"دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاربة مستقبلية لبناء جهوي جديد بالمغرب 3/1

إن مواجهة التحديات الهيكلية للتنمية في المستقبل تتوقف على قدرتنا على إقرار ديمقراطية حقيقية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، وبناء اقتصاد مزدهر ومندمج وتنافسي وهندسة مجتمع متشبع بقيم الحداثة ومتراص في مكوناته وقوي بتلاحمه وكذا السهر على تنظيم متناسق ومتوازن لتنمية المجال الترابي في تنوعه الجهوي والمحلي وعلى تقسيم محكم للعمل وللأدوار داخل الدولة وذلك في إطار احترام مبادئ السيادة الوطنية والوحدة الترابية لبلادنا.
لذا يجب التأكيد على أن التفكير المستقبلي في تنظيم جهوي جديد بالمغرب لا تمليه اعتبارات هدفها ترميم مواطن ضعف الوضع الجهوي القديم والاختلالات الموروثة عنه، ولا حتى اهتمامات ظرفية ومرحلية لتلبية طلبات سياسية جهوية ومحلية معينة.ذلك أن المقاربة المستقبلية للتنظيم الجهوي الجديد تتحكم فيها متطلبات تنمية وطنية وجهوية مندمجة ومتضامنة ومستلزمات الحكامة الديموقراطية والمواطنة الفعالة والمسؤولة وكذا الحاجة الماسة للمجموعة الوطنية في استثمار تنوعها الجهوي والمحلي، بالإضافة إلى ضرورات اندماجها في المجالات المغاربية والاورومتوسطية وفي ديناميات العولمة.
وانطلاقا من تصورها على أساس اختيارات إرادية واضحة في مجال التنمية الوطنية والجهوية المندمجة، وتعميق اللامركزية الترابية واللاتركيز الإداري ومحاربة الاختلالات المجالية والتقليص من الفوارق الاجتماعية والجهوية، نعتقد أن المقاربة المستقبلية لتنظيم جهوي جديد بالمغرب يجب أن تركز اهتماماتها على ثلاث اشكاليات أساسية على الأقل، تتعلق الأولى بالمحتوى المفاهيمي للجهة والثانية بالترابط الجدلي ما بين الاستقلالية الجهوية والوحدة الوطنية والثالثة بالبعد الإرادي للبناء الجهوي وتلازمه مع البناء الوطني والدولتي. وعلى هذا الأساس، سنتطرق في إطار تحليل مضامين المقاربة المستقبلية للأسس الاستراتيجية لتنظيم جهوي جديد بالمغرب إلى المحاورالتالية :
-المحور الاول: الرهانات المرتطبة بالجهات كهياكل في اندماج متزايد وكأنظمة منفتحة على الديناميات العالمية والوطنية والجهوية ؛
- المحورالثاني: التحديات المرتبطة بتناسق متطلبات الاستقلالية الجهوية وضرورات الوحدة الوطنية وبإدماج المقاربات الجيوسراتيجية والسياسية والسوسيواقتصادية؛
- المحورالثالث: بلورة مقاربة مستقبلية إرادية لبناء جهوي جديد مترابط عضويا مع البناء الوطني والدولتي؛
-المحورالرابع: النموذج الجهوي المغربي المستقبلي ومساءلة تجارب وتوجهات الدول المغاربية الأخرى.
-Iالرهانات المرتبطة بالجهات كهياكل في اندماج متزايد وكأنظمة منفتحة على الديناميات العالمية والوطنية والجهوية.
تشكل الجهة المجال الترابي الادني والأمثل لتصور وتنفيذ استراتيجيات وسياسات للتنمية في المستقبل، كفيلة بمواجهة متطلبات السوق الوطني ومستلزمات إقرار اقتصاد تنافسي وفي اندماج متقدم في المجالات الاقتصادية الجهوية الكبرى وفي ديناميات العولمة.
