يستمد العنوان أعلاه مضانه من سطر في قصة بالصفحة(72) من المجموعة. أستلفه اعتباطا للقراءة والدخول العابر. وهوأحد التعبيرات الكثيرة التي ينحتها الكاتب لنسج عوالمه القصصية المحكمة المسبوكة. من هنا يطفر السؤال عن علاقة عمود ( poteau, pylône) مجهول بفعل الدهشة والإحساس بها. تزول الغرابة عندما نقرأ بأن الأمر يتعلق ب«رجل مربوط إلى عمود الدهشة»، فيدل فيما يدل عليه كما يستشف ببداهة عن قوة الدهشة إلى حد التسمر إلى عمود / مثل عمود. الصورة بليغة أولا في الربط المتحقق والذي ينبئ عن غرابة شكلية ( من الشكل) مثيرة، وثانيا كتعبير موحي لحالة يجب رصدها. نورد هذا المثال للتدليل على أن كتابة أنيس الرافعي القصصية تنحومنحى النحت في قاموس لغوي خصب لتركيب تشكيلات تعبيرية لا مألوفة وغير مسبوقة لتصوير الحالات والمواقف والوقائع والسلوكات التي تلتصق بشخصياته القصصية المتفردة الخارجة أيضا عن مألوف الكتابة القصصية. وتتوزع هذه التعبيرات في كل النصوص وكل القصص وجل الصفحات لا يمكن إلا أن تسترعي انتباه كل كاتب قصة يحاول إيجاد الصور التي تبوح وتوحي بفنية وبيان ولكن بشكل مختلف. نورد أمثلة لهذه التعبيرات: «تندق في رأسه كالمسمار فكرة، أصابعه نمر يسبقه، ديكور متقن للانتظار، فوهة التلويح، تضرم الركض، يشهر عينيه، يسقط كاملا في قلق فصيح، ارتباك ناصع، جبل ثقيل بين الكتفين، نظارة الهدنة»... وكما هوملاحظ فالكاتب هنا يستعير إحدى آليات اشتغال الشعر بتطويع اللغة لخلق الصور وتفتيت المعنى أوتركيزه، لخلق لغة موازية ومرادفة بتوخي التنويع أكثر فأكثر. وأيضا لاستخراج كلمات جديدة عن حالات جديدة تصفها وتدل عليها. لكنه وهويأتي الشعر بتوظيف بعض آلياته لا يفعل إلا بالابتعاد عن الشعر، وإن يفعل فللانخراط أكثر في القص. بمعنى أن القصة تتقوى كقصة. ألم يقل أن أفضل القصص هي التي تمتح من الشعر روحه. وبالفعل ذاك ما يحصل في جل أجزاء المجموعة المكونة من مجاميع ثلاثة سابقة تم جمعها في «علبة الباندورا»، ولما يتم الحديث عن القص هنا فالمقصود به هوالسرد الذي يغتني محكيُُّه بشكل لافت، والذي يتعدد من مجموعة إلى أخرى في سبيل خلق أولنقل إبداع ” ديوان قصصي” كما قال الكاتب بنفسه ذات حوار ( في موقع دروب الثقافي) كبوح صريح ومضمن في ذات الآن. كما أن التعبيرات هاته تأتي نتيجة عمل إبداعي وتخييلي متأن ومفكّر فيه بمنطق سردي محكم. هي تمرين لغوي وحكائي. سردي يطال النص القصصي( أوالقصة) ككل وفي جل مكوناتها وأجزاء معمارها. نتحدث عن المعمار لأن هذه الكتابة تمرين أسلوبي يجد مرجعياته في قارة أدبية عالمية لها روادها الرائعون وأبرزهم ريموند كينووجورج بيريك في الجانب الرياضي التركيبي للنص القصصي المرومة كتابته، وخورخي بورخيس وإيتالوكالفينوفي الجانب الثيمي الموضوعاتي دون نسيان خوليوكورطاثار الذي ألهم الكاتب منذ البداية. فهوالباعث أوالموقظ الأول لنزعة التجريب في الكتابة لديه كما قال مرارا وكما هوملاحظ من خلال ما يدبج. ونذكر بشكل عابر هذا الجانب الشكلي المتوخى والذي يسترعي الانتباه من أول لحظة نمسك فيها كتبه/كتابه. تظهر النصوص بعناوين فرعية وتقطيعات وفقرات صغيرة وهوامش لا تستقيم على شكل محدد أبدا. فلكل نص شكله المميز. يبدأ بمقدمة ولا بد أن ينتهي بهامش سفلي أوملاحظة ما بعد النهاية. إلا أن الكل يكون في المحصلة متكاملا ومتعاضدا لأنها مبتغاة وقد أشار إلى نحوذلك بقوله في الصفحة 16: «على مقاس الوعي النقدي التجريبي للكاتب يعتورها الكثير من الارتباك المقصود والسخرية المتعمدة». ولسنا في حاجة إلى التأكيد أن هذه المعمارية الشكلية للقصص عند أنيس الرافعي عنصر أساسي، أي أنها المعادل الطبيعي/ الأدبي والإبداعي للمحتوى الموضوعاتي. فمثلا عندما يتم تخير المنحى «الباروكي» في البناء يستتبع ذلك استعمال «الباروك» في الثيمة المطروقة بالضرورة. فالكاتب يشتغل على ثيمات محددة كالقرين، التماثل، الحلم بأنواعه ككوابيس وأضغاث ويقظة، التضاعف المرآوي، الاستبهام ولا بد لها من شكل يوافقها لا يمكن العثور عليه في كتابة عمودية بسيطة وخطية. ومن هنا نجزم أن الاشتغال القصصي عند أنيس الرافعي يذهب إلى الحدود الخفية، القصية، النائية للوجود وللإنسان داخل هذا العالم، أي إلى مناطق الظل والعتمة والليل، رمزيا وواقعيا. وفي نفس الوقت يتم الذهاب وبتواز إلى حيث يكون الزمن مجزأ ومتعددا وإلى حيث الأمكنة لها حدود هلامية وملولبة. نلاحظ ذلك في كل عمل حيث البطل رجل (في الغالب الأعم) يحقق الرغبات عبر حرقة وعي حاد وقاسي، ويقاوم ذاته والعالم في عمق اللاتوازن والاختلال والعزلة والمطاردة. هورجل مدينة وفضاء حضري يعصره الوجود في أمكنة هي غرف وشقق وحدائق ومقاه، وفيها تلعب “الإكسسوارات” المالئة والحاضرة والمكونة لها الدور الأكبر كموتيفات للحكي وكمحفزات وكأثارات. هي أبواب وصور معلقة ومرايا ونوافذ أوكراسي ومقاعد... أي أنها تلك الأدوات التي تمنح الفتحات الواقعية والرمزية المؤدية للمجهول كما للمعلوم والمرعبة كما المحررة والمهدئة، وهي الأدوات المانحة للوقفات المؤدية لعوالم التأمل والاستغراق والغياب. فالقصص هذه تشكل عالما قائما بذاته، قد تبدوعناصره المشكلة له قليلة لكنها قوية بأثرها وبدورها الذي تلعبه داخل النصوص. هناك حالات الأرق والسهد والحلم على سبيل المثال المحصورة بالطبع في غرف النوم، لكنها في نصوص الكاتب القاص تتجاوز ذلك كله لتصير بقامة العالم عندما تحاول اختبار كل الإمكانات المتاحة والذهاب بعيدا في رصد الحالات واستخلاص كل ما تحبل به، كل الإمكانات والاحتمالات. ويتم الأمر حسب تقنية يوظفها الكاتب ترتكز على الافتراض، أي اللعب بالافتراض، حيث يتشكل النص بالاحتمالات المفترضة والتي تخضع لمنطق