هناك حاجة ملحة تدعو الموقعين على هذه الوثيقة، إلى إصدارها وتوقيعها، هي حال التردّي التي بات النظام التعليمي في المغرب يعانيها، منذ مطالع الثمانينيات من القرن الماضي، وخاصة في السنوات العشرين الأخيرة. وهي حالٌ نبَّه عليها كثيرون، مبكّراً، حين لاحظوا الحصيلة الهزيلة للتعليم، والاضطراب الشديد الذي يَسِم سياساته، والأنفاق المسدودة التي تُساق إليها أجيال من المتعلمين، ويساق معهم الوطن إليها. ولقد أتت مناسبة الخطاب الملكي في مشكلات التعليم تضيف حافزاً جديداً للتفكير الجماعي، بصوت عال، في معضلة التعليم ببلادنا، وفي الإستراتيجيات المناسبة لإعادة تأهيل نظامه على النحو الذي يكفل له النجاعة والإنتاجية، ويعيد تصويب مساره ليجيب عن حاجة البلاد إلى حيازة المعرفة وتوطينها، وتزويد عملية التنمية بأسبابها العلمية. ولسنا في حاجة إلى بيان أهمية أن تجتمع ثلة من الأكاديميين، والمتخصصين، والمربين في قطاع التعليم ، وفي جملتهم وزراء سابقون، وخبراء، ومهتمون، وفاعلون نقابيون وجمعويون ، على رؤية تُسَطِّر مبادئ مؤسِسة وموجهة؛ كما لسنا في حاجة إلى القول إنها مساهمة مطلوبة اليوم قصد تدشين حوار وطني صادق، وعميق، في المسألة التعليمية والمنظومة التربوية في بلادنا، يستند إلى مرجعية «الميثاق الوطني للتربية والتكوين»، ويتخذ من المؤسسات التربوية-التعليمية التي أقرها الدستور إطاراً ومنطلقاً له (المجلس الأعلى للتربية والتكوين)، كما يتخذ المصلحة الوطنية العليا مرجعاً وهدفاً. إن النداء الذي يوجّهه هؤلاء الموقعون على هذه الوثيقة-الرؤية الرامية إلى إعادة بناء المنظومة التربوية والتعليمية في بلادنا لابدَّ له، ابتداء، من التشديد على جملة من المنطلقات والمبادئ لا محيد عن التزامها في أي عملية إعادة بناء، ومنها : أولاً : المنطلقات المؤطرة I- تعد التنمية العلمية والتكنولوجية، في عالم اليوم، جوهر التنمية الشاملة وقاطرتها، ولا سبيل إلى ولوج الأخيرة من دونها. والتنمية العلمية إنما تقوم على قائمين : التعليم والبحث العلمي، وهما استثماران اجتماعيان في رأسمال ثمين، أي الرأسمال البشري، الذي يعتبر الأساس في أي استثمار تنموي. وما أغنانا عن الحاجة إلى القول إن أهمية هذا الرأسمال البشري تَعْظُم في البلدان التي لا تملك من الثروات إلا الثروة البشرية، كما هو حال بلادنا. ولقد أدركت ذلك بلدان آسيوية وأمريكية جنوبية (اليابان، الصين، الهند، كوريا الجنوبية، تايوان، ماليزيا، البرازيل، الأرجنتين،...)، في سعيها نحو استدراك الفجوة الهائلة التنموية بينها والغرب، فأصابت برهانها ذاك نجاحات ملحوظة في حيازة موقع القوى الكبرى في مضمار التنمية. II- لا نهضة مجتمعية من دون نهضة ثقافية؛ فالثقافة والمعرفة رافعة للنهضة، ومِدْماك أساس من مداميكها، وكما ينهض التعليم والمدرسة الوطنية بدور تكوين الكفاءات التي تحتاج إليها التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ينهض بدور رديف هو نشر الثقافة والتربية عليها، ونشر قيم التنوير، وتنمية ملكات النقد والإبداع التي تحرر الشخصية، وتطلق طاقات الفرد، وهذه، جميعُها، مما يتغذى به المشروع الثقافي الوطني الذي انخرطت في بنائه أجيال من المثقفين الوطنيين والديمقراطيين المتشبعين بقيم الحداثة، والمتواصلين نقدياً مع تراثهم الثقافي... III- يقع على الدولة عبء النهوض بعملية التنمية العلمية، من طريق وضع استراتيجية شاملة للتعليم والبحث العلمي، وتنفيذها والإنفاق عليها من المالية العامة؛ فالتعليم، ابتداءً، حق من حقوق المواطنة لا يقبل التفويت. والدولة تضمن حقوق المواطنة وتحميها، وتحيطها بأسباب الوجود والاستقرار. ولم يكن عبثاً أن المغرب المستقل ? دولة وقوى وطنية ? تنبه إلى هذه الحقيقة، مبكراً، وهو يخطو خطواته الأولى في بناء الاستقلال الوطني، فكان أن صرف القسم الأكبر من اهتمامه إلى تأسيس مدرسة وطنية، والتدرج في نشرها في المدن والبوادي، وإحداث الجامعات والمدارس العليا المتخصصة، وسن سياسة المناظرات الوطنية حول التعليم بمشاركة الفاعلين والشركاء المختلفين في هذا القطاع، وتوفير الانفاق المالي المناسب للتعليم من ميزانية الدولة، الذي ما كان يوماً إرهاقاً للموارد، نظراً لعظيم فوائده وعائداته. وما يزال على الدولة اليوم، بل أكثر من أمس، أن تستأنف سيرتها الحميدة في رعاية التعليم، وإحاطته بالإنفاق المادي، وحماية الحق العمومي لأبناء الشعب فيه، سعياً في تحصيل النتائج المرجوة منه في نشر المعرفة، وتأهيل المواطنين، وتكوين الأطر والخبرات التي تحتاج إليها البلاد وعملية التنمية والنهوض فيها. IV- إذا كانت إكراهات الوضعية الاقتصادية، ومقتضيات