وعلى هذا الأساس، فالتفكير في منظومة جهوية جديدة في المستقبل يجب أن يتم على ضوء ثلاثية المركزية الدولتية، واللامركزية الترابية والضبط الاجتماعي والمجالي، وأن يأخذ بعين الاعتبار التحكم الضروري في أربع رهانات حاسمة متصلة بالارتباطات التالية:
-الارتباطات ما بين الجهوي والدولي ويتعلق الأمر في هذا الصدد بتقوية جاذبية الجهات تجاه المجالات الاقتصادية الجهوية والقارية وتحسين دائم لتنافسيتها لضمان اندماجها الفعال في ديناميات العولمة ومواكبة انفتاحها النافع على جهات أخرى في العالم في أربع اتجاهات ستجعل منها أقطابا للاندماج والتعاون، ويتعلق الأمر: بالتعاون اللامركزي والشراكة الجهوية، والتطور الصناعي وكذا تنمية شبكات الابتكار والتصنيع التكنولوجي.
فعلاوة على الاستثمارات في ميادين التجهيزات الأساسية العمومية والتقنيات الجديدة للإعلام والاتصال والمشاريع الكبرى التجهيزية التي تهيكل تنمية المجال الترابي الوطني، سيكون للبرامج التنموية الخاصة بعمالات وأقاليم الشمال والجنوب والشرق آثارا عميقة على تسريع تنميتها الجهوية والمحلية المندمجة وعلى تقوية تنافسيتها الداخلية وجاذبيتها الخارجية وكذا على بروزها كقناطرة متقدمة للتعاون والاتصال مع الدول الأوروبية والمغاربية والإفريقية.
-الارتباطات ما بين الجهوي والوطني وهنا يتعين ضمان التناسق ، من جهة، ما بين متطلبات الاستقلالية الجهوية التي يفرضها التنوع الجهوي، ومن جهة أخرى، ما بين مستلزمات الوحدة الوطنية التي تحتمها الارتباطات المتداخلة ما بين المجموعات البشرية والجماعات والمجالات التي تتعايش في إطار مجال وطني موحد، وبشكل عام ضمان علاقات منسجمة ما بين المركزية الدولتية واللامركزية الترابية.
-الارتباطات ما بين الجهوي والجهوي وهنا يتعلق الأمر بالرهانات داخل الجهات وفيما بين الجهات والتي تتجلى في إشكالية إدماج المفاهيم والتصورات الوظيفية والمفاهيم الترابية وتنظيم العلاقات فيما بين المجالات في خصوصيتها وتعددها بناء على مشاريع جهوية مؤطرة وموحدة للأطراف الجهوية للتنمية.
- الارتباطات ما بين الجهوي والمحلي وهنا يتعين ضمان التناسق ما بين التنظيم الجهوي والتنمية الترابية، مع تجنب تطور أنساق تنموية جد متباينة تسير بعدة سرعات، وكذا بروز مجتمع ثنائي تطبع مكوناته وهياكله تفاوتات كبيرة.
إن الضبط المنظم للرهانات المرتبطة بالجهات كهياكل منفتحة وفي اندماج متصاعد يجب أن يندرج في إطار منظور طويل المدى لتنمية مجالية متناسقة ومندمجة ومستدامة، ولنظم إنتاجية جهوية منفتحة، ومتنوعة ومتكاملة، ولمشاريع جهوية مرتكزة على تنافسية المجالات وكذا لتخطيط استراتيجي جهوي مندمج بشكل قوي في التخطيط الاستراتيجي الوطني المبني بدوره على منظور مستقبلي للمغرب على المدى البعيد.
-IIالتحديات المرتبطة بتناسق متطلبات الاستقلالية الجهوية وضرورات الوحدة الوطنية وبإدماج المقاربات الجيواستراتيجية والسياسية والسوسيو اقتصادية.
يجب أن تعمل المقاربة المستقبلية لبناء تنظيم جهوي جديد على إدماج الأبعاد السوسيوثقافية والأنطربولوجية والمجالية والتاريخية والمتغيرات الجيواستراتيجية والسياسية والمجتمعية وكذا الديناميات الوطنية والجهوية والعالمية في إطار منظور شمولي للتنمية. وفي هذا الصدد، هناك تحديان أساسيان يطرحان بالنسبة لمقاربة بناء جهوي جديد بالمغرب في المستقبل:
-التحدي الأول يتعلق بضمان التناغم والتناسق الإيجابي ما بين متطلبات الاستقلالية الجهوية وما بين ضرورات السيادة الوطنية و الوحدة الترابية. وفي هذا الإطار، تعتبر المقاربة المعتمدة المتميزة بطبيعتها التعددية أن التنظيمات الجهوية والمحلية لا تختار أبدا المركزية المفرطة والخانقة أو اللامركزية الشاملة والكاملة ، ذلك أن هذه التنظيمات تعيش وتنمو في إطار جدلية مسلسل تتحكم فيه المركزية الدولتية واللامركزية الترابية والمقاربات «من الفوق» والمقاربات «من الأسفل».
