منذ السبعينات من القرن الماضي، ظل ورش الجهوية حاضرا في العقل السياسي والاداري المغربي.. و هو معطى بنيوي في السياسات العمومية الوطنية المتتالية، وجاءت وثيقة 2011، التي أسست لهذا الورش واعتبرته خيارا استراتيجيا، من خلال مجموعة من الدعامات الدستورية والترابية والقانونية والتنظيمية، المؤطرة بقيم الحكامة وآليات الاشراك والتشاور وربط المسؤولية بالمحاسبة… ان الرهان الاول للورش الجهوي هو الاعتماد على قاعدة التراب كأساس مجالي لتدبير الشأن العام الوطني.. هذا الافق سيؤسس لا محالة لتحول هيكلي كبير من خلال الانتقال أو العبور من مفهوم الدولة المرتهنة لمنطق الدولة المتدخلة الراعية لكل الانظمة الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية الى دولة متخلية لكنها منتشرة على امتداد التراب الوطني، من خلال ارساء وحدات لا ممركزة مالكة ليس فقط لوسائل العمل ولكن كذلك لسلطة القرار.. ومن ثم التأسيس لنموذج جديد للدولة.. تتموقع فيه عبر التراب الوطني من خلال الوحدات اللاممركزة.. هذا النموذج وحده الكفيل والضامن لانجاح الجهوية المتقدمة، باعتبارها مدخلا من مداخل تحقيق شرعية جديدة للدولة من خلال التواجد الترابي والاصلاح الاداري والتدبير الحر والديمقراطي.. ان كل محاولة للجمع بين ثنائية (الثبات والحركية) أو المراوحة بين الدولة المركزية والدولة المنتشرة، سيفقد هذا المشروع الاصلاحي جوهره وسيحوله الى مجرد آلية مكرسة لنظام اداري مركزي ماسك بأهم السلطات التقريرية، بل بكل الوسائل المالية والبشرية.. ان الدولة اليوم، وأمام قوة الخطاب الاصلاحي، الرسمي المؤسساتي والشعبي المطلبي.. مدعوة الى اعادة بناء ذاتها وترتيب موقفها وتوضيح خطابها وتوجهها واعادة صياغة أدوارها ووظائفها الجديدة، احتراما أولا للمرجعية الدستورية الجديدة، وثانيا لربح تحديات واكراهات العولمة والتنافسية في مناخ اقليمي وجهوي متغير، وثالثا جوابا عن الانتظارات القوية والمطالب الشعبية في أبعادها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية والحقوقية… فهل يمكن بناء منظومة جهوية جديدة دون لا تركيز موسع..؟ وهل إعادة التموقع الترابي للدولة تقتضي تحديث الدولة واصلاح الادارة..؟ اليس شكل الدولة اليوم أصبح متجاوزا ومجادلا فيه، لأنه استنفد مهامه وأصبح مصدر تعميق الاختلالات وتراكم الاخفاقات..؟ هل تشكل الجهوية المتقدمة قوة محركة للتحول الهيكلي للدولة؟ اليست اللامركزية بصيغها الجديدة مجرد آلية جديدة لاعادة انتاج الدولة المركزية..؟ هل يمكن بناء منظومة ترابية تدبيرية جديدة دون لاتركيز حقيقي وعميق موسع؟. هذه بعض الاسئلة المقلقة والآنية والاجاية عنها تشكل مرتكزات أساسية لبناء دولة جديدة ونموذج تنموي فعال. فما هي مرتكزات بناء دولة الغد..؟ تردد الدولة في الانتشار ترابيا: ان اصلاح الدولة بفرض اعادة النظر في الهندسة العامة، من خلال اعادة هيكلة المنظومة التدبيرية وتجاوز المعيقات التالية: توفر الارادة السياسية للدولة توسيع فضاء اللاتركيز الاداري توزيع متوازن وعادل للموارد البشرية والمالية بين الجهات. اقتصار دور الدولة المركزية على التنظيم والتقويم. دعم وتوسيع اللامركزية المرفقية. الجهوية المتقدمة مدخل لاصلاح الدولة: ان موضوع توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات الترابية هو جوهر ومضمون الجهوية المتقدمة، وفي هذا الاطار خصص دستور 2011، الباب التاسع بكامله للجهات والجماعات الترابية الاخرى، وأقر الفصل 140 بالاختصاصات الممنوحة للجهات وحصرها في اختصاصات ذاتية وأخرى مشتركة مع الدولة، واختصاصات منقولة اليها.. وهكذا وضع دستور 2011 من خلال مقتضياته الواردة كما سبقت الاشارة الى ذلك في البابين المتعلقين بالجهات والجماعات، مجموعة من مبادىء الحكامة الناظمة للتصور الجديد للتنظيم اللامركزي بالمغرب والمحدد في ما يلي: مبدأ التدبير الحر. مبدأ التفريع. مبدأ المشاركة (المواطنة). مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. مقومات نجاح الدولة اللاممركزة: لا يمكن انجاح الجهوية المتقدمة وبناء دولة لاممركزة دون توزيع عادل للاستثمار العمومي وانتشار عقلاني للموارد البشرية: الموارد المالية والتوزيع العادل للاستثمار العمومي: من أجل أن يصبح