فيما يشبه عدوى منتشرة أو تقليعة »موضة« دائعة، لا حديث اليوم إلا عن »القرب«: سياسة القرب، ثقافة القرب، نقابة القرب، جمعية القرب، تنظيم القرب، إدارة القرب، إعلام القرب... وكجميع المفاهيم الجاهزة التي تؤثت خطابنا العمومي، يتحول المفهوم إلى جزء من الكليشيهات التي يرددها الجميع، كمسلمة وكثابت لبناء التحاليل والمواقف. وحدهم المتخلفون عن العصر لا يستعملونه في خطاباتهم... داخل حقل سياسي مصاب بعقم فادح في إنتاج الأفكار وصناعة المفاهيم، سيصبح »القرب« بمثابة حل سحري لكل أسئلة التواصل ولجميع إشكاليات التنظيم وقضايا التأطير. سيصبح »القرب« هو البرنامج والمشروع، هو التكتيك والاستراتيجية، هو الخط السياسي والأفق الإيديولوجي، هو الجواب الكبير على سؤال المرحلة. هكذا، أصبح »القرب« مهما، حتى أننا لا نذكر كيف كانت لغتنا السياسية قبل اكتشافه؟ وكم كنا فقراء قبل أن نحتكم إلى غنى هذه الكلمة/ الضرورة، التي لم تكن قبل ذلك الاكتشاف العظيم، تعني سوى أحد الأنواع اللذيذة من السمك. ولأنه يمتلك سلطة الأفكار الجاهزة وسطوة الكليشيهات، فمن يجرؤ اليوم على التشكيك في هذا المفهوم؟ بل من يجرؤ اليوم حتى على تفسيره؟ لنتفق بداية على أن العمل السياسي- منذ أن وجد، كان دائما محملا برهانات الاقتراب من الناس والإنصات »للشعب« والاحتكاك ب»الجماهير«. وأن جوهر العمل الحزبي كان دائما هو تلك القدرة على التواصل والتعبئة والتأطير والتنظيم. ولنقر بأن »القرب« بهذا المعنى ليس جديدا على السياسة، بل هو أحد عناصرها ومكوناتها الجوهرية. لكن لنتفق كذلك على أن الخطاب حول »القرب« في سياقنا المغربي يكاد يحمل الكثير من »اللاسياسة«. لقد تابعنا مثلا خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة كيف استعمل مفهوم »القرب« من طرف الأحزاب لتفويت الصراع الوطني (= السياسي)، وتحويله إلى صراعات محلية بدون أي حضور للنقاش والتقاطب الفكري والسياسي، وهو ما أدى إلى تمجيد »القرب« على حساب المشروع السياسي. والواقع أنه لا معنى تماما للاعتداد بدرجة قرب المرشحين والتنظيمات الحزبية من المواطنين، دون انخراط هؤلاء المرشحين وهذه التنظيمات في أفق دينامية »صراع« سياسي حول المشاريع والأفكار والقيم، صراع بأفق وطني عام وشامل. فالقرب، دون مشروع سياسي وفي غياب فلسفة تنظيمية للتأطير والتعبئة، لا يعدو أن يشكل شرعنة للانتهازية والزبونية. فمهمة رجل السياسة هي خدمة الصالح العام وليس توزيع المنافع والخيرات على زبنائه وناخبيه المفترضين. ففي العمل السياسي، فإن الجمع الحسابي للمصالح الخاصة لكل المواطنين، لا يساوي بالضرورة المصلحة العامة، لأن تدبير الشأن العام لا يعني التكفل بالخدمات »الخاصة« للمواطنين. إن انتصار »الخدمة« على »الفكرة«، وانتصار »القرب« على »المشروع« لا يعني في النهاية سوى الاندحار الحاد الذي تعرفه السياسة في بلادنا. ولا شك أن إيديولوجيا »القرب« ليست عبارة عن خطاب بريء، إنها تحويل مقصود لجغرافية العمل السياسي، من فضاء التقاطبات الماكروسياسية المبينة على طبيعة الاختيارات الاجتماعية والاقتصادية إلى فضاء للصراع الميكروسياسي المبني على من يملك القدرة لتوزيع الخدمات، لضمان ولاء الزبناء داخل الحي أو القرية الدائرة الانتخابية الصغيرة... في ندوة منظمة مؤخرا بمدينة فاس، من طرف جريدة »المعلومة«، تساءل الأستاذ محمد الساسي بنباهته المعهودة حول ما إن كان »القرب« يعني كذلك »البعد«: البعد عن طرح قضايا توزيع الثروة وتوزيع السلطة؟ سؤال صغير لكنه قادر على تفجير أسطورة »القرب«، التي يريد البعض أن يحولها إلى ما يشبه نشيدا رسميا لا تمل من ترديده الصحف، النخب، المثقفون ورجال السياسية: رجال »القرب«، أقصد بالعبارة. -التحدي الثاني يهم ضرورة الإدماج العميق والذكي للمقاربات الجيواستراتيجية والمقاربات السياسية والمقاربات السوسيواقتصادية داخل مجال ترابي وطني موحد.وعلى هذا المستوى، يجب الإشارة إلى أن إشكالية إقرار بناء جهوي جديد قابل للإنجاز تطرح بشكل سياسي بالنسبة لدولة مركزية، غير أنه لا يمكن في إطار هذه الإشكالية المعقدة أن يكون للبعد السياسي الأولوية المطلقة، ذلك أن الطبيعة الاقتصادية الواضحة للجهة تجعل من النموذج الاقتصادي(paradigme économique) العمود الفقري للبناء الجهوي المستقبلي. بحيث أن الجهات التي لا تتوفر على مؤهلات طبيعية وبشرية ولا على إمكانيات داخلية للتنمية ولا على سلطات جهوية راعية لمشروع جهوي مندمج في الاختيارات الوطنية وقابل للإنجاز في إطار استراتيجيات وبرامج تنموية، هي جهات محكوم عليها مسبقا بالفشل لكونها لا مستقبل سياسي واقتصادي لها. لذا يجب التأكيد عل أن أسس مقاربة مستقبلية لبناء جهوي جديد بالمغرب يجب أن ترتكز على تخصصات متعددة وأن تعمل على إدماج الأبعاد الوظيفية والقطاعية والديناميات الترابية، وعلى التوفيق ما بين مستويات من الاستقلالية يفرضها التنوع الجهوي والخصوصيات السوسيو ثقافية والتاريخية وما بين متطلبات احترام السيادة الوطنية والوحدة الترابية، وعلى تناغم المركزية واللامركزية في إطار ديموقراطية تشاركية وكذا الوعي بالرهانات التي تربط البعد الجهوي والأبعاد المحلية والوطنية والدولية. -IIIمقاربة مستقبلية لبناء جهوي جديد بالمغرب:دعائم وخلفيات السيناريو الإرادي تعتبر المقاربة المستقبلية لبناء جهوي جديد بالمغرب أن البناء الجهوي والبناء الوطني والدولتي متلازمين وغير منفصلين نظرا للتحديات الداخلية والخارجية. فمواجهة التحديات الداخلية تتطلب الاشراع الواسع لأوراش الحكامة الديموقراطية واللامركزية الترابية والسياسات الجهوية والتآزر الاجتماعي. وأما ربح الرهانات والتحديات الخارجية فيقتضي دولة قوية بمشروعيتها وقادرة على الدفاع عن ألوان الوطنية الاقتصادية من خلال الإدماج الايجابي لاقتصادنا في المجالات الاقتصادية المغاربية والمتوسطية والدولية ومتمكنة من تحصين المصالح الوطنية الاستراتيجية داخل التجمعات الجهوية وفي الهيآت الدولية. إن المنهجية التي سلكناها في تصور بناء جهوي جديد ببلادنا قائم على احترام مستلزمات السيادة الوطنية وعلى تعزيز واستكمال الوحدة الترابية، تعتمد على مقاربة مستقبلية لمنظور استراتيجي لأنماط الضبط الاجتماعي والمجالي وتعميق الحكامة الديموقراطية وبناء دولة حديثة وديمقراطية مؤسسة على الحق والقانون واحترام