يقول لله تعالى : {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل لله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم لله من فضله} آل عمران. ومن أبواب في سبيل لله السعي من أجل مصالح الناس وضعفائهم ونصرة المظلومين والمستضعفين ... والخروج في طلب العلم حتى الرجوع منه .. والساعي على الأرملة والمسكين ... يستعد المسلمون للاحتفال بعيد الأضحى المبارك ويجددون الاحتفال به سنويا سيرا على نهج سيد ولد آدم محمد عليه الصلاة والسلام ... قائد ورمز التضحية والفداء هو ومن سبقه من الأنبياء والمرسلين من أجل إقرار العدل، وحماية الناس من الظلم ومناهضة الاستبداد والاستغلال والاستعباد، وبناء عدالة وتضامن اجتماعي ونبذ كل سياسات التفقير والاستخفاف بكرامة الناس ... ...قال ابن القيم (يا مخنث العزم أين أنت والطريق ؟ طريق تعب فيه آدم. وناح لأجله نوح . ورمي في النار الخليل. واضجع للذبح اسماعيل. وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين . ونشر بالمنشار زكرياء. وذبح السيد الحصور يحيى .وقاسى الضر أيوب . وزاد على المقدار بكاء داود. وسار مع الوحش عيسى. وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم .. ) فلا معنى للتَّضْحية إن لم يكن هناك بذل للنفس أو الوقت أو المال في سبيل تحقيق غايات أسمى تستحضر إنصاف المظلومين والذين تطالهم سياسات التفقير والاضطهاد الاجتماعي وطغيان الخصاص في مجالات ومناحي مستلزمات الحياة في حدودها الدنيا .. ولا معنى للتضحية إن قصد بها أن يضحي الذين كانوا ضحايا للسياسات السلبية بما تبقى لديهم من جهد ومال لا يسمن ولا يستجيب حتى للحد من فقرهم .. ولا معنى لإصلاح الأوضاع بادعاء أن علينا أن نضحي بالمزيد من الصبر على رفع الاسعار ومنها ثمن الماء والكهرباء ونسبة الاقتطاع من الاجور وتوقيف تشغيل العاطلين و...والخطاب هنا يستهدف فقراء الأمة وعمالها وموظفوها البسطاء والمهددون بالتفقير ... إن الذين علموا للبشرية التضحية بمفاهيمها الراقية والمشبعة بالإنسانية والرحمة، قصدوا نقيض ما نراه في السياسات العمومية في العديد من الدول ... قصدوا به أن يضحي الذين هم في مقاليد الحكم والذين يتحكمون في تسيير وتدبير الثروات الوطنية المتواجدة برا وبحرا وجوا وتحت الارض ... وخاصة أهمها الثروة البشرية أي الشعب ...قصدوا إعمال ميزان التوزيع العادل للثروات بفتح منافذها وأبوابها للجميع لتثمينها وتطويرها، ومن أجل أن يعم الخير الغالبية العظمى .. بدفع الفقر والحد من زحفه على الشعب بأغلب طبقاته الكبرى ... إن أفكار وادعاءات الحكام قبل أن يتحملوا مسؤولية الشأن العام سواء عن طريق انتخابات سليمة أو موجهة شيء، وممارساتهم وتصريحاتهم بعد استوائهم على الكراسي ..يتبين يوما بعد يوم في هذا العصر أو عصور موغلة في القدم أنه شيء مخالف ومناقض وسلبي وملتبس ..رغم عمليات التجميل والتنميق الرقمي والكلامي و...ونتذكر هنا مقولة للفيلسوف الانجليزي بيرتراند راسل - بطبيعة الحال لا قياس مع وجود الفارق - عندما سئل:» هل أنت مستعد للتضحية بحياتك من أجل أفكارك؟. قال: لا، لأني على يقين من حياتي، ولكني لست على يقين من أفكاري...» ...إن المتأمل للتاريخ المعاصر للمغرب سيجد بوطننا هذا رجالا ونساء بأفكارهم الثورية الواقعية التي كانت تسعى الى استقلال المغرب من الاستعمار الفرنسي والاسباني بهدف بناء الدولة المغربية على أسس ديموقراطية تكون فيها كلمة الشعب مسموعة وإرادته محترمة، وحريته وعيشه الكريم متوفرين في أجواء يسودها العدل والثراء المعرفي والاستفادة من خيرات الوطن ... فعندما خاض عبد الكريم الخطابي والمغاربة بالريف ثورة ضد الاستعمار كانوا جاهزين للتضحية بكل ما يملكون من أجل المغرب ولو فكروا بأنفسهم ما ثاروا .. وعندما خاض المقاومون ومنهم علال بن عبد الله والزرقطوني وحمان الفطواكي والآلاف من أمثالهم المعارك من أجل هذا البلد فاسترخصوا أرواحهم من اجل حرية المغاربة واستقلال الوطن وحماية الشرعية فنالوا الشهادة من أجلنا جميعا ... وعندما استشهد المهدي بنبركة وعمر بنجلون والمئات من امثالهما، مناضلات ومناضلين، في الكثير من المحطات التي عرفها المغرب طوال سنوات الجمر والرصاص بعد الاستقلال .. لم يكونوا يفكرون إلا في مصلحة الشعب المغربي ورخائه وازدهاره ..وكان بإمكانهم وهم في مراكز تسهل لهم أن يحكموا المغرب ويتحكموا في قراراته إلا أنهم انحازوا الى التضحية فكتبت أسماؤهم مع الذين قال فيهم تعالى « : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا لله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن لله كان غفورا رحيما » ... إن التضحية قيمة روحية وأخلاقية وفكرية راقية ومثالية وطاهرة تجعل التاريخ الانساني منذ سيدنا آدم الى الآن له معنى وأهداف نبيلة وأن هناك بالفعل أسبابا عظيمة للوجود بمختلف تجلياته ...فلكل الثقافات والمعتقدات تراث خاص او مشترك يسجل بمداد من الفخر كل تلك التضحيات البعيدة عن الانتهازية والوصولية والارتزاق والركوب على نضالات الاخرين ... إنه لا يجب الخلط بين الذين يضحون بكل شيء من أجل ذواتهم ومنظماتهم وافكارهم حتى ولو كان باستعباد الناس وتفقيرهم واستبلادهم، وبين أسياد وأبطال التضحية الحقيقيين ...ولن نسرد هنا في هذا المقال العديد من الاسماء التي أفسدت حضارات وحطمت إرادات الشعوب بل وأبادت أمما بدعاوى ظاهرها الاصلاح وباطنها أشياء أخرى. وعندما لا يجدون ما يفعلون، يزورون ويفترون على التاريخ النضالي للأمم ... ونختم في سياقات دلالات حكم الأضحية ومشروعيها التي ترمز في تطبيق فعلي إلى أهمية حسن العلاقة بين الانسان وخالقه وبين الانسان واخيه الانسان .. فقال رسول لله صلى لله عليه وسلم «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا» (مسند أحمد)... فالله نسأل أن يحفظ أمتنا من الذين قال فيهم سبحانه : « قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا «. ونسأله بمناسبة هذا العيد المبارك أن يفرج هم المهمومين وأن يخفف من آلام المستضعفين وأن يوسع على خلقه من فقراء هذه الأمة ... عن أبي بكر الصِّدِّيق، أنَّ رسول لله صَلَّى للَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « دَعَواتُ المكروبِ: اللهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو، فَلا تَكِلْنِي إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لي شَأني كُلَّهُ، لا إله إلا أنْتَ .»