ومن هذا المنطلق، فإن جل التجارب الخاصة بالبناء الجهوي والمحلي يجب أن تتغلب على تناقض كبير مرتبط بجدلية المركزية واللامركزية، ذلك أن ضرورة الإصلاح يتم التعبير عنها في القاعدة من طرف الجماعات الترابية على شكل حاجة للاستقلالية، بيد أن تحقيق هذا الهدف لن يتسنى بلوغه إلا برضى وتحت مراقبة الحكومة المركزية. فبالنسبة للدول الأحادية، لا تعني الاستقلالية الجهوية الاستقلال التام، بقدر ما تعني الاضطلاع بسلطات موسعة للقرار في إطار احترام متطلبات الوحدة الوطنية والترابية.
-التحدي الثاني يهم ضرورة الإدماج العميق والذكي للمقاربات الجيواستراتيجية والمقاربات السياسية والمقاربات السوسيواقتصادية داخل مجال ترابي وطني موحد.وعلى هذا المستوى، يجب الإشارة إلى أن إشكالية إقرار بناء جهوي جديد قابل للإنجاز تطرح بشكل سياسي بالنسبة لدولة مركزية، غير أنه لا يمكن في إطار هذه الإشكالية المعقدة أن يكون للبعد السياسي الأولوية المطلقة، ذلك أن الطبيعة الاقتصادية الواضحة للجهة تجعل من النموذج الاقتصادي(paradigme économique) العمود الفقري للبناء الجهوي المستقبلي. بحيث أن الجهات التي لا تتوفر على مؤهلات طبيعية وبشرية ولا على إمكانيات داخلية للتنمية ولا على سلطات جهوية راعية لمشروع جهوي مندمج في الاختيارات الوطنية وقابل للإنجاز في إطار استراتيجيات وبرامج تنموية، هي جهات محكوم عليها مسبقا بالفشل لكونها لا مستقبل سياسي واقتصادي لها.
لذا يجب التأكيد عل أن أسس مقاربة مستقبلية لبناء جهوي جديد بالمغرب يجب أن ترتكز على تخصصات متعددة وأن تعمل على إدماج الأبعاد الوظيفية والقطاعية والديناميات الترابية، وعلى التوفيق ما بين مستويات من الاستقلالية يفرضها التنوع الجهوي والخصوصيات السوسيو ثقافية والتاريخية وما بين متطلبات احترام السيادة الوطنية والوحدة الترابية، وعلى تناغم المركزية واللامركزية في إطار ديموقراطية تشاركية وكذا الوعي بالرهانات التي تربط البعد الجهوي والأبعاد المحلية والوطنية والدولية.
-IIIمقاربة مستقبلية لبناء جهوي جديد بالمغرب:دعائم وخلفيات السيناريو الإرادي
تعتبر المقاربة المستقبلية لبناء جهوي جديد بالمغرب أن البناء الجهوي والبناء الوطني والدولتي متلازمين وغير منفصلين نظرا للتحديات الداخلية والخارجية. فمواجهة التحديات الداخلية تتطلب الاشراع الواسع لأوراش الحكامة الديموقراطية واللامركزية الترابية والسياسات الجهوية والتآزر الاجتماعي. وأما ربح الرهانات والتحديات الخارجية فيقتضي دولة قوية بمشروعيتها وقادرة على الدفاع عن ألوان الوطنية الاقتصادية من خلال الإدماج الايجابي لاقتصادنا في المجالات الاقتصادية المغاربية والمتوسطية والدولية ومتمكنة من تحصين المصالح الوطنية الاستراتيجية داخل التجمعات الجهوية وفي الهيآت الدولية.
