بعد مرور حوالي 3 سنوات على إعلان الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 لإصلاح منظومة التربية والتكوين ، التي كان شعارها وخريطة أهدافها:»من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والإرتقاء»،يمكن لنا أن نقوم بتقييم أولي/استباقي،كنوع من إثارة الانتباه، لمدى نجاعة تنزيل هذه الرؤية على مستوى المشروع المجنمعي و القرار التربوي والتدبيري،وتوفير الموارد المالية والبشرية واللوجستيكية والبنيات التحتية والخدماتية،وعلى مستوى المنهاج التربوي،مركزين على التعليم المدرسي بأسلاكه الثلاث. غموض المشروع المجتمعي والقرار التربوي وارتباك التدبير الإداري: أصبح من باب التكرار في الأدبيات التربوية القول ان أي مشروع تربوي تعليمي يرتبط عضويا من حيث المبادئ والاختيارات والاستراتيجيات بمشروع الإنسان والمجتمع الذي تريد الدولة ،كممثل أسمى وديمقراطي للشعب/الامة ،تحقيقه في أبعاده المعرفية والقيمية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية…فهل نمتلك كدولة مشروعا مجنمعيا واضحا ودقيقا ومتوافق عليه ديمقراطيا ومجتمعيا؟أظن ان المشروع الوحيد بالمواصفات السابقة الذي قد نستنبط منه مشروعا للإنسان والمجتمع المغربيين إلى حد ما هو دستور 2011،وقد كان مصيبا المجلس الاعلى للتربية والتكوين…حين اخذ بدستور 2011 كأحد مراجعه الأساسية لصياغة الرؤية الاستراتيجة.لكن الملاحظ ان المشروع التربوي المقترح يغلب عليه ما هو إيديولوجي وتدبيري أمني على حساب ما هو معرفي علمي واقتصادي،وأنه مشروع منعزل عن باقي السياسات القطاعية لمؤسسات الدولة:غياب المقاربة الشمولية للدولة لتحقيق مشروع الإنسان و المجتمع المأمولين في الدستورالجديد،بعبارة معروفة:غياب السياسات المجتمعية الإلتقائية الموحدة حول هدف استراتيجي واحد؛وهذا من بين مايفسر لغز فشل السياسات الاصلاحية للتعليم،وسيكون مآل إصلاح الرؤية الاستراتيجة غالبا،فلايمكن إصلاح المدرسة من داخل المدرسة فقط،بل يجب إصلاح المدرسة ومحيطها السوسيوثقافي والاقنصادي والسياسي والقيمي المختل والمأزوم أيضا وبمقاربات إصلاحية متزامنة وموازية.هذا ما لا نمسه بعد. هناك خلل وغموض أصبحا واضحين للعيان يتعلقا بمشكلة سلطة القرار التربوي الصانع والمتحكم في السياسات والاختيارات التربوية: من يملك سلطة القرار التربوي بالمغرب؟المجلس الأعلى للتربية والتكوين أم المؤسسات التمثيلية(البرلمان)؟أم التنفيذية(الحكومة) أم المؤسسة الملكية؟ نلاحظ أن كل وزير جديد مع أي حكومة جديدة يريد فرض مقاربته ورؤيته، وحتى مع وجود رؤية استراتيجية لا حظنا ذلك مع الوزير بلمختار،ونلاحظه كذلك مع وزير القطاع حاليا حصاد؛رغم ادعاء الحكومة السالفة والحالية انها تعمل على تنزيل الرؤية الاسترتيجية،لكنه تنزيل تجزيئي وانتقائي،وليس شموليا ومؤطرا؛فما معنى القيام ببعض الاصلاحات اللغوية والبيداغوجية في بعض المستويات وفي بعض الأسلاك دون تعميمها؟