التكيف مع منظومة الاقتصاد الدولي المُعولم، قد فرضت على الدولة المغربية مراجعة دورها الاقتصادي، والحد من وظائفها الرعائية في المجال الاجتماعي، بما ترتب عن ذلك من آثار سلبية على الأوضاع الاجتماعية للفئات الكادحة وذات الدخل المحدود، وهي الكثرة الكاثرة من الشعب ? فليس ينبغي للدولة أن ترفع يدها، كُلاً أو بعضاً، عن التربية والتعليم، ولا أن تتخلى عن مبدإ مجانيته الذي سنته منذ بدايات الاستقلال، وذلك ضمن إطار التوجهات التي أقرها "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، وبالخصوص ما يتعلق منها باحترام مبدأ "الزيادة المطردة سنوياً في ميزانية التربية والتكوين من جانب، والتزام مبدأي الحكامة الرشيدة و"الشفافية المطلقة" في كل أنماط الإنفاق التربوي من جانب ثان، وتفعيل التضامن الوطني، والتعاضد الاجتماعي من أجل تعبئة موارد إضافية لتمويل التعليم من جانب ثالث. وفي هذا الإطار، فإن دراسة إمكانية مساهمة القطاع الإنتاجي الخاص من جانب، والمجالس الترابية الجهوية من جانب ثان، والأسر الميسورة من جانب ثالث، في تمويل التعليم العالي والجامعي، أضحت تفرض نفسها لتعزيز مجهود الدولة في قطاع التربية والتكوين، ومن أجل تعبئة الموارد المالية الضرورية لتحسين جودة ومردودية التعليم العالي. وغني عن البيان أن رعاية الدولة للشأن التعليمي، وسهرها الدائب على ضمان المساواة وتكافؤ الفرص في التربية والتكوين بين أبناء الأسر من مختلف الطبقات الاجتماعية، وبالأخص الأسر التي لا حول ولا قوة لها، لتشكل دعامة أساسية للاستقرار الاجتماعي، والنهوض التنموي والتقدم المجتمعي. V- إن نظاماً تربوياً وتعليمياً منتجاً، ومستجيباً لحاجات التنمية، ومعبراً عن الشخصية الوطنية والحضارية، لا يمكن أن يكون إلا باللغة الوطنية، العربية؛ وهنا لا سبيل للمغرب إلا المحافظة على التعريب ومكتسباته، وتطويره، وتشذيبه مما لحقه من تعثر وتردد، وتعميمه في مجالات التعليم وأسلاكه كافة. ولكي يتم التعريب على أحسن حال، يتعين التأكيد على ضرورة انتهاج سياسة هادفة ومنهجية لتعريب المؤلفات الأساسية في جميع حقول المعارف الحديثة. على أن مواصلة التعريب وفق مرجعيته المقررة، لا يعني الانفصال عن اللغات الحديثة وإهمالها، بل ينبغي أن يقترن بتقوية هذه اللغات، وتمكين المتعلمين من اكتسابها، خاصة اللغات ذات المنفعة العمومية والانتشار العالمي (كالإنجليزية والإسبانية والفرنسية، وغيرها...). وتعلمنا تجارب النهضة والنهضة العلمية الحديثة (اليابان، الصين، كوريا، الهند، تركيا،...) أن الذين خاضوا تجربتها بنجاح، توسلوا في ذلك لغاتهم الوطنية بعد أن طوروها وأهلوها لاستيعاب مكتسبات المعارف الحديثة؛ إذ لا نهضة لأمة بغير لغتها. إن الموقعين على هذه الرؤية، إذ يشددون على وجوب أخذ هذه المنطلقات قاعدة مرجعية في أي عملية لإعادة تصحيح وبناء المنظومة التربوية والتعليمية في المغرب، يدركون ? على نحو حاد، أن السياسات التي حادت عنها وأعرضتْ، منذ ما ينيف عن ثلاثين عاماً، هي المسؤولة عن إدخال المنظومة التعليمية في المأزق الراهن. وهو ما يعني أن مراجعة عميقة للخيارات الخاطئة في مجال السياسة التعليمية المتبعة في الماضي لن تستقيم من دون الارتكاز إلى المنطلقات الوطنية التي أجمعت عليها القوى الحية في البلاد، ووضعتها أساساً متيناً لكل إقلاع نهضوي في ميادين التنمية الاجتماعية : والتعليم في قلبها. ليس من أهداف هذه الرؤية وضع مشروع تفصيلي لإصلاح المنظومة التعليمية في بلادنا وتطويرها، وإنما غايتها التنبيه إلى المبادئ الحاكمة لأي مشروع تعليمي وطني، والتنبيه على مواطن الخلل في تلك المنظومة، ومحاولة إنضاج مقدمات تأسيسية لحوار وطني في المسألة يشارك فيه ذوو الأهلية والاختصاص، ويكون منطلقه مراجعة حصيلة التجربة التعليمية التي أمست مصدر قلق وانشغال الرأي العام الوطني. ثانياً : المبادئ الحاكمة إن الموقعين على هذه الوثيقة-الرؤية يرون أن كل معالجة للنظام التربوي ينبغي أن تستند إلى مبادئ حاكمة، مهيكلة لكل سياسة تربوية-تعليمية رصينة : I- يروم المبدأ المحوري الذي يستند إليه أي نظام تربوي-تكويني، بناء مواطن متشبع بثوابت هويته، مدرك لشروط ومتطلبات ترقية وطنه، متسلح بالكفايات والمهارات الضرورية للانخراط في عملية التنمية الوطنية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية، قادر على الاندماج في مجتمع المعرفة، منفتح، بوعي ورصانة، على محيطه الإقليمي والدولي؛ ومتفاعل مع منظومة القيم الكونية السامية، الحاملة لمقومات الحداثة والتقدم، المتشبعة بقضايا الحرية والديمقراطية والعدالة... ? لهو مبدأ الترابط والتفاعل مع مقومات وقيم المشروع المجتمعي الذي يؤطر مسيرة البناء والتقدم بالبلاد... ومن هنا تكمن أهمية التساؤل المشروع : أي مدرسة لأي مجتمع ؟ إذ لا مدرسة فاعلة، منتجة بدون الاستناد إلى مشروع مجتمعي واضح المعالم، طموح الرؤية، واعد بمستقبل زاهر... وفي هذا المضمار، فإن الإطار المرجعي الذي يؤطر المشروع المجتمعي المغربي بأبعاده الهوياتية، والمؤسساتية، والحقوقية، والسياسية، والثقافية، والتنموية، إنما هو دستور البلاد الذي صادق عليه الشعب بوعي وإدراك، وانخرطت في صياغة مقتضياته مختلف القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بالبلاد، بروح التوافق الوطني... وبالتالي، فإن المرجعيات الجوهرية المؤطرة للمنظومة التربوية-التكوينية، ابتداء بالهوية الوطنية بأبعادها اللغوية والدينية والحضارية، وبمقوماتها الثقافية والقيمية، وانتهاء بإقرار الحق الراسخ في التربية والتكوين للمواطن، الذي تكفله الدولة، وتسهر على تعميمه، وتحقيق إلزاميته، ورعاية جودته، مروراً بالتأسيس الدستوري للسلطات التربوية، التنفيذية منها والاستشارية (المجلس الأعلى للتربية والتكوين، المجلس الوطني للثقافة واللغات،...)، قد وضع حداً فاصلاً بين مشروعية التوجهات الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية-التكوينية، ولا مشروعية التوجهات الفئوية التي تتخذ من شعار "الإصلاح" مطية للتعبير عن "أجندات" نخبوية مناقضة للمقتضيات الدستورية من جانب، ولمقتضى إجماع فرقاء المنظومة التربوية-التكوينية، كما عكسه "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" من جانب آخر. II- ومن جهة أخرى، فإن الانشغال العميق للرأي العام الوطني، إزاء واقع الاختلالات التي ما انفكت تطال المنظومة التربوية-التكوينية على الرغم من الإصلاحات المتعاقبة التي واكبت مسيرتها على مدى أزيد من نصف قرن، منذ أشغال "اللجنة الملكية" لإصلاح التعليم (1957)، إلى صدور "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" (1999)، مروراً بتبني "المخطط الاستعجالي" (2009-2012)، وأخيراً اعتماد "برنامج العمل متوسط المدى"(2013-2016) ? قد بات يطرح بحدة متناهية سؤال الحصيلة الإصلاحية للنظام التربوي الوطني. وفي هذا الصدد، فإننا نسجل بكل صراحة ومسؤولية، أن حصيلة الإصلاحات المتعاقبة هي حصيلة مخضرمة في المآلات، متفاوتة من حيث النتائج؛ فبمقدار ما تمخضت الإصلاحات المتعاقبة عن إنجازات كمية متواضعة، لكن لا يستهان بها، في مجالات العرض التربوي، والتراكم البحثي-النظري، بمقدار ما اتسمت بتهافتات مؤسفة في المجال الكيفي، سواء تعلق الأمر بالمقاربات البيداغوجية المتقلبة، أو بمستوى الجودة التربوية، أو بجانب التكوين والتكوين المستمر للموارد البشرية التربوية، أو بعنصر الحَكَامة والتخطيط المركزيين. ولامراء في أن مرجع هذا التفاوت المستقر ما بين مجهود الإصلاح، ومحدودية النتائج، لراجع إلى واقع المفارقة اللافتة ما بين مقررات الإصلاح النظرية، وواقع السياسات المطّبقة... وقد جرت الأمور ? على مدى عقود من محاولات الإصلاحات التربوية المتواترة ? وكأن هناك ازداوجية في نهج الإصلاح، تقوم على الإقرار بمقتضياته، دون التقيد بأجرأته وتنفيذه. لقد استقرت هذه المفارقة الصارخة ما بين التوجه الإصلاحي المقرر، وارتباك الفعل التطبيقي له في أعقاب أشغال غالبية المناظرات الوطنية التي نظمتها الدولة في سياقات إصلاحية تربوية متواترة، ابتداء من "مناظرة المعمورة" عام 1964، وانتهاء بمناظرة إيفران الثانية عام 1980، مروراً بمناظرة إيفران الأولى عام 1970. ولئن شكلت تجربة "اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين" (COSEF)، في نهاية التسعينيات من القرن الماضي استثناءً محموداً، أثمر اعتماد "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" توافقيّاً، الذي تم الشروع في تفعيله ابتداء من عام 2000، في سياق "عشرية التربية والتكوين" التي أعلنها صاحب الجلالة محمد السادس (2001-2010) ? فإن حصيلة التفعيل والأجرأة لم تستوعب كل المحاور والمقررات الإصلاحية التي تضمنها "الميثاق". ومن تم، فإن مبدأ التلازم والترابط ما بين مضامين الإصلاح التربوي ووسائل وآليات تنفيذه في الميدان التعليمي، ينبغي أن يشكل مبدأ حاكماً لسيرورة الإصلاحات التربوية المعتمدة. III- وعلى صعيد آخر، فإن مبادرة الإصلاحات الجزئية، ومتطلب المواءمات الظرفية التي تفرض نفسها في مجال تحسين مردودية النظام التربوي، والرفع من مستوى آدائه، ومنسوب جودته، لا ينبغي أن تكون معزولة، ولا متعاكسة مع الرؤية الكلية المعتمدة، والخيارات الإستراتجية المقررة. إن