تحاول العديد من الدول السائرة في طريق النمو في سباقها مع الزمن تعويض مراحل التخلف التاريخية بالقفز على الواقع قصد مجاراة ركب التطور أو ملاحقة الدول المتقدمة التي سبقتها في مدارج التمدن والحضارة , ضانة أنها بمجرد صياغة مشاريع إصلاحية أو إصدار قرارات إدارية أو رصد ميزانيات استثنائية و استعجاليه بإمكانها أن تجعل من الإصلاح التعليمي حقيقة فعالة , وتحقق الأهداف المسطرة, وتأتي بمعجزات التقدم والحداثة , لكنها تصدم حين تكتشف التأثير الباهت لأساليب الإصلاح, والنتائج غير المرضية , و كأنها تجري وراء السراب ولا تجني من إصلاحها غير خيبة أمل مؤسفة ,لأن النظام التعليمي ليس جهازا اليكترونيا يحقق بالضغط على أزراره إصلاح المفاسد وعلاج المساوئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية. سارع المغرب-هو الآخر- إلى وضع مشاريع إصلاحية منذ الاستقلال إلى الآن ولا يزال للأهمية القصوى لمنظومة التربية والتكوين في ترسيخ روح المواطنة وتأهيل الفرد لخوض تحديات العولمة والتنمية وبناء مجتمع المعرفة والاتصال, وكان مسلسل إصلاح المنظومة التربوية التعليمية عرف شكلين من الإصلاح. الشكل الأول كان إصلاحا تربويا تعليميا كميا تجسدت أهدافه داخل ما يسمى بالمبادئ الأربعة :- مغربة الأطر- تعريب التعليم – توحيد التعليم – تعميم التعليم, ورغم أن هذه المبادئ تركز في مسعاها على الجانب الكمي إلا أنه لم يتحقق منها الكثير لظروف سياسية واجتماعية مما تتطلب صياغة مشاريع إصلاحية أخرى عومت هذه المبادئ أو جمدتها وحورت فلسفتها الوطنية حتى تم إخراج الميثاق الوطني للتربية والتكوين . – الشكل الثاني كان شكلا تربويا تعليميا كيفيا تجلىت أهم معالمه في الميثاق الوطني للتربية والتكوين و الهادف إلى إعادة صياغة ادوار المدرسة وجعلها فضاء للتنمية البشرية والاندماج والتشارك و التواصل بين مختلف الفاعلين التربويين من جهة ومختلف مكونات المجتمع المدني من جهة أخرى , انطلاقا من مضامين هذا الميثاق الوطني للتربية والتكوين يتبين بشكل واضح أن فكرة البحث عن الجودة ظلت تسود جل دعاماته الأساسية من قبيل :-تعميم تربية جيدة على كل أفراد المجتمع المدرسي. -تحسين جودة التعليم. -تدعيم البحث التربوي لخدمة جودة التربية. و رغم النتائج الملموسة التي حققها هذا الميثاق وسط أعاصير و أمواج الانتقادات والارتدادات, وتحقيق بعض النجاحات المحدودة في هذا الورش الحيوي الصعب إلا أن غلبة الجانب الكمي وعدم الإقدام على ما يتطلبه الإصلاح العميق من قرارات سياسية جريئة تمس جوهر نظام التربية والتكوين جعل المهتمين بالشأن التربوي يتحفظون من هذا النظام التعليمي الذي ينتج البطالة والانغلاق ,كما انه لا تزال المدرسة المغربية تعاني من اختلالات مزمنة وقف عليها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في تقريره الذي أعدته لجنة الهيئة الوطنية للتقييم سنة 2014 حول (تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013: المكتسبات والمعيقات والتحديات ). ومن خلال تحليل الوثائق والمشاريع الإصلاحية التربوية تم وضع آليات و إجراءات أتاحت توسيع دائرة النقاش والحوار والاقتراح حول إصلاح منظومة التربية والتكوين وذالك على اعتبار أن إصلاح التعليم يعتبر هاجس الجميع بل انه قضية وطنية أساسية وبالتالي فان كل الأطراف والمكونات التربوية والمجتمعية على حد سواء تتحمل طرفا من المسؤولية وبناء عليه ثم أحداث هذا المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لوضع رؤية إستراتيجية للإصلاح , وإدراكا لما سبق فقد أطلق هذا المجلس مشاورات موسعة شملت الفاعلين في المدرسة و عددا من الأطراف المعنية والمستفيدة ,والشركاء فتأتى لها استصدار تلك الوثيقة التي تحمل الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015/2030 بعنوانها الكبير ( من اجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء) وتنتظم هذه الوثيقة التلخيصية في أربعة فصول و هي:1من اجل مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص.2: من اجل مدرسة الجودة للجميع. 3:من اجل مدرسة الارتقاء بالفرد والمجتمع.4:من اجل ريادة ناجعة وتدبير جديد للتغيير. هذه الفصول الأربعة تنتظم بداخلها ثلاث وعشرون رافعة وكل رافعة تخص تيمة من التيمات او موضوعة من الموضوعات . من قبيل التدابير و الإجراءات التالية: تجديد النموذج البيداغوجي والتكويني على أساس مقومات التنوع والانفتاح و الملائمة والابتكار . إعادة النظر في المناهج والبرامج والطرائق البيداغوجية في اتجاه التخفيف والتنويع ,مع التركيز على الاهتمام بالمتعلم باعتباره غاية الفعل التربوي. الإصلاح الشامل لنظم التقييم والامتحانات على نحو يكفل تكافؤ الفرص بين المتعلمين مع تحديد عتبة التعلمات اللازمة للانتقال إلى المستوى الأعلى بدل اعتماد منطق الخريطة المدرسية. مراجعة شاملة لنظام التوجيه التربوي والمهني والجامعي والاعتماد المبكر على التوجيه لمصاحبة المتعلم في بلورة مشروعه منذ السلك الابتدائي إلى غاية التعليم العالي. إعادة النظر في الإيقاعات الزمنية وتدبير الزمن الدراسي كالتخفيف من كثافة البرامج وملائمة الإيقاعات المدرسية مع محيط المدرسة. تعزيز إدماج المقاربة الحقوقية في صلب البرامج والمناهج. إعداد إستراتيجية وطنية لمواكبة المستجدات الرقمية وخاصة على مستوى البرامج والمناهج والتكوينات منذ المراحل الأولى من التعليم بإدماج البرمجيات الالكترونية في عمليات التدريس. لاشك أن هذه المقترحات وغيرها من الإجراءات الواردة في هذه الوثيقة التلخيصية التي اتخذت التجديد التربوي شعارا لها في سبيل إصلاح المنظومة التربوية تعبر عن الرغبة الملحة في إيجاد بديل , وتحمل في نفس الآن اعترافا بقصور هذا النظام التربوي القائم وعجزه عن مجاراة متطلبات التنمية والحياة المستقبلية. أن هذه الرغبة الجامحة في التغيير تعبر عن رد فعل مبتسر تعززه ضرورات الواقع الضاغط الذي يتأثر بشتى العوامل المتعارضة في مجا لات تطوير التعليم , لكن الفرق بين الفعل ورد الفعل في الإصلاح التربوي هو أن الفعل ينبع من رؤية مستقبلية وخطة محكمة , ويحمل معه الإرادة والقوة والتصميم على النجاح لبلوغ الأهداف المرسومة, أي أن الفعل يصبح حركة محكومة بإستراتيجية عمل موجهة أما رد الفعل فهو استجابة باهتة تحمل من السلبية أكثر ما تحمل من الايجابية وتتميع أمام الضغوط وغالبا ما تكون مجاراة دعائية لشعارات التجديد. أن الفعل في التجديد يعلو فوق الظروف ويستمسك بالعقلانية أما رد الفعل فتحده نوعية المثير ولا ينظر إلى الوراء. فهل الرؤية الإستراتيجية للإصلاح كما بناها و أخرجها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي جاءت كفعل أم رد فعل ضد الأوضاع المختلة لمنظومتنا التربوية ؟ على الرغم مما تعبر عنه هذه الإستراتيجية من رغبة في انتهاج مسلك عقلاني وإصلاح نظمه على أساس علمي إلا أن هناك ملاحظة يمكن تسجيلها حول المفهوم: إن غموض مفهوم الإستراتيجية لا يتأتى من حيث التعريف اللغوي لمصطلح الإستراتيجية ولكن من حيث الاستخدام الوظيفي لمفهوم الإستراتيجية في مجال التربية , فالبعض يأخذ الإستراتيجية على أنها مرادف لمصطلح (السياسة التعليمية ).وفي ظل هذا المفهوم تصبح الإستراتيجية منظومة مبادئ عامة مثل : تعميم التعليم – إلزامية التعليم – توسيع قاعدة التعليم – الإنصاف وتكافؤ الفرص – المساواة- الارتقاء بالفرد والمجتمع –الجودة للجميع- تجديد مهن التدريس –حكامة ناجعة لمنظومة التربية – تامين التعليم مدى الحياة – ربط التعليم بالعمل- …)وهذه مبادئ خاصة بالسياسات التعليمية , وهي مبادئ عموميات ولذالك فهي مشتركة بين الجميع وعالمية . وهناك من يأخذ مصطلح الإستراتيجية كمرادف لمنهجية التخطيط التربوي ولكن الوقوف عند هذا الحد هو قصور في إدراك وظيفة الإستراتيجية كخطوط سير تبدأ من واقع معين تحيط به ظروف سياسية موجهة وتوصل بما تحركه من خطط وبرامج وأساليب عمل إلى أهداف محددة وان الخطوط متنوعة ويمكن الإبدال بينها بحسب الظروف والإمكانيات بغرض الوصول بسرعة وفعالية واقتصاد إلى الغايات المنتظرة . إن الإستراتيجية هي علم اختراع البدائل ومعرفة استخدامها ,كما أنها مجموعة مبادئ و أفكار تساعد على تنظيم الوسائل والغايات المختلفة للوصول إلى هدف أو أهداف محددة. وبفهم آخر هي تنظيم ما يمكن أن تقوم به من أعمال وصولا إلى تحقيق ما ينبغي أن يكون. إذا كان رواد هذه الرؤية الإصلاحية قد شددوا على أهمية إرساء أركان الوثيقة (الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015/2030) في سبيل بناء مدرسة جديدة قوامها الإنصاف وتكافؤ الفرص مع الارتقاء بالفرد والمجتمع ووضعوا الرهان الأكبر في تمكين المدرسة من الاضطلاع الأمثل بمختلف وظائفها ولاسيما في التنشئة والتربية على القيم والتعليم والتعلم والتثقيف والبحث والابتكار .فإن نجاح الأهداف التربوية الكبرى في أي نظام تربوي تعليمي يستدعي جملة من الشروط السياسية والاجتماعية والعلمية والتقنية والبشرية القادرة على خلق وإبداع نهضة تربوية صالحة وفاعلة ومن بين هذه الشروط : 1 – توفر إرادة سياسية لإصلاح المنظومة التربوية , فالمغرب (الموقع على اتفاقيات ألغات في 15ابريل 1994 واتفاقية الشراكة الاورو-متوسطية في نونبر 1995 ببرشلونة قد التزم ببنودها وتوصياتها أي بالعمل على محو الأمية , وتحسين مرودية التعليم وانقاد الشباب من مخاطر اليأس , وهذا العمل لا تتأتى شروطه إلا بالإرادة السياسية والتخطيط العقلاني والرعاية الاجتماعية العادلة).