حقوق الإنسان وكذا توسيع المشاركة السياسية للمواطنين في تسيير شؤونهم وذلك في إطار تقوية وتسريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اعتمدت المقاربة المستقبلية للأسس الاستراتيجية لبناء جهوي جديد بالمغرب على ثلاث سيناريوهات اختيارية ممكنة : سيناريو الاستمرارية (الاختيار الادنى)، سيناريوالتغيير في الاستمرارية (الاختيارالوسيط) وسيناريو القطيعة (الاختيار الإرادي). فإذا كان السيناريو الأول يحمل في طياته بوادر اختلالات جديدة داخل الجهات وفيما بين الجهات، فإن السيناريو الثاني غير قادر على مواجهة تفاقم الاختلالات المجالية والفوارق الجهوية في غياب آليات للضبط الاجتماعي والمجالي ونظرا لضعف الهياكل الجهوية الحالية. لذا يتعين تفضيل السيناريو(الثالث) الإرادي للقطيعة مع التنظيم الجهوي القديم الذي سنتطرق إليه لوحده فيما يلي مع الاهتمام بمرتكزاته وبمخلفاته. ويؤسس هذا السيناريو الإرادي إلى وضع تنظيم جهوي جديد قادر على مواجهة التحديات الكبرى للتنمية في المستقبل على كلتا الجبهتين الداخلية والخارجية، ويحمل في طياته أربع أطروحات / مقاربات : وتركزالأولتين اللتين تحيلان على الديناميات الداخلية على خلق الجهة كجماعة ترابية لاممركزة وعلى بناء الجهة كمركز اقتصادي للقرار. أما الثالثة والرابعة المرتبطتين بالديناميات الخارجية فتهدفان إلى مأسسة الجهة كقطب ومكون للإندماج المغاربي وإلى إقرار الجهة كقطب للتعاون اللامركزي والدولي. ويجب أن يترجم هذا السيناريو الإرادي باختيار سياسي واضح لتكريس الجهة كجماعة ترابية لاممركزة ، تتوفر على الشخصية المعنوية والاستقلال المالي وعلى إسم ومجال ترابي وهياكل منتخبة بالاقتراع العام المباشر وتمارس السلطة التنفيذية في تدبيرها المستقل لشؤونها الجهوية ، وكحلقة مندمجة في إقرار ديمقراطية اقتصادية واجتماعية وسياسية وفي تحديث تنظيم وتسيير الدولة في علاقاتها بالمجال والاقتصاد والمجتمع. وسيرتكز البناء الجهوي الجديد على مبدإ تحويل مجموعة من الصلاحيات والسلط والوسائل (transfert de blocs de compétences, de pouvoirs et de moyens humains et financiers) المالية والبشرية من الدولة الأحادية إلى الجماعات الجهوية اللا ممركزة، بناء على اختيارات وتأطيرات مؤسسية وبرمجة زمنية لتقدم التحويلات يتعين حصر برمجتها الزمنية في إطار وضع قانوني وحيد. ولا يجب خلط هذا المبدأ مع مبدإ(principe de subsidiarité) الذي يتحكم في تنظيم الدول الأحادية ذات النزعة الجهوية وفي تنظيم الدول الفيدرالية. وفي إطار هذا المنظور الإرادي، ونظرا للحالة التاريخية للأقاليم الصحراوية ،يتعين اعتماد مقاربة موحدة لبناء جهوي جديد بالمغرب تتناسب مع تعدد وتنوع هياكلنا ومكوناتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والجغرافية والبشرية وهذه مقاربة نقيضة للمقاربة المعتمدة على «الهندسة المتغيرة» (Approche à géométrie variable) لكونها مصدر محتمل لتعقيدات في العلاقات ما بين الدولة والجهات ولزعزعة أسس الاستقرار الوطني. ويمكن لهذه المقاربة الموحدة أن تمزج وضعين : وضع عام يطبق على كل الجهات كجماعات ترابية