اندراج حركية الإصلاحات الجزئية التي تقتضيها متطلبات التفعيل الرشيد للمخطط التربوي-التكويني، في نسق الخيارات الإستراتيجية المعتمدة، ليشكل في نظرنا مبدأ حاكماً حيوياً. ينبغي أن يؤطر السياسة التربوية التي تدخل في نطاق الصلاحيات المخولة للسلطات التربوية بالبلاد. IV- وتشكل المقاربة التشاركية في مجال الإصلاح التربوي مبدأ حاكماً رابعاً، طالما أن الشأن التعليمي شأن مجتمعي بامتياز، يحكم حاضر المجتمع ومستقبله، ويتدخل بقوة في تشكيل ملمح المواطن المجتمعي بأبعاده النفسية، والذهنية، والمعرفية، والثقافية، ويكيف قدراته على الاندماج والتواصل والتفاعل، وينمي لديه الكفايات والمهارات التي تؤهله للانخراط بفعالية في عملية التنمية والإنشاء والبناء... وبالتالي، فإن تشارك الفاعلين التربويين، وانخراط الفرقاء الاجتماعيين في تحديد الخيارات التربوية الإستراتيجية والسهر على حسن تطبيقها، وإنضاج الإصلاحات الجزئية أو المرحلية، ليوفر بلا منازع شروط الصدقية والفعالية للإصلاح المنشود؛ ذلك أن تشخيص أوضاع المنظومة التربوية-التكوينية في مختلف جوانبها الكمية والكيفية، وصياغة الأجوبة المناسبة عن الإشكاليات القائمة، لا يستقيمان من الناحية الإجرائية بدون الانخراط المنظم والمسؤول لشركاء وفرقاء العملية التربوية-التكوينية في مختلف مراحلها. إن الانخراط الإرادي والمؤسسي للشركاء والفرقاء في كنف المنظومة التربوية-التكوينية، إلى جانب السلطات التربوية، التنفيذية والاستشارية، ليمثل المقاربة الأنجع والأمثل في إصلاح الشأن التربوي. إن الأمر يتعلق في هذا المضمار بضرورة تجاوز مفهوم "التوافق" الشكلي حول قضايا الإصلاح التربوي، والأخذ بناصية التعاقد المنتج، وصولاً إلى إعلاء مبدأ المصلحة العمومية الوطنية، وتحجيم ضغوطات المصالح الفئوية في التعامل مع الشأن التربوي-التكويني. ثالثاً : الاختلالات التربوية الصارخة وفي نطاق الالتزام الصارم بالمنطلقات المؤطرة، والتنزيل الحازم للمبادئ الحاكمة، في سياق إصلاح وترقية مقومات منظومتنا التربوية-التكوينية، فإن الموقعين على هذه الرؤية الوطنية للإصلاح، يحثون بكل قوة السلطات التربوية بالبلاد على العمل بإرادية وجدية على احتواء الاختلالات البنيوية التي باتت تشكل تحديات مقلقة، منتصبة في طريق تطوير منظومتنا التربوية-التكوينية وتحسينها. وتنتصب في صدارة هذه الاختلالات البنيوية، ظاهرة الهدر المدرسي، وواقع الفوارق الاجتماعية والجهوية في العرض التربوي، وحالة المحدودية في الجودة التربوية، وتذبذب الخيارات البيداعوجية. I- ففيما يتعلق بظاهرة الهدر المدرسي، فإن نظامنا التربوي ما انفك يعاني من نزيف بشري، سنوي في أعداد التلاميذ والطلاب؛ ففي كل سنة دراسية يلقى بنحو 350 ألف تلميذ(ة) وطالب(ة) خارج النظام التربوي. وتشير دراسات في هذا الباب، صادرة عن "المجلس الأعلى للتعليم" (2008) إلى أن نسبة الانقطاع عن الدراسة ما تزال في حدود %3 في التعليم الابتدائي، و12% في التعليم الثانوي الإعدادي، و18% في التعليم الثانوي التأهيلي. وتتجلى فداحة هذا الاختلال البنيوي في ظاهرة الهدر المرافق لأسلاك التعليم : فمن مجموع مائة طالب يلتحقون بالسنة الأولى ابتدائي، لا يصل إلى الباكالوريا منها سوى 13 طالباً. وهو ما يمثل نزيفاً بشرياً يتحمل نتائجه الآباء والأمهات على نحو مباشر، وضياعاً مالياً تتحمله ميزانية الدولة، وهدراً مجتمعياً يتحمله المجتمع في ذات حظوظ تنميته وتطوره. كما أن أزيد من 40% من طلاب الجامعة ينقطعون في نهاية السلك الأول من التعليم الجامعي. بل إن بعض الدراسات تُشير إلى أن الملتحقين بالجامعة من فئة العمرية 19-23 سنة لا يتجاوز نسبة 11%. ومن نافل القول، فإن مسؤولية هذا الهدر المستمر لا يمكن أن تلقى على مستوى القدرات الذهنية للتلميذ(ة) أو الطالب(ة)، بل تعود مسؤولية ذلك إلى معضلة الجودة التربوية في المدرسة، وإلى مشكلات التأطير اللغوي، ونوعية التوجيه الذي يخضع له الطلاب في الجامعة. كما تعود إلى الوضع الاقتصادي للأسر المعوزة، خاصة في العالم القروي، ومحدودية وعي هذه الأسر بأهمية التعليم. II- وفيما يتصل بمستوى الجودة، فإن المدرسة والجامعة المغربيتين لم تتمكنا من توفير تعليم وتكوين بمعايير الجودة، على صعيد المناهج والمضامين البيداغوجية وغيرها لأسباب ينبغي الوقوف عليها. ويجب التأكيد على أن مبدأ توفير الجودة لجميع مستويات نظام التعليم والتكوين، وفي جميع مناطق البلاد، مبدأ أساسي لا يمكن الحياد عنه بأي حال من الأحوال. إن الأمر يتعلق هنا، أساساً، "بالنقص في جودة التعلمات" بالمدرسة استناداً إلى مقياس التحصيل المدرسي، خاصة فيما يتعلق بالمواد