على من يدلف إلى عالم أنيس الرافعي القصصي، أن يطلب التسليم من هوميروس وبورخيس وأصحاب المتاهات الدائرية المعقدة والبناءات القصصية كثيرة الطوابق والمستويات. عالم مشكل من نصوص تجذبك إليها منقادا إلى سحر العبارة وجمال التشكيل وبديع الصوغ، ورغم أنها تحتاج زادا معرفيا مهما نظرا لخلفية الكاتب القرائية ومراجعه الفلسفية والجمالية، ولتوقه المستمر للتجريب، واجتراح الطرائق الجديدة في الكتابة، إلا أنها نصوص محفزة للقراءة المتجددة المفتوحة على تأويلات لا نهائية. أنيس الرافعي خياط مولوع بطرز الهيئات السردية كثيرة التفاصيل، يحتاج اكتشافها إلى الاستعانة بمختلف العتبات المبثوثة على طول النصوص. عتبات تشتغل مثل علامات مرور تنبه القارئ إلى المنعرجات الخطيرة حيث يجب التخفيف من السرعة وعلامات حمراء كثيرة تستوجب الوقوف أو التوقف أو حتى العودة إلى الوراء من اجل استكمال الجاهزية والاستعداد. عوالم تنقلك من التصوف إلى أفلام الرعب وقصص الخيال العلمي والقصص البوليسية، وتجتاز بك موسوعات المخلوقات العجيبة وتاريخ الأديان المقارن وعلم الحيل (أو الميكانيكا قديما) وعلم الفلك والفيزياء النظرية والكوانطا، وتحلق بك في مدارات غريبة قبل تحط بك في مرارة الواقع، أو تتركك بين بين، في توليف رائع لا يشعرك للحظة بالمطبات الناجمة عن تغير الحرارة والرطوبة والضغط الجوي. صورة الموندالا التي تخترق جميع النصوص، تجعل منها حلما مكثفا بالرموز ومشبعا بالنماذج الأصلية، وكأنها حكاية من الإنسانية الأولى لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، أو رحلة مسارية تكشف توق الكائن إلى التدرج في المقامات الروحية، عبر سلسلة من الاختبارات والطقوس، وصولا إلى الاستنارة الكاملة. مرايا بورخيس المتجاورة وأكوان ستيفن هوكينغ المتوازية، وحيوات متجاورة لأشخاص عبروا، وأخرى لأشباح مازالت تملأ بصخبها وحكاياتها المكان. كلها مداخل لرتق الهيئات التي ليست سوى صورة للعالم بكل تقاطعاته المرئية واللامرئية. عالم آثرت هذه المجموعة رسمه تجسيدا لرغبة قديمة ( الرجل الذي اقترح على نفسه رسم العالم)، بل ربما بناءه من جديد على أنقاضه القديمة. في نص «رحلة حول غرفة بفندق ريتز» الموشى بقماشة الأطياف والمغرز بالغرزة المتصلة، والمهدى إلى كل من (محمد شكري، بول بولز، عبد السلام المريني، عبد اللطيف بنيحيى، وعبد المومن العشيري) ينقلنا السارد إلى طنجة ويعود بنا منها، عبر سبعة عشر محطة. ابتداء من الوصول إليها، هروبا من حياة رتيبة، ورغبة في التخلص من أدران اليومي واكتشاف الأماكن القصية في الروح. وانتقالا إلى الركوب في سيارة أجرة يقودها سائق يعرف الوجهة حتى من غير سؤاله. ثم الوصف الدقيق للغرفة التي أمضى فيها شكري أيامه الأخيرة حين اشتد عليه المرض ونشب فيه أظافره الطويلة. وفيها يوجد فيها السارد وجودا ملتبسا متطابقا، تطابق قطعتي دومينو متراكبتين وتحملان نفس العدد، مستعينا مثل شامان في حالة وجد وانخطاف بأرواح متعددة تساعده في القيام بسلسلة الحركات التي كان شكري يؤديها بنفس الدقة والترتيب. هذان الوجودان أو الكونان المتوازيان الموجودان وجودا فعليا تتخذ فيهما الكائنات حسب الاستدلال الافتراضي أشكالا أخرى مثل سيارة «الفورد موستانغ» التي تتقمص أعمال كاتبة الروايات النفسية التشويقية التي تحبس الأنفاس؛ الأمريكية باتريسيا هايسميث: صرخة البومة، بصمة المزيف، المياه العميقة… كما لا يخلو النص من التماعات شعرية مليئة بالصور والاستعارات، كهذه المقاطع التي يتغزل فيها السارد بليل طنجة: "سأتركك تخوض مغامرة النوم لساعات إضافية وسوف أجوب متبعا هواي بدلا عنك ليل طنجة الغامق الخلاب المخيف، إذ إن النهار هنا كلب أعرج بامتياز هنا النهار وعاء الزهرة الفارغ والليل حديقة كاملة النهار ملك هنا للطيور السمينة البليدة أما الليل فسماء تحلق في افقها الطيور الجريحة الجارحة النهار يابسة بائسة هنا والليل ميناء جديد تنطلق منه الروح لتمخر عباب العدم".ص عن شكري يتحدث. وكما كان منتظرا، فإن الهيئات تمت تطريزها بإبر دقيقة وخيوط كثيرة تكشف عنها الدلائل المرجعية المذيلة لكل قماشة. وهي دلائل تزيح بعض الحجب، وتبدد الغموض الذي يتراءى لأول وهلة. وكما أن للسارد دلائله، فللقارئ أيضا دلائله المرجعية الخاصة التي يستند إليها لفك شفرة النصوص واستنطاقها. *دليل مرجعي خاص بإنجاز هذه القراءة: -كتاب الرمل ..بورخيس -الألف.. بورخيس -منطق الطير..فريد الدين العطار -أصل الأنواع ..داروين -البرهنة الكاملة لمبرهنة "فيرما" لعالم الرياضيات البريطاني أندرو ويلز، عبر مسلك المنحنيات الإهليلجية.1994 -حدسية بوانكاريه . 1904 -سيرة إيفاريست غالوا ونظريته الثورية عن الزمر. -تاريخ موجز للزمن من الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء ..ستيفن هوكينغ. -معجم الرموز.