لاممركزة، باستثناء الأقاليم الجنوبية المسترجعة التي ستخضع لوضع خاص بها يوفر لها استقلالية جهوية متقدمة ولكن مقننة ومراقبة بمجموعة من الضوابط المرتبطة بالسيادة الوطنية والوحدة الترابية. وهذان الوضعان اللذان يشكلان نتاجا لتوافق تاريخي يختلفان من حيث طبيعة ومستوى الاستقلالية ونمط تعبيرها المؤسساتي. فالاستقلالية الموسعة لا تعني الاستقلال أو الانفصال، بقدر ما تعني شكلا تعبيريا عن مبدإ تقرير المصير، علما أن الشرعية الدولية في هذا الصدد لا يمكن تحجيمها في أي حال من الأحوال، فيما يخص نزاع الصحراء، في القرار (XV) 1514 بتاريخ 14/12/1960 (الذي يتطرق لتقرير المصير في شتى أشكاله: الاستقلال، أو الشراكة أو الاندماج أو أي وضع سياسي آخر يتم اختياره، دون التأكيد على الاستفتاء)، بل تشمل من بين ما تشمل عليه على ميثاق الأممالمتحدة، وخاصة الفصلين السادس والسابع. ومن المؤكد أن المغرب الذي خضع لنظام الحماية لم يكن مستعمرة، وعليه كان من الأجدى أن يسترجع كل أراضيه عند استقلاله طبقا لمعاهدة الحماية التي تضمن استقلاله ووحدته الترابية، وطبقا لما تنص عليه المعاهدات الدولية. وإذا كانت الجماعات الجهوية اللاممركزة تخضع لمراقبة الوصاية التي تمارسها الدولة، فالجهات المستقلة تخضع بدورها إلى مراقبة الدولة المركزية على المستوى السياسي والقانوني والدستوري. ومن هذا المنطلق، فإن النموذج المغربي يجب أن يكون نتاجا للعبقرية المغربية وللهندسة الوطنية وأن يتوافق مع الشخصية المغربية ومع التطلعات المشروعة للأمة ، وأن يكون موضع استشارة سياسية وشعبية واسعة من خلال تثمين المنجزات المحققة والوقوف على الاختلالات والفوارق القائمة في ميدان التنمية الجهوية وعلى سبل مواجهتها بناء على أهداف واستراتيجيات وبرامج عملية، وذلك في إطار منظور استراتيجي شمولي للحكامة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والبشرية ولإشكاليات الضبط الاجتماعي والمجالي بالمغرب. وهذا يعني أنه بقدر ما يجب الإبتعاد عن نسخ تجارب الآخرين لأنها ثمرة مركبة لعوامل تاريخية وسياسية واجتماعية وسوسيو ثقافية، بقدر ما يجب الاستئناس بها والتعرف على مضامينها ونتائجها في الميدان لاستنباط تصور وطني حقيقي يلائم الشخصية المغربية والكيان الوطني والطموحات المشروعة للأمة. وفي هذا الصدد، يمكن للمغرب أن يعمد إلى استلهام ذكي للتجربة الفرنسية فيما يخص الوضع العام للجهة كجماعة ترابية لاممركزة، وللتجربتين الإسبانية والإيطالية بالنسبة للوضع الخاص المبني على تخويل استقلالية واسعة لأقاليمنا الجنوبية المسترجعة واستنباط العبر من التجربة الألمانية فيما يتعلق بالإشكاليات المرتبطة بالموازنة والتآزر المالي وبالتوزيع العادل للموارد المالية وبالبرمجة المالية المتعددة السنوات. ويستشف من الخطوط العريضة للمقترح المغربي الرامي إلى التفاوض بشأن تخويل نظام حكم ذاتي لجهة الصحراء أن هذا المقترح قد تم استنباطه من تجربة المملكة الإسبانية المعتمدة على نظام المجموعات المستقلة والتي يعترف دستورها بالعرقيات بعد الحرب الأهلية وفشل محاولة إقرار الجمهورية. إن اعتماد المشروع الجهوي الجديد الذي