التأسيسية (القراءة/الرياضيات/العلوم) من جهة، وفي النقص في تأهيل طرائق التدريس، وفي محدودية وقصور التقويمين الداخلي والخارجي لجميع مكونات المنظومة التربوية في مختلف مراحلها من جهة أخرى. وتسجل بعض الدراسات أن قياس التحصيل الدراسي قد سجل تراجعاً في نسبته خلال "عشرية التربية والتكوين"، إذ لم تتجاوز هذه النسبة 21% في السنة الرابعة من التعليم الابتدائي. وحسب مؤشر الدراسات الدولية الهادفة إلى تقويم التحصيل الدراسي (تيمس/يبرلز)، فإن المغرب يتذيل الترتيب الدولي في هذه الدراسات. ولئن كان تواضع جودة التعلمات لدى التلاميذ في سن الخامسة عشرة، يمثل معضلة تربوية مقلقة في العديد من الأنظمة التربوية في العالم، بما فيها الأنظمة التربوية لدول "منظمة التعاون والتنمية (OCDE)"- حسب نتائج البحث التشخيصي ل "البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلاميذ (PISA)"، لسنة 2013 ? فإن اطراد استفحال الظاهرة في منظومتنا التعليمية، سنة بعد أخرى، في سياق تفاقم الفوارق الاجتماعية والمجالية، ليدعو بكل إلحاح واستعجال إلى انكباب الفاعلين التربويين على دراسة الوسائل والمقاربات الناجعة لاحتواء الظاهرة، بما يمكن من تحقيق فعلي لمبدأ تكافؤ الفرص في نظامنا التربوي... III- اختلال التماسك والتناسق بين الأسلاك التربوية-التكويني : إن غياب رؤية شاملة، ومخطط إستراتيجي متكامل، من شأنهما توجيه وتأطير المنظومة التربوية-التكوينية بمختلف أسلاكها وقطاعاتها، قد ترتب عنه هشاشة متفاقمة في التماسك والتناسق ما بين الأسلاك التربوية-التكوينية : التعليم الأولي، والابتدائي، والثانوي، والعالي، وذلك على مستوى التنشئة الاجتماعية للطفل-المواطن (التعليم الأولي)، وتكوين الكفاءات الضرورية لمواجهة متطلبات المجتمع (الابتدائي)، وتوفير المعرفة وكفايات التكوين (الثانوي)، وتأهيل الاندماج في التنمية عموماً، وفي سوق الشغل خصوصاً. وإذا ما تأملنا المعطيات الكمية والكيفية المحددة لواقع اندماج الأطفال والتلاميذ والطلاب في المنظومة التربوية-التكوينية، فإننا ندرك مدى حدة الاختلال الكمي (نسب الاندماج العددي) وهشاشة التماسك الكيفي (اختلالات التناسق البيداغوجي والمعرفي...). IV- اختلال الترابط بين التعليم والتكوين، والمحيط الاقتصادي : لئن أقر "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، في سياق "الدعامة الثالثة"، ضرورة تحقيق "تلاؤم أكبر" بين النظام التربوي والمحيط الاقتصادي، وجعل من منظومة "التكوين المهني" خياراً تكوينياً، ابتداء من نهاية التعليم الثانوي الإعدادي، يتجاوب ومتطلبات سوق الشغل، فيما يتعلق بنوعية التكوين المهني، ومدته وتخصصاته ومسالكه ? فإن حصيلة هذه المواءمة بين التكوين والتعليم وسوق الشغل تظل هزيلة، سواء على مستوى عرض التكوين المهني، إذ لا تتجاوز أعداد تلاميذه نسبة ضعيفة من كتلة تلاميذ التعليم العام، أو على مستوى التكوينات المهنية المناسبة لسوق الشغل. وآية ذلك أن الأوراش الصناعية الكبرى التي فتحها المغرب ما انفكت تعاني من نقص في الأطر المهنية الملائمة. وينبغي أن نشير هنا إلى أن المواءمة المطلوبة ما بين منظومة التربية والتكوين من جانب، والمحيط الاقتصادي بالبلاد من جانب آخر، إنما هي مسؤولية مشتركة ما بين النظام الإنتاجي والنظام التعليمي. ويشدد موقعو هذه الرؤية على وجوب عدم إفقار النظام الإنتاجي الوطني من الكفاءات المؤهلة والمكونة في إطار النظام التعليمي. كما يشددون على ضرورة مواكبة المؤسسات الإنتاجية الوطنية لبرامج التكوين المهني والتكنولوجي، مثلما يشددون على ضرورة مساهمة المؤسسات الإنتاجية في تمكين الأطر العاملة بها من فرص التكوين والتكوين المستمر لتنمية الكفاءة والأهلية. ومن جانب آخر، فإن تعزيز قدرة منظومة التربية والتكوين على الاستجابة للسياسات التنموية العامة، ولطلبات المحيط الاقتصادي، بات يفرض نفسه بإلحاح للحد من بطالة المتخرجين من أسلاك التعليم. وفي هذا المضمار، فإن التشديد على أهمية تنمية البحث العلمي، سواء على مستوى الجامعات ومؤسسات التعليم العالي أو على مستوى المؤسسات الإنتاجية الوطنية، في إطار التفاعل والتقاطع بين برامج الطرفين، إنما يمثل رهاناً حيوياً في سياق تجسير الفجوة بين التعليم والتكوين، والمحيط الاقتصادي. V- إن استمرارية الفوارق المجالية والجنسية في معدلات التمدرس، على الرغم من الجهود المبدولة في مجال تعميم التعليم، ليشكل اختلالاً فادحاً يحد من تكافؤ فرص التعليم، ويعوق جهود دمقرطته. ذلك أن فوارق معدلات التمدرس ما بين المجال الحضري والمجال القروي من جهة، وما بين الذكور والإناث من جهة أخرى، ما