إن المنهجية التي سلكناها في تصور بناء جهوي جديد ببلادنا قائم على احترام مستلزمات السيادة الوطنية وعلى تعزيز واستكمال الوحدة الترابية، تعتمد على مقاربة مستقبلية لمنظور استراتيجي لأنماط الضبط الاجتماعي والمجالي وتعميق الحكامة الديموقراطية وبناء دولة حديثة وديمقراطية مؤسسة على الحق والقانون واحترام حقوق الإنسان وكذا توسيع المشاركة السياسية للمواطنين في تسيير شؤونهم وذلك في إطار تقوية وتسريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
اعتمدت المقاربة المستقبلية للأسس الاستراتيجية لبناء جهوي جديد بالمغرب على ثلاث سيناريوهات اختيارية ممكنة : سيناريو الاستمرارية (الاختيار الادنى)، سيناريوالتغيير في الاستمرارية (الاختيارالوسيط) وسيناريو القطيعة (الاختيار الإرادي).
فإذا كان السيناريو الأول يحمل في طياته بوادر اختلالات جديدة داخل الجهات وفيما بين الجهات، فإن السيناريو الثاني غير قادر على مواجهة تفاقم الاختلالات المجالية والفوارق الجهوية في غياب آليات للضبط الاجتماعي والمجالي ونظرا لضعف الهياكل الجهوية الحالية. لذا يتعين تفضيل السيناريو(الثالث) الإرادي للقطيعة مع التنظيم الجهوي القديم الذي سنتطرق إليه لوحده فيما يلي مع الاهتمام بمرتكزاته وبمخلفاته.
ويؤسس هذا السيناريو الإرادي إلى وضع تنظيم جهوي جديد قادر على مواجهة التحديات الكبرى للتنمية في المستقبل على كلتا الجبهتين الداخلية والخارجية، ويحمل في طياته أربع أطروحات / مقاربات : وتركزالأولتين اللتين تحيلان على الديناميات الداخلية على خلق الجهة كجماعة ترابية لاممركزة وعلى بناء الجهة كمركز اقتصادي للقرار. أما الثالثة والرابعة المرتبطتين بالديناميات الخارجية فتهدفان إلى مأسسة الجهة كقطب ومكون للإندماج المغاربي وإلى إقرار الجهة كقطب للتعاون اللامركزي والدولي.
ويجب أن يترجم هذا السيناريو الإرادي باختيار سياسي واضح لتكريس الجهة كجماعة ترابية لاممركزة ، تتوفر على الشخصية المعنوية والاستقلال المالي وعلى إسم ومجال ترابي وهياكل منتخبة بالاقتراع العام المباشر وتمارس السلطة التنفيذية في تدبيرها المستقل لشؤونها الجهوية ، وكحلقة مندمجة في إقرار ديمقراطية اقتصادية واجتماعية وسياسية وفي تحديث تنظيم وتسيير الدولة في علاقاتها بالمجال والاقتصاد والمجتمع. وسيرتكز البناء الجهوي الجديد على مبدإ تحويل مجموعة من الصلاحيات والسلط والوسائل
(transfert de blocs de compétences, de pouvoirs et de moyens humains et financiers) المالية والبشرية من الدولة الأحادية إلى الجماعات الجهوية اللا ممركزة، بناء على اختيارات وتأطيرات مؤسسية وبرمجة زمنية لتقدم التحويلات يتعين حصر برمجتها الزمنية في إطار وضع قانوني وحيد. ولا يجب خلط هذا المبدأ مع مبدإ(principe de subsidiarité) الذي يتحكم في تنظيم الدول الأحادية ذات النزعة الجهوية وفي تنظيم الدول الفيدرالية.