يمكن أن يشكل أيضا إطارا لاسترجاع سبتة ومليلية السليبتين، سيتطلب تعديلا للدستور الحالي وخلق هياكل لتنسيق وإدماج الأعمال الجهوية وتحديد ميكانزمات للتضامن والتآزر داخل الجهات وفي ما بين الجهات ومأسسة التعاون الخارجي للجهات وإعادة النظر في التقسيم الجهوي الحالي وترابطا اعمق ما بين اللامركزية وعدم التمركز و تناسقا قويا ما بين التخطيط الاقتصادي والاجتماعي وإعداد التراب الوطني على المستوى المركزي والجهوي .إن هذه المقاربة الإرادية لتنظيم جهوي جديد مبني على وضعين (double statuts) تدمج تماما متطلبات المبادرة المغربية المقترحة للأمم المتحدة خلال شهر أبريل 2007 من أجل التفاوض بشأن تخويل نظام حكم ذاتي لجهة الصحراء في إطار سيادة المملكة ووحدتها الوطنية وكذا آفاق إصلاح التنظيم الجهوي التي عبر عنها الملك محمد السادس في خطابه بتاريخ 6 نونبر 2008 والرامية إلى إقرار جهوية موسعة يصاحبها لا تمركز متقدم. وعليه فيمكن للمغرب أن يقرر في إطار ممارسة سيادته على أراضيه أن يطبق التنظيم الجهوي الجديد في الوقت الذي يراه مناسبا، وذلك بعد المصادقة على محتوى الدستور المعدل في إطار استفتاء شعبي.وعلى هذا الأساس، سيتطور المغرب الموحد تدريجيا نحو دولة جهوية في إطار مسيرته الهادئة نحو تحقيق انتقال ديمقراطي وسيشكل بذلك نموذجا يقتدى به بالنسبة للدول المغاربية الأخرى. -IVالنموذج الجهوي المغربي المستقبلي ومساءلة تجارب وتوجهات الدول المغاربية الأخرى. نعتقد جازمين أن النموذج الجهوي المغربي الجديد الذي اقترحنا محدداته وخطوطه العريضة يسائل تجارب الدول المغاربية الأخرى التي لا وجود فيها لفكرة الجهة كجماعة ترابية لاممركزة، باستثناء جزئي لتونس التي ترمز فيها فكرة الجهة إلى مجالس إقليمية استشارية يرأسها العمال وتشتمل على أعضاء منتخبين وآخرين معينين. ويضع هذا الاختيار كذلك عدة تساؤلات حول توجهات الدول المغاربية الأخرى في هذا المجال، خاصة الجزائر التي لم تعتزم بعد الدخول في إقرار دولة ديمقراطية ولاممركزة حقيقية بوجود جماعات جهوية مستقلة، ومازالت معرقلة لاتحاد المغرب العربي ومستمرة في زرع الخلافات وعدم الاستقرار في المنطقة بمنظور هيمني مكشوف بتدخلها المباشر في الصراع المفتعل في أقاليمنا الجنوبية المسترجعة تحت غطاء الدفاع عن حق تقرير المصير وعن تصفية الاستعمار، وهما وضعان لا يتطابقان بتاتا مع حالة المغرب الذي خضع لنظام الحماية الذي يعترف باستقلاليته وبوحدته الترابية، عكس الجزائر التي خضعت لنظام الاستعمار. وهذا تحريف للوقائع التاريخية وللحقائق المعروفة، لان المغرب ،الذي ساند الجزائر للحفاظ على صحرائها ووحدتها الترابية ولانتزاع استقلالها، هو الذي تضرر أكثر من الفترة الاستعمارية، بحيث أن أجزاء هامة من أراضيه اغتصبت منه إبان الحماية (على غرار الدول المجاورة الأخرى المتضررة) وتوجد حاليا داخل التراب الجزائري، بما فيها تندوف التي يستقر فيها البوليساريو. وإذا استمرت الجزائر في معاكسة وحدته الترابية، فمن حق المغرب أن يقوم بإلغاء اتفاقية الحدود مع هذا البلد ويطالب بإعادة ترسيمها بناء على حقوقه المشروعة وحدوده التاريخية