الاستثمار العمومي في خدمة تنمية ترابية مندمجة ومتوازنة، لابد من اعتماد مقاربة مجالية في توزيع الاستثمار على الصعيد الوطني وذلك من خلال احترام القواعد التالية: اعداد ميزانية جهوية بشكل يضمن التوطين المجالي للبرامج والاستراتيجيات القطاعية. توزيع الاستثمار العمومي على قاعدة العدالة والتوازن، ذلك أن ما نلاحظه من خلال قانون مالية 2016 مثلا غير ذلك، حيث التفاوت الكبير في توزيع الاستثمار العمومي، ذلك أن جهتي الدارالبيضاءوالرباط تستحوذان على 3/1 من الاستثمار العمومي… ان العدالة المجالية، تقتضي توزيع الاستثمار وفق قواعد جديدة وعن طريق اعمال آليات وبرامج تراعي الحاجيات الفعلية والحقيقية للسكان. الموارد البشرية: يشكل اللاتمركز الاداري واحدا من أهم أوراش الاصلاح وتحديث الادارة المغربية وتعزيز الديمقراطية المحلية على المستوى الجهوي الاقليمي والمحلي، لكن ذلك لن يتحقق دون توزيع عادل للموارد البشرية، ويمكن الوقوف على الملاحظات التالية: الملاحظة الاولى: نلاحظ أن الرباط وحدها تحتضن ما يقارب 115930 موظفا ، أي %20 من الموظفين و54920 موظفا متمركزا بالدارالبيضاء، مما يعني أن %30 من موظفي الدولة يتمركزون بجهتي الرباطوالدارالبيضاء. الملاحظة الثانية: %11 من الموظفين متمركزون بالرباط بالمصالح المركزية… هذه النسبة تبدو كبيرة مقارنة مع فرنسا، حيث لا تتعدى نسبة الموظفين المتمركزين بالعاصمة %3 . نموذج جديد للاتركيز: ان اصلاح الدولة يحتاج الى مداخل جديدة كثيرة، وان كان البعض يعتقد ان المخاطرة بتوسيع اللامركزية وارساء الخيار الجهوي قد يعصف بالوحدة الوطنية والدولة الموحدة.. لكن قبل ذلك أليست هناك تجارب مقارنة قطعت المراحل نفسها، وحققت الاصلاح المأمول دونما خسائر تذكر، أليست الدولة والجماعات المستقلة بفرنسا نموذجا ناجحا استهدف تحقيق اصلاح مؤسساتي أعاد توزيع المهام بين الدولة والوحدات الترابية والادارية بما يسمح بتدبير تحكمه مبادىء التبسيط، القرب والنجاعة… ان الاهداف التي تبرر استعجالية الاصلاح هي نفسها التي تبرر ضرورة استمرار الدولة بشرعيات جديدة.. فتحديث الدولة واعادة تموقعها تحكمه أنساق مختلفة…النسق الزمني- النسق الاخلاقي- النسق الاستراتيجي والنسق الخارجي… ان عدم التمركز سيكون عديم الفائدة دون أن يواكب بنقل السلط والوسائل لتأسيس استقلال حقيقي في تدبير المصالح عبر اصلاح عام لقانون الوظيفة العمومية، وتجديد علاقات العمل وتنمية المسؤوليات واستقلالية المرافق وتثمين السياسات العمومية وتحسين علاقات الدولة مع المواطن، وتحديث التكوين وتثمين العنصر البشري.. ان تسريع مسلسل اللاتركيز وتفعيل الجهوية المتقدمة، لن يتحقق من خلال التعجيل باخراج القوانين التنظيمية فقط الى حيز الوجود دون تغيير المركز القانوني لاتخاذ القرار ، وبالتالي فإن كل هذه الاجراءات لن تغير وجه الدولة ومركزيتها دون اتخاذ الاجراءات التالية: تفويض السلطة عوض نظام التفويض ومنح الاختصاصات بنص تنظيمي. تكييف الواقع الترابي للدولة مع مطلب عدم التركيز واعطاء التفويضات بعدا مؤسساتيا وليس طابعا شخصيا. تخلي العمال عن بعض صلاحياتهم لبعض المستويات الدنيا ( الباشا، رئيس الدائرة، القائد…). اعتماد عدم تركيز الاعتمادات المالية. التحسيس بأهمية التكامل بين عدم التركيز واللامركزية وتكييف البرامج الوطنية مع الحاجيات الجهوية. تثمين العمل مع المصالح الخارجية من خلال تقوية جاذبية الجهات بالنسبة للأطر العليا. الزامية المرور عبر الوحدات اللامركزية من أجل تقلد مناصب عليا كثيرة على المستوى المركزي (حكومة-برلمان ). ان سؤال تكييف الدولة مع دورها الجديد، وفق آلية المواكبة والتعاقد على تحقيق الانسجام والاستقلالية بين سياسة الدولة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخدماتية من ناحية، وبين البرامج الجهوية التنموية من ناحية أخرى وخلق برامج جهوية تضمن التكامل المبذول من طرف الدولة والجماعات الترابية الاخرى. ان اعادة انتشار الدولة يساعد على خلق أقطاب جهوية لاممركزة وحاملة لجذبية استقطاب الاطر والكفاءات واعادة استثمارها جهويا ومحليا لبناء منظومة تدبيرية جديدة كفيلة بتحقيق التوازن الترابي والاداري المؤطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.