تزال قائمة، بل إنها تزداد حدة في ظل نسب الانقطاع عن الدراسة في المجال القروي خاصة. إن المغرب الذي تحدوه إرادة سياسية معلنة، موصولة بجهود حثيثة في سبيل تحقيق الإنصاف والمساواة بين الجنسين في كافة الميادين، وخاصة في ميدان التربية والتعليم، في إطار مقاربة النوع التي أمست مستدمجة في مسارات التنمية ? ما يزال على مسافة من إلغاء الفوارق ما بين الجنسين في مجال التمدرس، وخاصة في المجال القروي. رابعاً : الإصلاحات الحيوية الحاسمة إن استمرارية وتعددية الاختلالات البنيوية، والبيداغوجية والتنظيمية، التي أومأنا إلى بعض منها، والتباس المنطلقات المؤطرة وارتباك المبادئ الحاكمة للمنظومة التعليمية، إنما يعيد طرح السؤال المحوري : ما العمل من أجل إرساء نظام تربوي-تكويني مطابق للمعايير العالمية للجودة وقادر على احتواء تحديات الحاضر، والاستجابة لرهانات المستقبل ؟ I- إن إعادة الثقة بالمدرسة العمومية، باعتبارها حجر الزاوية في كل نظام تعليمي وطني سليم، يترجم في أرض الواقع التزام الدولة بضمان حق المواطن في التربية والتعليم، كما كفله الدستور، وكما رسخته التقاليد الثقافية لبلادنا ? ينبغي أن تكون في طليعة الأهداف الأساسية للنهوض بالمنظومة التربوية. وغني عن البيان، إن الإقدام على عملية إصلاح شامل للمدرسة العمومية، بأبعادها التربوية، والبيداغوجية، والتنظيمية، والبيئية، والمجتمعية، وخاصة في مجالات الرفع من مستوى مهنة التدريس، عبر التكوين والتكوين المستمر، وتحسين الكفايات المهنية للفاعلين التربويين، وتكريس الملاءمة المستمرة للمناهج والبرامج، وإعادة هيكلة هيأة التفتيش... ? إنما يشكل الأرضية الصلبة التي ينبغي أن تستند إليها مختلف جوانب الإصلاح التربوي. وفي هذا المضمار، فإن تحديد الرؤية الإستراتيجية المؤطرة لسياسات الإصلاح والتقويم? المستندة بدورها إلى مبادئ التراكم المعرفي، والاستمرارية الإصلاحية لمختلف مفاصل المنظومة التربوية-التكوينية ? بما يضمن تعزيز التناسق والانسجام بين مكونات النظام التعليمي، ويوفر شروط التماسك البنيوي والمعرفي والبيداغوجي بين مختلف أسلاكه التعليمية (أولي/إعدادي/تأهيلي/جامعي...) من جانب، وأنماطها التكوينية (التكوين العام/التكوين المهني) من جانب آخر، ينبغي أن يشكل المنطلق لمراجعة شاملة للمنظومة، والإطار المرجعي للتقويمات الظرفية. ويتعين التنبيه في هذا الصدد إلى أن من مصادر الأزمة المتفاقمة لنظامنا التعليمي أنه أضحى حقلاً للتجارب المتهافتة، وموضوعاً ل "التقويمات" المتقلبة، في غياب رؤية ناظمة، وإستراتيجية حاكمة للإصلاحات القطاعية والتقويمات الظرفية، وفي تجاهل تام للتراكم المتحقق والمكتسبات التاريخية التي ينبغي البناء عليها. ولقد ترتب عن هذه المفارقة الصارخة ما بين التقويمات التجزيئية للمنظومة، والتباس النظرة الكلية لها، على مدى أزيد من ثلاثة عقود (1980-2013)، هدر الكثير من الموارد المالية التي تتحمل عبئها ميزانية الدولة، وضياع الكثير من الموارد البشرية التي تعاني من تبعاته الأسر والفئات المجتمعية المعوزة. ويطالب الموقعون على هذا البيان النخب المغربية كافة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بالمساهمة في تعزيز مكانة المدرسة الوطنية العمومية، وإعادة الثقة بها. II- ومن جهة أخرى، فإن اعتماد مقاربة تشاركية حقيقية في مباشرة الإصلاح، تنتظم شركاء المنظومة التربوية كافة : من مدرسين، وتربويين، وآباء وأمهات، وإدارات مركزية وجهوية وإقليمية، وهيئات استشارية دستورية، إلى جانب الفرقاء، من نقابات تعليمية، وجمعيات تربوية، وهيئات تمثيلية، جماعية وبرلمانية، وفعاليات اقتصادية وإنتاجية، في سياق حوار وطني، مهيكل ومنظم، جغرافياً وموضوعاتياً ? ليشرط بكل تأكيد جودة الخلاصات، ونجاعة المقترحات التي تؤسس لإجماع وطني حول المنطلقات المؤطرة، والمبادئ الحاكمة، والتوجهات الرائدة في سياق إصلاح المنظومة التعليمية وترشيدها. وما هو جدير بالإشارة إليه في هذا المضمار، أن المقاربة التشاركية الناجعة لا تكون كذلك، حقاً وحقيقة، إلا إذا اعتمدت منهجية القرب، قطاعياً وجغرافياً، وتجاوزت إطار المنتديات "الوطنية" الفضفاضة التي تؤثثها الخطابات العامة، ولا تسكنها المقترحات الدقيقة الجادة والمقاربات الناجعة الهادفة... III- وفي سياق هذا التوجه الوطني ذي البعد الإستراتيجي، تطرح إشكالية تدبير التعدد اللغوي في نظامنا التربوي-التكويني، وهي الإشكالية التي أمست مثار جدل عقيم، تقبع خلفه "أجندات" فكرية وثقافية متضاربة، ولكنها متقاطعة في خانة أدلجة وتسييس مسألة تربوية بالغة الحيوية والحساسية، طالما أنها ترتبط بصميم الشخصية