف الشهير حول اليسار الهيجلي الذي كان ينتمي إليه كارل ماركس والذي كان يدافع عن المنهج الجدلي في مقابل اليمين الهيجلي المتشبت بالمذهب ذو الطابع الصوفي.. وأذكر أن من بين الكتب التي اطلعت عليها في تلك الفترة كتاب « اليمين واليسار في الإسلام»..طبعا كانت هناك استثناءات تجلت في بعض الأستاذة الذي كانوا يحاولون التنويع وطرح قضايا فلسفية جديدة، لكن بصورة محدودة لأن المد كان عالميا لايمكن تجاوزه فإما الانخراط فيه أو الانسحاب منه. طبعا اليوم هناك فلسفات جديدة تعالج قضايا من نوع آخر، في تلك المرحلة كنا نعتبر دروس فلسفة اللغة تندرج ضمن الفلسفة الوضعية التي ينبغي أن نتخذ منها موقفا نقديا ليس من الناحية العلمية بل على المستوى الإيديولويجي فهي فلسفة بورجوازية رجعية تهدف إلى تحريف الفكر واصطناع قضايا بعيدة عن النضال من أجل تحقيق الاشتراكية و العدالة الاجتماعية. اليوم هناك مرحلة أخرى في التفكير الفلسفي طبعا تساير التطورات التي يعرفها الفكر الإنساني ، بالإضافة إلى تحرر البعض من الرؤية الفرانكفونية والاشتغال بالمرجعية الأنجلوساكسونية، وهذا من شأنه أن يغني الثقافة العربية عموما والفكر الفلسفي على الخصوص. وهنا أريد أن استشهد بماكتبه الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي حول الموضوع حين أشار إلى أن الفكر الفلسفي في المرحلة الراهنة لا ينشغل بموضوعات بعينها بقدر ما ينشغل بنفسه ويبحث عن أصوله وكيفية نشأتها. من فإن هنا التفكير الفلسفي عندنا ينصب على «مفاهيم استراتيجية ترمي إلى مراجعة مفاهيم الفلسفة وقضاياها وإعادة النظر في التراث الفلسفي..ولعل هذا هو ما يفسر الأهمية التي يتخذها مفهوم التراث ومايرتبط به من مفاهيم كالتاريخ والهوية والخصوصية. وقد أدى هذا إلى توظيف مفاهيم إجرائية أخرى لتأويل ذلك التراث كمفهوم القراءة والإيديولوجيا ومايرتبط بهما من مفاهيم ابستمولوجية كالعقلانية والواقع والموضوعية والإشكالية والقطيعة.» ثم يضيف بنعبد العالي بأن المفاهيم الفلسفية المتداولة عندنا إذن هي مفاهيم توظف من أجل تملك التراث الفلسفي، سواء تعلق الأمر بما يسمى التراث الغربي أو بتراثنا العربي الإسلامي. وفي اعتقادنا أن هذه المفاهيم، رغم تعددها، يمكن أن ترد إلى ثلاثة أساسية: *- مفهوم التاريخ ومايرتبط به من مفاهيم أخرى كالتراث والكلية والتاريخية والإرادية والاستمرارية والقطيعة. *- مفهوم الهوية ومايتعلق به من مفاهيم كالأصالة والقويمة والخصوصية والتعاير.. *- مفهوم الإيديولوجيا، ومايرتبط به كمفهوم التأويل والقراءة والموضوعية والحقيقة والواقع واللاشعور والخيال. إن هذا التوصيف الذي قدمه الأستاذ بنعبد العالي يرسم صورة دقيقة للوضع الفلسفي عندنا مابين جيل المؤسسين والجيل الجديد. – غيّر نظام العولمة مفاهيم وتصورات متعددة؛ إذ نلاحظ إبدالات في صورة الأستاذ والفيلسوف والمثقف والخيال…وبالمقابل ظهرت صورة الخبير والتقني الجديد. هل مازالت للفلسفة جاذبيتها في هذا السياق الجارف. – نظام العولمة فرض نفسه على جميع مناحي الحياة الإنسانية، ويصعب مقاومته ومقاومة مايفرضه علينا من تحولات ، بل من تشهوات. أستاذ الفلسفة كغيره من الناس وكرجل تعليم يؤمن بخصوصية رسالته التربوية والتنويرية يجد نفسه أمام وضعية جديدة ، أمام تلميذ جديد يفكر بطريقة مختلفة، يتوفر على هاتف ذكي وحاسوب ووسائل تقنية متعددة ،كما يجد نفسه أمام جمود المنظومة التعليمية التي لازالت تشتغل بآليات تقليدية بعيدة عن كل تطور . نعم لازالت الفلسفة مادة استثنائية لأنها تواجه هذا المتعلم المشحون بمعارف تقليدية يتلقاها عن طريق الشحن والتلقين ويطلب منه ترديد ماتلقاه عن طريق الحفظ والاستظهار. أستاذ الفلسفة من واجبه أن يعطي الكلمة لهذا المتعلم المحروم من التعبير عن ذاته في البيت والشارع والمدرسة. يعطيه الكلمة ليكسر نمط عيشه الروتيني ليناقش ويتحاور ويبدي رأيه في كل شيء. – يعلمنا الدرس الفلسفي النقد والسؤال، لكن إلى أي حدّ ما زالت هذه القيم المعرفية حاضرة عند مدرسي الفلسفة اليوم؟ – الفلسفة هي تفكير نقدي تساؤلي، هذه من الأبجديات التي يتعلمها التلميذ أو الطالب في بداية تعاطيه للدرس الفلسفي على يد الأستاذ، لكن هذه المسألة لاتبقى حبيسة الملخص الذي يسجله في كراساته، المتلقي يمارس النقد والتساؤل باستمرار وهو يتعلم التفلسف ويحاور الأفكار والأطروحات التي يتعرف عليها. وإذا تمكن من استيعاب ذلك عبر الممارسة فإنه ينتقل إلى تعميمها في مجالات أخرى من حياته اليومية. مع الأسف فالتعليم المغربي يعتمد على ترسانة من البرامج تسعى إلى شحن المتعلم بمعلومات ومعارف دون استعمال العقل والمنطق وأدوات المحاكمة الفكرية النقدية. بالإضافة إلى تعلمه عدم الخوض في أمور أخرى تتعلق بقضايا الدين والجنس والسياسة وهو ما اصطلح عليه ب»الثالوث المحرم». قيم ينبغي أن تكون بالضرورة حاضرة عن مدرس الفلسفة، بل إنها من الأولويات التي ينبغي الحرص عليها. طبعا نجد بعض الإكراهات المتعلقة بالتقويم قد تنسف كل مايخطط له الأستاذ من أجل ترسيخ هذه القيم. فطريقة وضع الاختبارات وفقا لما يسمى بالأطر المرجعية لايشجع على ذلك، حيث يتحول التلميذ إلى وعاء يحفظ الأطروحات ويرددها بطريقة آلية في كتاباته الإنشائية، كما أن تكريس هذه الممارسات تعكسه المطبوعات التي أصبحت منتشرة بصورة كبيرة جدا بين التلاميذ والتي تعلمهم بعض الطرق الغير تربوية لإنجاز المواضيع بطريقة آلية، بل عبر مواضيع جاهزة «ستنادار» ما على المرشح للامتحانات إلا حفظها أو نقلها لاجتياز الاختبار والحصول على نقطة. وهذا في حد ذاته جزء من الفوضى التي يعرفها مايسمى بالتأليف الموازي الذي ساهم بشكل كبير،وفي جميع المواد، في الحط من المستوى التعليمي في بلادنا. – تحملتم المسؤولية في الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة بالمغرب، ماذا أضافت لكم هذه التجربة؟ وما هي انتظاراتكم منها؟ – انخرطت في الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة منذ تخرجي من الجامعة والتحاقي بسلك في بداية الثمانيات ، وكت أتابع باستمرار الجمعية، اقتني منشوراتها وأحضر مؤتمراتها، إلى أن قررنا في مدينة الجديدة تأسيس فرع الجمعية سنة 1996 حيث كان من بين أنشطة الفروع على المستوى الوطني حيث نظمنا لقاءات محلية ووطنية عالجت قضايا فلسفة وفكرية وتربوية تخص مسائل تدريس الفلسفة في ال فكانت 1999 سنة محمد أركون الذي جاء من باريس خصيصا لهذا اللقاء. كذلك نظما سنة 2003 سنة عبد الله العروي. ورغم الإمكانيات المادية الهزيلة فقد كنا نراهن على جعل الجمعية إطارا للتكوين المستمر للمدرس وللدفاع عن الدرس الفلسفة ونشر الفكر العقلاني، وفي هذا الإطار كنا نصدر كراسا شهريا يحمل عنوان « لوغوس» لعب دورا كبيرا في التواصل بين المدرسين وكان في نفس الوقت بمثابة أرشيف يعكس أنشطة الفرع ومشاريعه. وأظن أننا نجحنا إلى حد ما في تحقيق الكثير من الأهداف التي سطرناها أثناء التحضير لتأسيس الفرع. كما اعتبرنا الجمعية جزءا من النسيج الجمعوي بالمدينة حيث شاركنا في الكثير من التظاهرات الثقافية وعلى مستويات متعددة. أعتقد أن هناك ضرورة ملحة للعمل الجمعوي في هذا المجال ولحسن فقد تم إحياء الجمعية مؤخرا على الصعيد الوطني وبدأت تسترجع ادوراها التاريخية بعد فترة جمود دامت عدة سنوات. فهي المنبر الوحيد الذي ينبغي أن نتواصل من خلاله مع كافة مكونات المجتمع ، وبهذه المناسبة أدعو جميع مدرسي الفلسفة إلى المساهمة في النهوض بجمعيتهم ودعمها باستمرار عبر الانخراط ماديا وفكريا.