كما أن أكبردليل على غموض القرار التربوي هو رغم مرور حوالي 3 سنوات على الرؤية الاستراتيجية،لم يتم تنزيل القانون الإطار لتنزيل هذه الرؤية،الذي سيكون إلزاميا لأي حكومة جديدة،وواقيا من سياسة الممسحة التي يمارسها كل حكومة جديدة و وزيرجديد على إصلاحات وتدابير الحكومة و الوزير السابقين. على مستوى التدبير الإداري للقطاع وللإصلاح مركزيا،نلاحظ استمرار نفس هيكلة وأطر الوزارة التي كانت مسؤولة على فشل اصلاحات الميثاق والبرنامج الاستعجالي،منطقيا وتدبيريا يجب تغيير الهيكلة الوظيفية واطر القيادة القديمين،بهيكلة وظيفية ناجعة وموافقة للاصلاح الجديد،واختيار أطر جديدة لقيادة الإصلاح على أساس الكفاءة المعرفية والتربوية والتجربة الميدانية،والقطع مع وزراء تقنوقراط البوليتكنيك،الذين سيكونون ناجحين وفعالين في ميدان تخصصهم،و كل أشكال الريع والزبونية التي تحكمت لعقود في احتلال مسؤوليات القيادة لما تذره من ريع مالي ونفوذ موقعي.تقريبا نفس الأمر يمكن تعميمه على المصالح الخارجية للوزارة.نلاحظ عامة ارتباكا تدبيرياواضحا في تنزيل الرؤية،بل حتى في مجرد تدبيرناجع لمبادرة مليون محفظة! طموح الرؤية ومحدودية الموارد: المعروف أن لكل إصلاح تكلفته المالية،وإن أردت ان تعرف جدية أي سياسة إصلاحية فانظر إلى الموارد المالية والبشرية والمادية واللوجستيكية التي يخصص لها. فمثلا،من ناحية الميزانية السنوية التي تخصص لقطاع التعليم،نلاحظ عامة أنها بدأت بالتقلص والانخفاض: تقلصت بنسبة 0.7% سنة2015 سنة انطلاق مشروع الرؤية الاستراتيجية،وب1.22% سنة 2016،وب2.42%سنة 2017،حيث تراوحت ميزانيات التعليم على التوالي مابين حاولي 46 و45 و44 مليار درهم،في حين مثلا كانت ميزانية التعليم سنة 2011 حوالي61.7 مليار درهم،رغم الازدياد التصاعدي الكبير لعدد التلاميذ في الثلاث السنوات الأخيرة مقارنة بسابقاتها.لذلك فإن أكبر خلل سيواجه تنزيل الرؤية هو مشكل التمويل أمام التزايد الكبير لعدد التلاميذ وللحاجيات الملحة للموارد البشرية والبنيات والتجهيزات والخدمات المدرسية الملائمة للإصلاح والكافية لتغطية الحاجيات والخدمات التربوية. نظرا لسياسة التقشف المالي الممارسة على القطاع،عكس طموح شعارات وأهداف الرؤية الاستراتيجية،فإننا نلاحظ التقليص المستمر للمناصب المالية وتوظيف الأطر التربوية الكافية لتغطية القطاع تدريسا وإدارة،حيث يقدر الخصاص في المدرسين وحدهم حسب بعض الأرقام المتداولة سابقا في أكثر من 30000،ورغم تشغيل الوزارة مؤخرا بالتعاقد لحوالي 24000 مدرسا،بدون تكوين أساسي،فإن المحالين على التقاعد بنوعيه سيكون سنة 2019حوالي 54% من المدرسين،أي حوالي 115ألفا و127،إن اعتمدنا عدد المدرسين الحالي(213ألفا و199)؛مما يعني وأمام سياسة التقشف وتقليص المناصب،عودة القطاع إلى مشاكل الاكتظاظ وتفريخ الأقسام المشتركة،وإلغاء التفويج وتدريس بعض المواد وغيرها من المشاكل المرتبطة بخصاص المدرسين،وترقيع ذلك بالمزيد من المتعاقدين دون تكوين أساسي متين واستقرار نفسي واجتماعي مهني. ناهيك عن عدم توفير وتعميم البنيات التحتية والخدماتية التربوية والاجتماعية الجيدة والكافية لتوفير العرض التربوي الحقيق،وشبه غياب للوسائل والموارد والتجهيزات التربوية الجيدة والكافية والحديثة. كل هذا يعني ضرب شعارات وأهداف مدرسة الجودة والإنصاف والترقي التي تطالب بها رؤية المجلس الأعلى. غياب تنزيل إصلاح بيداغوجي شمولي بعد ثلاث سنوات على الرؤية،لازال إصلاح المناهج والطرق والمقاربات البيداغوجية مؤجلا،وما زالت نتائج تجريب ومصيرالمنهاج المنقح للسنوات الأربع للتعليم الابتدائي