المغربية، في بعدها الهوياتي المتنوع والحضاري، من جانب، وتتصل بمرجعية لغوية وثقافية حسمها دستور البلاد، بعد أن بتّ فيها "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، من جانب ثان، كما تتصل من جانب ثالث، بمقومات ومتطلبات انفتاح بلادنا على عوالم التقدم والتحضر، غرباً وشرقاً، وكسب رهانات الحداثة، والانخراط في مجتمع المعرفة... ولا مراء في أن نظاماً تربوياً ناجزاً، يتمتع بالموثوقية والصدقية والفعالية، لا يمكن أن يكون ? كما هو الحال في بلدان العالم المتحضر ? إلا نظاماً وطنياً متشبعاً بثقافة وحضارة أمته، محمولاً باللغة الناظمة، الجامعة لمكوّنات شعبه، منفتحاً على لغات وثقافات الأمم الرائدة في مجالات العلم والتكنولوجيا والحضارة والتقدم... ومن تم فإن الرهان الحقيقي لخيار التعدد اللغوي ببلادنا يتجلى في ضرورة تطوير وتحديث مناهج التحكم في لغة التدريس، أي اللغة العربية الرسمية، بما هو جزء لا يتجزأ من هدف رفع المستوى التحصيلي المدرسي. وينبغي التأكيد هنا على ضرورة العمل على تعزيز تيسير قواعد النحو والصرف في اللغة العربية، وتكثيف التواصل والتعاون مع المجامع اللغوية العربية، لاستدماج ما تسفر عنه بحوثها في مجال التبسيط اللغوي، والتسهيل الحرفي.، كما يبنغي حث السير على طريق تأهيل اللغة الأمازيغية وترقيتها، من حيث تقعيدها، وضبط معيارها، لترتقي إلى المكانة اللغوية التي أرادها لها دستور البلاد باعتبارها تراثاً لكافة المغاربة، من جهة، ودعم انفتاح نظامنا التربوي على اللغات الأجنبية الأوسع انتشاراً، جغرافياً، والأكثر استعمالاً، علمياً، وتمكين أجيال المتعلمين من تحصيلها من جهة ثانية. إن تنشيط دينامية التفاعل، والتكامل بين مكونات الهوية الوطنية، بما يسهم في إعادة الاعتبار إلى الهويات الجهوية من جانب، وتعزيز التفاعل والتلاقح مع أقطاب الثقافة العالمية من جانب ثان، إنما يجسدان رهاناً حيوياً لمستقبل التنوع اللغوي في منظومتنا التربوية-التكوينية. ومن جهة أخرى، فإن العمل على مطابقة السياسة اللغوية الوطنية في المدرسة وفي مختلف الفضاءات العمومية، التواصلية والإشهارية وغيرها، مع المقتضى الدستوري في الشأن اللغوي الوطني، إنما يشكل رافعة قوية للنهوض بالخيارات اللغوية الوطنية المعتمدة... وفي هذا الإطار، فإن إخراج "أكاديمية محمد السادس للغة العربية"، وإرساء "المجلس الأعلى للثقافات واللغات" ليمثلان مدخلاً أساسياً ومؤسساتياً لوضع الملف اللغوي بين أيدي ذوي الاختصاص والكفاءة، من لغويين ومثقفين وتربويين وسوسيولوجيين وغيرهم... وعلى صعيد متصل، فإن تعزيز كيان "المدرسة الوطنية"، التي تشكل دعامة أساسية في بنيان الكيان الوطني، يقتضي أن يخضع التعليم الخصوصي المغربي إلى المناهج والبرامج المعمول بها في المدرسة الوطنية، كما يقتضي أن يتقيد تعليم البعثات الأجنبية بالمغرب، بتلقين تلامذتها وطلابها تاريخ البلاد وجغرافيتها وتقاليدها وأمجادها الزاخرة... IV- وفضلاً عن ضرورة الرؤية الكلية الحاكمة، واعتماد المقاربة التشاركية الناجعة في صياغة إطار إستراتيجي متجدد، فإن ضمان الحكامة العامة الجيدة للمنظومة التربوية، مع الاستمرارية في البناء والتجديد الخلاق عند تعاقب المسؤولين الحكوميين على القطاع، والعمل وفق مبدإ التراكم وترصيد المكتسبات - أمسى يفرض نفسه. ويقتضي ذلك العمل على إرساء استقلالية تدبير المؤسسات واحترامها، وتطوير نظام اللاتمركز، في أفق إرساء الجهوية المتقدمة، وتوسيع استعمال أنظمة المعلوميات، والعمل على تحديد المسؤوليات، واعتماد معايير المساءلة والمحاسبة والتقويم في تدبيرها، والأخذ بمنهجية المقاربة التشاركية، محلياً وجهوياً، في تخطيط وتدبير وتقويم شؤون المدرسة، ومعالجة المشكلات الطارئة ميدانياً ومحلياً، وتطوير القدرات التدبيرية على الصعيد المركزي، كما على الصعيد الجهوي والإقليمي، والمحلي، عبر التكوين والتكوين المستمر. ولا يفوتنا في هذا المضمار التنويه بالإنجازات التي تحققت على مستوى الجامعة، لجهة استفادتها من نوع من الاستقلالية، وذلك على الرغم من محدودية إطارها، وتواضع الإمكانات الإضافية المخولة لها. وبعبارة أوجز، فإن الحكامة الجيدة لا يمكن اختزالها في مجرد اعتماد اللاتمركز (الأكاديميات/الجامعات)، تخفيفاً لأعباء الإدارة المركزية، بل لابد من إرساء حكامة ناجعة على كافة المستويات : التشريعية، والتنظيمية، والتدبيرية، والتشاركية، والمجالية، والمسطرية...