بنسالم حميش- في الغمة المغربية –ص :99 انه لا نجاح لأي إصلاح تعليمي خارج إطار الإصلاح الشامل للمجتمع وللدولة , وهذا لا يحصل إلا عن طريق الإرادة السياسية للماسكين بالحكم , ومساهمة القوى الفاعلة في المجتمع لإقامة مشروع (المواطن الصالح)عن طريق آليات منظومة التربية والتكوين كقطار قطاعي يقود الأمة نحو التنمية والتقدم.وحتى يفرض الإصلاح ذاته(يجب أن يرسم مشروعا جماعيا طموحا يجد كل واحد ذاته فيه…)محمد بوبكري – مجلة عالم التربية العدد 12 ص – 295 انه من الصعب التكهن بنجاح أي إصلاح تعليمي خارج إطار الإصلاح السياسي والمجتمعي الشامل . – رسم فلسفة تربوية واضحة ملائمة للعصر وملائمة للمجتمع و الإنسان تستطيع التجاوب مع الواقع الآن والمستقبل غدا , وتستمد شرعيتها وهويتها من بيئتنا وحضارتنا وقيمنا, كما عليها أن تأخذ بالتغيير والتجديد وتحترم حقوق الفرد والجماعة.كما على هذه الفلسفة التربوية : الاتجاه نحو تعليم التكنولوجيا في جميع مراحل التعليم العام بحيث تختفي الحواجز بين التعليم التقني والتعليم العام . الاتجاه نحو ربط محتوى التعليم بالإنتاج والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بحيث يزود الفرد بالمعارف والمهارات والاتجاهات التي تمكنه من القيام بدور إنتاجي واجتماعي. الاتجاه نحو تكامل المناهج لا تنافرها لان المعرفة الإنسانية تتجه نحو التكامل قدر اتجاهها نحو التخصص فالعلوم الحديثة تجمع في طياتها تكاملا بين أكثر من علم واحد مثل السيبرناطيقا والهندسة الحيوية والفيزياء الحيوية …… 3- إجراء الدراسات المستقبلية قبل صياغة أي مشروع تربوي إصلاحي, والتي تهدف إلى وضع تصور علمي للمستقبل . 4- رسم خطط وبرامج واضحة –مدققة –مرقمة-مموزنة – قادرة على تعبئة كل الطاقات والفعاليات العاملة في فضاء المجتمع المدرسي وكل شركاء المؤسسة التربوية وهذا يتطلب استصدار تشريعات تربوية تساير الفلسفة الإستراتيجية الجديدة مع تحديد مصادر التمويل واليات التنفيذ. إن من الخطأ اصطناع إستراتيجية لمجرد الرغبة في وجود إستراتيجية جريا وراء المظاهر …إن الإستراتيجية تفرضها ضرورات التحول الاجتماعي و إلا فقدت سندها الشرعي . إن الحاجة في وضع الإستراتيجية شرط ضروري فالتعليم أو إصلاحه لا يستعار من خارج الحدود , وليس المجتمع ضد الانفتاح الثقافي أو التلاقح الحضاري, لكن يجب آن يحمل التعليم خصائص بيئته ومحليته فليس هناك من تعليم وطني إذا تجرد من هويته وجغرافيته وقيمه المحلية, كما أن الإستراتيجية لا تجري لتقطف ثمارها بسرعة وإنما تهيئ الأرض وتضع لبذور وتعالج كل الشوائب عبر مسار زمني طويل حتى ينمو الكائن والكيان .وهكذا ففي مجال التربية يمتد الإصلاح عبر أجيال متواصلة دون حد قريب لأنه طريق للنمو المعمر الذي لا يعجل بانجازه. أن الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم كما أخرجها فريق اعزيمان , لا يجب أن تتسرع النتائج و إلا فقدت صفتها كإستراتيجية مفهوما وتخطيطا وتنفيذا وتفقد خطوط وخيوط الإصلاح في انتظار خطة جديدة أو إستراتيجية جديدة ؟. *مدير ثانوية الدشيرة الجهادية