المعروفة، وأن يعامل الحكام الجزائريين الحاليين بالمثل وذلك بإذكاء النعرات الاستقلالية لدى المناطق المقصية التي تطالب بحقها في تقرير المصير(مثل منطقة القبائل). فلى قيمة لمبدإ احترام الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية بالنسبة للمستعمرات السابقة إذا لم يتم احترام السيادة والوحدة الترابية للدول التي خضعت لنظام الحماية. ويضع هذا التوجه كذلك على المحك الإرادة الحقيقية للحكام الجزائريين في بناء المستقبل المشترك جهويا ووطنيا ومغاربيا ودوليا. فبناء هذا المستقبل المشترك ممكن على أساس احترام السيادة الوطنية والوحدة الترابية للدول وإقرار بناء جهوي وسياسات جهوية متكاملة على المستوى المغاربي تشكل فيه الجهات أقطابا للتنمية والشراكة والاندماج والتعاون اللامركزي على المستوى المتوسطي والدولي. وهذا يعني طي النزاع المباشر الذي افتعلته الجزائر مع المغرب إبان الحرب الباردة بشأن استكماله لوحدته الترابية، لأن المغرب موجود في أراضيه وقادر على إصلاح ذات البين مع أبنائه في الأقاليم الجنوبية المسترجعة في إطار بناء جهوي جديد. وهذا شرط أساسي لإعادة الروح لاتحاد المغرب العربي كإطار لتقاسم المنافع المتبادلة والدفاع عن المصالح المشتركة وتشكيل قوة تفاوضية وفضاء استراتيجي للتنمية والاستقرار والتعاون والشراكة الاورومغاربية والمتوسطية. وعلى هذا الأساس، فإن « إتحاد مغاربي للجهات الرابحة» سيشكل ورشا كبيرا ممكن الإنجاز خلال السنوات القادمة، وتنفيذه بالملموس لا يمكن فصله عن دمقرطة وتحديث الدول المعنية كل واحدة على حدة حسب مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحققة وطبيعة وأشكال تقدمها في الإصلاحات السياسية وذلك في علاقاتها بالمجال والمجتمع والاقتصاد، وبترابط مع تقوية اتحاد المغرب العربي والدفع به إلى الأمام كشريك للإتحاد من أجل المتوسط، علما أن المستقبل ستتحكم فيه أكثر فأكثر التجمعات الجهوية والتنمية المتآزرة وقيم الحكامة الديمقراطية والتعاون والحرية والسلام. ففي إطار تعميم النموذج الجهوي المغربي المستقبلي إلى الدول المغاربية الأخرى، نعتقد أن الاعتراف بسلطات جهوية قائمة بذاتها داخل الدول المغاربية الأخرى من شأنه أن يسهم ليس فحسب في دمقرطة دولها حسب طبيعة سيرورتها التنموية، بل كذلك في بلورة «اتحاد مغاربي للجهات الرابحة»، وكذا فتح آفاق لإعادة بناء جيوسياسي للمنطقة المغاربية على أسس إستراتيجية جديدة ولإنشاء إتحاد متوسطي مرتكز على الشراكات الإستراتيجية والتنمية المتآزرة والمعالجة الشمولية لمسألة الهجرة وكذا التدبير الجماعي للمنتجات العمومية الشاملة على صعيد الفضاء الاورو مغاربي والمتوسطي. (*)الاستاذ امحمد الزرولي، حائز على دكتوراه الدولة في علم الاقتصاد سنة 1996 حول موضوع: بناء الجهة الاقتصادية بالمغرب، وهو باحث مختص في شؤون الحكامة الديمقراطية والتخطيط الاستراتيجي والتنمية الجهوية. وقد صدرت له عدة كتب من بينها كتابين حول الجهة والجهوية بالمغرب، تحت عنوان: -(1990) الجهة الاقتصادية بالمغرب: أي مستقبل؟ -(1996) بناء الجهة الاقتصادية بالمغرب: دعائم ومستلزمات مقاربة مستقبلية.