وفي إطار هذا المنظور الإرادي، ونظرا للحالة التاريخية للأقاليم الصحراوية ،يتعين اعتماد مقاربة موحدة لبناء جهوي جديد بالمغرب تتناسب مع تعدد وتنوع هياكلنا ومكوناتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والجغرافية والبشرية وهذه مقاربة نقيضة للمقاربة المعتمدة على «الهندسة المتغيرة» (Approche à géométrie variable) لكونها مصدر محتمل لتعقيدات في العلاقات ما بين الدولة والجهات ولزعزعة أسس الاستقرار الوطني. ويمكن لهذه المقاربة الموحدة أن تمزج وضعين : وضع عام يطبق على كل الجهات كجماعات ترابية لاممركزة، باستثناء الأقاليم الجنوبية المسترجعة التي ستخضع لوضع خاص بها يوفر لها استقلالية جهوية متقدمة ولكن مقننة ومراقبة بمجموعة من الضوابط المرتبطة بالسيادة الوطنية والوحدة الترابية.
وهذان الوضعان اللذان يشكلان نتاجا لتوافق تاريخي يختلفان من حيث طبيعة ومستوى الاستقلالية ونمط تعبيرها المؤسساتي. فالاستقلالية الموسعة لا تعني الاستقلال أو الانفصال، بقدر ما تعني شكلا تعبيريا عن مبدإ تقرير المصير، علما أن الشرعية الدولية في هذا الصدد لا يمكن تحجيمها في أي حال من الأحوال، فيما يخص نزاع الصحراء، في القرار (XV) 1514 بتاريخ 14/12/1960 (الذي يتطرق لتقرير المصير في شتى أشكاله: الاستقلال، أو الشراكة أو الاندماج أو أي وضع سياسي آخر يتم اختياره، دون التأكيد على الاستفتاء)، بل تشمل من بين ما تشمل عليه على ميثاق الأمم المتحدة، وخاصة الفصلين السادس والسابع. ومن المؤكد أن المغرب الذي خضع لنظام الحماية لم يكن مستعمرة، وعليه كان من الأجدى أن يسترجع كل أراضيه عند استقلاله طبقا لمعاهدة الحماية التي تضمن استقلاله ووحدته الترابية، وطبقا لما تنص عليه المعاهدات الدولية.
وإذا كانت الجماعات الجهوية اللاممركزة تخضع لمراقبة الوصاية التي تمارسها الدولة، فالجهات المستقلة تخضع بدورها إلى مراقبة الدولة المركزية على المستوى السياسي والقانوني والدستوري.
ومن هذا المنطلق، فإن النموذج المغربي يجب أن يكون نتاجا للعبقرية المغربية وللهندسة الوطنية وأن يتوافق مع الشخصية المغربية ومع التطلعات المشروعة للأمة ، وأن يكون موضع استشارة سياسية وشعبية واسعة من خلال تثمين المنجزات المحققة والوقوف على الاختلالات والفوارق القائمة في ميدان التنمية الجهوية وعلى سبل مواجهتها بناء على أهداف واستراتيجيات وبرامج عملية، وذلك في إطار منظور استراتيجي شمولي للحكامة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والبشرية ولإشكاليات الضبط الاجتماعي والمجالي بالمغرب.
وهذا يعني أنه بقدر ما يجب الإبتعاد عن نسخ تجارب الآخرين لأنها ثمرة مركبة لعوامل تاريخية وسياسية واجتماعية وسوسيو ثقافية، بقدر ما يجب الاستئناس بها والتعرف على مضامينها ونتائجها في الميدان لاستنباط تصور وطني حقيقي يلائم الشخصية المغربية والكيان الوطني والطموحات المشروعة للأمة. وفي هذا الصدد، يمكن للمغرب أن يعمد إلى استلهام ذكي للتجربة الفرنسية فيما يخص الوضع العام للجهة كجماعة ترابية لاممركزة، وللتجربتين الإسبانية والإيطالية بالنسبة للوضع الخاص المبني على تخويل استقلالية واسعة لأقاليمنا الجنوبية المسترجعة واستنباط العبر من التجربة الألمانية فيما يتعلق بالإشكاليات المرتبطة بالموازنة والتآزر المالي وبالتوزيع العادل للموارد المالية وبالبرمجة المالية المتعددة السنوات. ويستشف من الخطوط العريضة للمقترح المغربي الرامي إلى التفاوض بشأن تخويل نظام حكم ذاتي لجهة الصحراء أن هذا المقترح قد تم استنباطه من تجربة المملكة الإسبانية المعتمدة على نظام المجموعات المستقلة والتي يعترف دستورها بالعرقيات بعد الحرب الأهلية وفشل محاولة إقرار الجمهورية.