، بما يضمن تدبيراً أفضل وأنجع لمكونات النظام التعليمي. V- واستناداً إلى دروس الماضي، فيما يتعلق بمحدودية التطبيق الفعلي للإجراءات الإصلاحية المقررة، فإن تأطير السياسة التعليمية المقررة ب "قانون إطار"، يغطي مداها الزمني المقرر، بما يمكن من الالتزام الصارم، والتطبيق الحازم للتوجهات التربوية-التكوينية المقررة أصبح يفرض نفسه. واعتباراً للأولوية التي يحظى بها إصلاح الاختلالات الفادحة التي باتت تنخر كيان المنظومة التربوية، فإن "قانون الإطار" المقترح لتأطير السياسة التعليمية، ينبغي أن يقنن إنجاز الأولويات التالية : أولاً: معالجة معدلات المردودية الداخلية للمنظومة التعليمية، وخاصة فيما يتعلق بضمان : * احترام مقتضيات قانون إلزامية التعليم؛ * تأمين وصول أعلى نسبة ممكنة من الممدرسين إلى مستوى الباكالوريا؛ * تمكين أعلى نسبة من طلبة السنة الأولى الجامعية إلى مستوى الإجازة، وذلك وفقاً للمعايير الدولية الجاري بها العمل في البلدان الناهضة.. ثانياً: إقرار مخطط تربوي لاحتواء فوارق نسب التمدرس بين الوسط الحضري والوسط القروي وبين الجنسين، الذكور والإناث، في أفق زمني معقول من جهة، ويروم إنشاء "سلك للإنقاذ" بالنسبة للمنقطعين عن الدراسة، عبر إعادة هيكلة برامج "محاربة الأمية"، وبرامج "التربية غير النظامية"، وبرامج للتكوين الحرفي والمهني من جهة أخرى. ثالثاً: إقرار خطة وطنية إرادية للنهوض بالتعليم الأولي، تضع حداً لظاهرة التراجع والنكوص التي يعرفها هذا القطاع منذ سنوات، مما ترتب عنه تناقص في أعداد مؤسساته وحجراته، وتعداد الأطفال الملتحقين به ? وذلك بالعمل الحثيث على تنمية العرض العمومي، وتعبئة الوسائل التربوية والبشرية والمالية لإنجاز تعميمه في أقرب الآجال الممكنة... وما تجدر الإشارة إليه أن توفير العرض التربوي في التعليم الأولي، بما يضمن لجميع الأطفال، المتراوحة أعمارهم بين أربع وخمس سنوات، فرص ولوجه، والترقي في سلكه، بمعايير معقولة من الجودة والمردودية ? إنما يشكل ركيزة تربوية أساسية، تدعم الارتقاء بالتعليم الابتدائي وتحسين مردوديته. ففي هذه المرحلة "الحرجة" من نمو الطفل (4-5 سنوات) تنمو قدراته العقلية بشكل قوي، وتتبلور مؤهلاته بكيفية سريعة.. رابعاً: إقرار العمل بمنهاج تربوي-بيداغوجي متناسق، متكامل ومندمج ومنفتح على الإبداع والابتكار، يؤطر مختلف المسارات البيداغوجية، وينتظم مختلف الأسلاك التعليمية، بما يمكن من تحديد الكفايات والمعارف المستندة إلى خيارات وتوجهات المشروع المجتمعي، ويكيف البرامج والكتب المدرسية والوسائل الديداكتيكية المعتمدة، وبالتالي يمكن المدرسة والجامعة من صياغة "ملمح المواطن" القادر على كسب رهانات القرن الواحد والعشرين، المعرفية والتكنولوجية، والثقافية...، الجدير بتمثل القيم الإنسانية والدينية النبيلة، قيم الاعتدال والتسامح والتضامن... خامساً: إقرار مخطط لتوحيد نظام التعليم العالي وإعادة هيكلة المنظومة الجامعية ومنظومة التعليم العالي، بما يسمح بإقامة "أقطاب" جامعية، فاعلة ومنتجة، تمكن من احتواء واقع "التشتت" الجامعي، وترشيد البحث العلمي، وتطوير التخصصات العلمية، وتعزيز الشراكات والاتفاقيات مع الفاعلين العموميين والخصوصيين، الوطنيين والعالميين، واكتساب خبرات ومؤهلات متجدّدة، وتحقيق التفاعل مع الجامعات وتكاملها، ومراكز البحث بالخارج... إن مبادرة موقعي هذه الرؤية الوطنية لتأتي تعبيراً صادقاً عن غيرة وطنية، وترجمة أمينة لعمق الشعور بواجب المواطنة ومسؤولياتها الحقة، في المساهمة في تقويم المنظومة التربوية-التكوينية ببلادنا، بما يمكنها من تحقيق فعلي لتكافؤ فرص التمدرس، ودمقرطة التعليم، والرفع من مردوديته الداخلية والخارجية، بلوغاً إلى تحقيق أهداف "التربية للجميع"، و"أهداف الألفية من أجل التنمية"، وتعزيز جهود بلادنا في مجال تحقيق التنمية البشرية، كما تندرج هذه المبادرة في سياق ما تضمنه الخطاب الملكي ل 20 غشت 2013 من تحذير بالغ الدلالة، ودعوة صريحة إلى إجراء وقفة موضوعية مع الذات لتقييم المنجزات، وتقويم مكامن الضعف والاختلالات. إن موقعي هذا البيان وهم يعون حق الوعي الترابط الوثيق بين مستلزمات إصلاح منظومة التربية والتكوين والإصلاح الشمولي للدولة والمجتمع، فإنهم يؤكدون على اعتبار الإصلاح التربوي أولوية وطنية بعد قضية استكمال وحدة التراب الوطني، ويدعون إلى التعبئة الوطنية الشاملة من أجل تجديد الثقة في المدرسة والجامعة المغربيتين، باعتبارهما قاطرتي التنمية الشاملة. كما يعلن الموقعون على هذا البيان التزامهم بما ورد فيه من مواقف وما تضمنه من مقتضيات، لجهة دعم التعليم العمومي، واستعادة الثقة به، والرهان عليه، أداة حاملة للأهداف التربوية والعلمية المنصوص عليها، والدفاع عن المدرسة العمومية مما يتهددها من أخطار. الرباط في 19 دجنبر 2013 مائة موقع