غير معروفة وغير مفعلة! كل ماهناك إصلاحات جزئية لبعض المواد وبعض المستويات في بعض الأسلاك:اعتماد الطريقة المقطعية وتدريس الفرنسية في المستوى الاول من التعليم الابتدائي،اعتماد المقاربة العملياتية وتغييركتب المستويين السادس والخامس فرنسية،كل ذلك دون استفادة المدرسين المعنيين من أي تكوين؛في التعليم الثانوي التأهيلي تم في عهد الوزارة السابقة إحداث أقسام البكالوريا المهنية والدولية،أما الوزارة الحالية،فأعلنت أنها:» ستعمل على مستوى التعليم الثانوي الإعدادي، على تعزيز وتطوير المكتسبات اللغوية للتلاميذ والانفتاح على المهن والعلوم عبر مواصلة تعزيز المهارات القرائية باللغة العربية بالسلك الإعدادي على مدى ثلاث سنوات، وتطوير تدريس اللغة الفرنسية بالمستويات الأولى والثانية والثالثة ثانوي إعدادي، وتطوير المكتسبات اللغوية من خلال إدراج المصطلحات باللغة الفرنسية في مواد الرياضيات والعلوم الفيزيائية وعلوم الحياة والأرض، وانطلاق تجربة إدماج المسلك الدولي (مزدوج اللغة) في بعض الثانويات الإعدادية، واستعمال أمثل للبنية المادية بما في ذلك استغلال الفترة الزوالية، فضلا عن إحداث مسارات مهنية بروافد الثانويات التقنية. كما ستعمد الوزارة، على مستوى التعليم الثانوي التأهيلي، إلى تقوية القدرات اللغوية والعلمية للتلاميذ وتيسير الانتقال إلى التعليم العالي والاندماج في الحياة العملية عبر مواصلة تنويع العرض بالبكالوريا المهنية لتحقيق 10 بالمائة من مجموع التلاميذ في أفق أربع سنوات، وإحداث مسارات مهنية بالثانويات التقنية، وتوسيع العرض بالمسالك الدولية لتشمل جميع الثانويات التأهيلية حسب الطلب، واستثمار وثائق بلغات أجنبية في حصص العلوم والرياضيات.» كل هذه التدخلات «الاصلاحية» البيداغوجية مست أساسا بطريقة تجزيئية ما هو لغوي(خصوصا تعزيز الفرنسية على حساب مثلا اللغة الوظيفية والعالمية الأولى الانجليزية) ومهني،دون تعميم ذلك على مختلف الأسلاك والتلاميذ(ضرب مبدأي الإنصاف وتكافؤ الفرص)،ولم يمس باقي المواد المدرسة،باعتماد مقاربة بيداغوجية ومنهاجية شمولية؛حيث بقي النموذج البيداغوجي الذي يشتغل به المدرسون غامضا منذ الغاء مقاربة بيداغوجيا الإدماج،دون أي مبرر بيداغوجي مقنع علميا! واظن بيداغوجيا،إلم لم يتم تنزيل الرؤية الاستراتيجية باعتماد منهاج تربوي(البرامج والمناهج والطرق والنموذج البيداعوجي ومعايير التقييم،التنظيم البيداغوجي والإيقاعات الزمنية…) واضح وموحد ومتسق وشمولي في السلك الواحد وبين الأسلاك المدرسية الثلاث على الأقل حتى لا أقول والجامعية أيضا،وإن استمرت طريقة الاصلاحات البيداغوجية التجزيئية والانتقائية والمزاجية،سيتم إفشال كل المجهودات الاصلاحية لرؤية المجلس الأعلى،التي بنيت منهجيا على مبادئ ومشاريع ورؤية متسقة وشمولية.كما إننا غالبا سنحصد الفشل كذلك مع هذا الاصلاح الجديد إلم نصحح اختلالته منذ الآن،على مستوى تنزيل المنهاج التربوي،والحسم ديمقراطيا وعلميا في القرار التربوي ،وتوفير الموارد المالية والبشرية والمالية واللوجستيكية والبنيات التحتية الكافية والكفيلة بتحقيق نجاح الرؤية والإصلاح المنشود للمدرسة المغربية حتى تكون رافعة حقيقية لرقي وتنمية الفرد والمجتمع المغربيين. محمدالصدوقي باحث نربوي