إن اعتماد المشروع الجهوي الجديد الذي يمكن أن يشكل أيضا إطارا لاسترجاع سبتة ومليلية السليبتين، سيتطلب تعديلا للدستور الحالي وخلق هياكل لتنسيق وإدماج الأعمال الجهوية وتحديد ميكانزمات للتضامن والتآزر داخل الجهات وفي ما بين الجهات ومأسسة التعاون الخارجي للجهات وإعادة النظر في التقسيم الجهوي الحالي وترابطا اعمق ما بين اللامركزية وعدم التمركز و تناسقا قويا ما بين التخطيط الاقتصادي والاجتماعي وإعداد التراب الوطني على المستوى المركزي والجهوي .إن هذه المقاربة الإرادية لتنظيم جهوي جديد مبني على وضعين (double statuts) تدمج تماما متطلبات المبادرة المغربية المقترحة للأمم المتحدة خلال شهر أبريل 2007 من أجل التفاوض بشأن تخويل نظام حكم ذاتي لجهة الصحراء في إطار سيادة المملكة ووحدتها الوطنية وكذا آفاق إصلاح التنظيم الجهوي التي عبر عنها الملك محمد السادس في خطابه بتاريخ 6 نونبر 2008 والرامية إلى إقرار جهوية موسعة يصاحبها لا تمركز متقدم.
وعليه فيمكن للمغرب أن يقرر في إطار ممارسة سيادته على أراضيه أن يطبق التنظيم الجهوي الجديد في الوقت الذي يراه مناسبا، وذلك بعد المصادقة على محتوى الدستور المعدل في إطار استفتاء شعبي.وعلى هذا الأساس، سيتطور المغرب الموحد تدريجيا نحو دولة جهوية في إطار مسيرته الهادئة نحو تحقيق انتقال ديمقراطي وسيشكل بذلك نموذجا يقتدى به بالنسبة للدول المغاربية الأخرى.
-IVالنموذج الجهوي المغربي المستقبلي ومساءلة تجارب وتوجهات
الدول المغاربية الأخرى.
نعتقد جازمين أن النموذج الجهوي المغربي الجديد الذي اقترحنا محدداته وخطوطه العريضة يسائل تجارب الدول المغاربية الأخرى التي لا وجود فيها لفكرة الجهة كجماعة ترابية لاممركزة، باستثناء جزئي لتونس التي ترمز فيها فكرة الجهة إلى مجالس إقليمية استشارية يرأسها العمال وتشتمل على أعضاء منتخبين وآخرين معينين.
ويضع هذا الاختيار كذلك عدة تساؤلات حول توجهات الدول المغاربية الأخرى في هذا المجال، خاصة الجزائر التي لم تعتزم بعد الدخول في إقرار دولة ديمقراطية ولاممركزة حقيقية بوجود جماعات جهوية مستقلة، ومازالت معرقلة لاتحاد المغرب العربي ومستمرة في زرع الخلافات وعدم الاستقرار في المنطقة بمنظور هيمني مكشوف بتدخلها المباشر في الصراع المفتعل في أقاليمنا الجنوبية المسترجعة تحت غطاء الدفاع عن حق تقرير المصير وعن تصفية الاستعمار، وهما وضعان لا يتطابقان بتاتا مع حالة المغرب الذي خضع لنظام الحماية الذي يعترف باستقلاليته وبوحدته الترابية، عكس الجزائر التي خضعت لنظام الاستعمار. وهذا تحريف للوقائع التاريخية وللحقائق المعروفة، لان المغرب ،الذي ساند الجزائر للحفاظ على صحرائها ووحدتها الترابية ولانتزاع استقلالها، هو الذي تضرر أكثر من الفترة الاستعمارية، بحيث أن أجزاء هامة من أراضيه اغتصبت منه إبان الحماية (على غرار الدول المجاورة الأخرى المتضررة) وتوجد حاليا داخل التراب الجزائري، بما فيها تندوف التي يستقر فيها البوليساريو.