سردي مضبوط سواء كان مربكة أومثلث باسكال أوتخطيط أوسرد غرافيكي.... وهنا نتساءل عن سبب ومبرر تخير الكاتب لتقنية الافتراض بشكل مداوم. والجواب نجده في بحثه عن كتابة مختلفة منذ أول ظهور أدبي له. ولا يشكل الاختلاف هنا “بدعة” عابرة يحاول بواسطتها في كل مرة الكاتب تجريب «تقليعة» ما. لا، لأن تأمل نصوص المجموعة القصصية ينبئ عن وجود مشروع قصصي نحته، مما يجعل الاختلاف لديه عقيدة متبعة بتأن وتفان وعناية لصيقة. وقد أطلق على هذا المشروع نعت «مشغل الأدب التجريبي» حيث لا « ارتجال ولا إلهام ولا مصادفة «ثم سماه» ما بعد السرد « لكن التسمية العامة الجامعة تظل هي التجريب. مشروع التجريب في الكتابة السردية التي تروم كما يقول «إلى أن تظل صنفا أفقيا وانقلابيا من المحكيات، يتطلع إلى جعل الحياة عسيرة بالنسبة إلى المحكيات الأخرى العمودية والمسالمة» إلى حد «عدم المكوث في الصدى والنموذج». ويتكرر السؤال مرة ثانية عن المرام من كتابة كهذه. لأن الكاتب قرأ ذات يوم لكاتب أرجنتيني هوخوليوكورطاثار، وقرأ لكتاب كثيرين من هؤلاء الذين قادوا سفينة الاختلاف بجميع أنواعه في عالم الكتابة القصصية أوالسردية. ثم سطر له هدفا أدبيا جميلا يتجلى في أن يجسد الصيغة «التطبيقية الوطنية» لهذا الاختلاف. وهي المرة الأولى التي يعلن فيها كاتب مغربي صراحة انتماءه الأدبي ويعلن أنه من سلالة كتاب رائعين ويتوخى أن يكون أحدهم، بالكتابة وبالإبداع وليس بيوغرافيا أوكمجرد تابع. وقد وصل الأمر حد التحسر ذات حوار على وجوده داخل جالية قصصية مغربية، بعيدا عن الأرجنتين التي ينتمي إليها خوليوكورطاثار، لكننا نعرف أن الكاتب أنيس الرافعي يخوض بهذا الكلام إمعانا في مشروع الاختلاف بشكل آخر، فهوكاتب جعل من ساحة السراغنة الشعبية في وسط مدينة الدارالبيضاء ومقاهيها المصطفة، ومن الدارالبيضاء نفسها فضاءات لقصص مجدة مبتكرة ومختلفة ولها ألق إبداعي لافت. ونختم بتساؤل أخير بسيط وشخصي بما أني كاتب قصة. كان التجريب كما تناوله كتاب في العالم العربي قارة ملغزة أقرأ ما يكتب باسمها وأتتبعها بشكل حائر ضمن ما أقرأ من الإنتاجات القصصية وكنت أصاب دائما بالتهيب والحيرة والحذر، نعم الحذر لكوني أقدس الحكاية قبل كل شيء وأعتقد في ضرورة وجود الحبكة كمؤسس أساسي لا محيد عنه في بناء القصة القصيرة. وحينما قرأت مجموعة «علبة الباندورا» وجدت أحد وجوه التجريب الحقيقية وبشكل مختلف، ورأيت أن أنيس الرافعي يكتب الحكاية محبوكة لكن بأدواته المبتكرة، بالتجريب المبتكر في تجدد تبعا لمشروع واع ومفكر فيه، وليس بغرض التجريب العائم، ويكفي أن أبوح بأني كنت شبيها بالرجل المربوط إلى عمود دهشته وأنا أعيد قراءته، وهذه الورقة دليل الدهشة. *علبة الباندورا، متتاليات مابعد سردية، منشورات الشاطئ الثالث، الدارالبيضاء، 2007 * كاتب وناقد سينمائي من المغرب