وإذا استمرت الجزائر في معاكسة وحدته الترابية، فمن حق المغرب أن يقوم بإلغاء اتفاقية الحدود مع هذا البلد ويطالب بإعادة ترسيمها بناء على حقوقه المشروعة وحدوده التاريخية المعروفة، وأن يعامل الحكام الجزائريين الحاليين بالمثل وذلك بإذكاء النعرات الاستقلالية لدى المناطق المقصية التي تطالب بحقها في تقرير المصير(مثل منطقة القبائل). فلى قيمة لمبدإ احترام الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية بالنسبة للمستعمرات السابقة إذا لم يتم احترام السيادة والوحدة الترابية للدول التي خضعت لنظام الحماية.
ويضع هذا التوجه كذلك على المحك الإرادة الحقيقية للحكام الجزائريين في بناء المستقبل المشترك جهويا ووطنيا ومغاربيا ودوليا. فبناء هذا المستقبل المشترك ممكن على أساس احترام السيادة الوطنية والوحدة الترابية للدول وإقرار بناء جهوي وسياسات جهوية متكاملة على المستوى المغاربي تشكل فيه الجهات أقطابا للتنمية والشراكة والاندماج والتعاون اللامركزي على المستوى المتوسطي والدولي.
وهذا يعني طي النزاع المباشر الذي افتعلته الجزائر مع المغرب إبان الحرب الباردة بشأن استكماله لوحدته الترابية، لأن المغرب موجود في أراضيه وقادر على إصلاح ذات البين مع أبنائه في الأقاليم الجنوبية المسترجعة في إطار بناء جهوي جديد. وهذا شرط أساسي لإعادة الروح لاتحاد المغرب العربي كإطار لتقاسم المنافع المتبادلة والدفاع عن المصالح المشتركة وتشكيل قوة تفاوضية وفضاء استراتيجي للتنمية والاستقرار والتعاون والشراكة الاورومغاربية والمتوسطية.
وعلى هذا الأساس، فإن « إتحاد مغاربي للجهات الرابحة» سيشكل ورشا كبيرا ممكن الإنجاز خلال السنوات القادمة، وتنفيذه بالملموس لا يمكن فصله عن دمقرطة وتحديث الدول المعنية كل واحدة على حدة حسب مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحققة وطبيعة وأشكال تقدمها في الإصلاحات السياسية وذلك في علاقاتها بالمجال والمجتمع والاقتصاد، وبترابط مع تقوية اتحاد المغرب العربي والدفع به إلى الأمام كشريك للإتحاد من أجل المتوسط، علما أن المستقبل ستتحكم فيه أكثر فأكثر التجمعات الجهوية والتنمية المتآزرة وقيم الحكامة الديمقراطية والتعاون والحرية والسلام.
ففي إطار تعميم النموذج الجهوي المغربي المستقبلي إلى الدول المغاربية الأخرى، نعتقد أن الاعتراف بسلطات جهوية قائمة بذاتها داخل الدول المغاربية الأخرى من شأنه أن يسهم ليس فحسب في دمقرطة دولها حسب طبيعة سيرورتها التنموية، بل كذلك في بلورة «اتحاد مغاربي للجهات الرابحة»، وكذا فتح آفاق لإعادة بناء جيوسياسي للمنطقة المغاربية على أسس إستراتيجية جديدة ولإنشاء إتحاد متوسطي مرتكز على الشراكات الإستراتيجية والتنمية المتآزرة والمعالجة الشمولية لمسألة الهجرة وكذا التدبير الجماعي للمنتجات العمومية الشاملة على صعيد الفضاء الاورو مغاربي والمتوسطي.
(*)الاستاذ امحمد الزرولي، حائز على دكتوراه الدولة في علم الاقتصاد سنة 1996 حول موضوع: بناء الجهة الاقتصادية بالمغرب، وهو باحث مختص في شؤون الحكامة الديمقراطية والتخطيط الاستراتيجي والتنمية الجهوية. وقد صدرت له عدة كتب من بينها كتابين حول الجهة والجهوية بالمغرب، تحت عنوان:
-(1990) الجهة الاقتصادية بالمغرب: أي مستقبل؟
-(1996) بناء الجهة الاقتصادية بالمغرب: دعائم ومستلزمات مقاربة مستقبلية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.