عشية زيارتنا للمتحف القومي لمنطقة قوانشغي الذاتية الحكم في الجناح الجنوبي لنهر تشوان شين يوان، بمدينة ناننينغ ، تعاقبت على ذهني كل تلك المجسمات التي نقلت حضارة صينية بكاملها من مختلف القوميات المرصودة في ستة وخمسين قومية، يوجد بها اثنا عشرة قومية بمنطقة قوانغشي، وكل قومية بها تتميز بخصائص مختلفة عن الأخرى، وهي القوميات التي استفاض في شرحها مدير المتحف شي يوفي SHI Yoefey وترجم له من الصينية مرافقنا «رائد»، الذي ودعنا فور عودتنا إلى مطار بكين للدخول في برنامج سأعمل على تقريبه لقرائي الأعزاء برغبة أكيدة في مواصلة الكتابة عن فضاءات مازلنا لم نحقق فيها المتابعة،عن قرب، لعوامل كثيرة ينبغي تذويبها من أجل علاقات تشاركية فاعلة ومنتجة. لا أخفيكم قرائي أن إصابتي بزكام حاد ذلك المساء من اليوم الثالث لزيارتنا لمنطقة قوانغشي الذاتية الحكم، منعتني من حضور المحاضرة الثانية حول «إدارة الحزب الشيوعي الصارمة منذ انعقاد مؤتمره الثامن عشر والإجراءات التي تتخذها منظمات الحزب الشيوعي الصيني في منطقة قوانغشي الذاتية الحكم»، لكن توزيع المحاضرة مكتوبة في حقيبة الأوراق التي سلمت لنا فور وصولنا، مكنني من الإطلاع وقراءة ما قدمه المحاضر بصالون المكتبة بالمدرسة الحزبية من شروح حول الموضوع. فالحزب الشيوعي الصيني يتميز بإدارته الصارمة وتركيزه على الانضباط من أجل تعزيز بناء الحزب والوطن، من منطلق المحافظة على الزخم القوي، ومعاقبة المتخاذلين، ومكافحة الفساد، بدون توقف وبآلية الفحص والمراقبة، وبقيادة اللجنة العليا للحزب الموجود مقرها ببكين . ويرى القائمون على الحزب أن سياسته انعكست على أرض الواقع الموشوم بالفعل، بكل تلك المكتسبات التي لا يمكن تجاهلها. ورغم كل تلك الصرامة، فإن للحزب شعبية كبيرة في صفوف الشباب والكهول. وفي منطقة قوانغشي ذات الحكم الذاتي فإن الفحص والمراقبة دائمة الاستمرار، في الاستماع الدائم للجنة المركزية، واجتماع الأمناء والفرق القيادية في كافة المحافظات، من أجل تعزيز دائم للانضباط الصارم لقيم الحزب واستراتيجيته في المنطقة على نحو يشمل كافة المجالات . في ذلك المساء الرهيب الذي ارتفعت فيه درجة حرارتي، لم تتركني «لبيبة»، ظلت المسكينة في خدمتي على مدار الساعة، وفي كل عشر دقائق تفتح غرفتي لقياس حرارة جسمي التي ارتفعت إلى أربعين درجة جعلتني أتصبب عرقا مع احمرار شديد في بياض عيني، مما دفع الصغيرة «لبيبة»إلى مناداة الطبيب، الذي غير لي الدواء للمرة الثانية وبعدها ستكون الثالثة، حتى نزلت الحرارة إلى درجات معقولة رغم الألم الشديد الذي أصاب رأسي. أحسست بالفعل أني جد منهارة صحيا، والسبب كان «المكيف» العالي الذي كنا نجلس تحته، حيث يعتلي سقف القاعة،الساعات الطوال ، إنصاتا ونقاشا في الأوراش المفيدة التي غطت برنامج الزيارة إلى منطقة قوانغشي الذاتية الحكم. قلت مع نفسي وقد بدأت الحرارة تلعب بما تبقى في من إحساس بالحياة «ربما أتيت أطلب الموت في الصين بدل العلم، فعلم هؤلاء الذين أسسوا كل هذا الجمال نحتا في الصخر والشجر والأرض طلبوه منذ ملايين السنين، أو ربما أنا في الجنة ولا أدري، فلا يمكن أن تكون هذه هي الصين التي شنف مسامعنا بذكرها سوءا، تجار الخراب وممررو السموم بأيدي الشيطان الأكبر …» بدأت صور المجسمات التي توقفت عندها متصفحة إياها باهتمام خلال زيارتنا للمتحف القومي لمنطقة قوانغشي الذاتية الحكم، تتردد على ذهني، ومعها كل تلك الشروح التي بدا أن مدير المتحف متمكن من تفاصيلها، معجب حد قراءة انبهارنا بالطريقة التي رتب بها المتحف لتمكين الزائر من الوقوف عند مختلف القوميات في الصين الشعبية . كل شيء له امتداده، محفوظا، مرتبا، ملخصا وموشوما في الذهن للذاكرة الغنية بكل شيء. وفي كل تلك التفاصيل تجد الامتداد يتطور خارج المتحف، في إبداع المواطن الصيني الممتد في الماضي والمشتغل في الحاضر، والمتوجه للمستقبل، بصمت وصبر وعمل متواصل ومفيد وجدي. قال أحدهم إن الصينيين يبدون وكأنهم خائفون من شيء ما، قلت له مرحبا بالخوف إذا كان ينتج كل هذا البهاء، فالمخاض خوفا، والولادة تستحق أن نخاف في لحظاتها العصيبة، كي نلد ما نخاف عليه، إبداعا، جمالا، ووطنا نحلم به . فلتستمر أيها الخوف فينا، فبك نعطي القيمة للأشياء التي سنحيى من أجلها، في حضن من نريد أن نخاف عليه أكثر، وينبغي أن نفعل ذلك لأنه بكل بساطة الوطن الذي ينبغي أن يكون. تلك هي نقطة الضوء الكبرى التي شدتني بالفعل إلى مواطني هذا البلد، حاولت جاهدة أن أبحث في دوافعها، تساءلت مع نفسي وأنا أجمع كل تلك المشاهد في تساؤلاتي: هل هذا الخوف على وطن بهذه الطريقة عائد إلى كل تلك الصور من الذاكرة الحضارية الغنية التي يجرها هذا البلد، أم أن الأمر يتعلق بتاريخ الحروب وقسوتها، أم هو طبيعة المجال في منطقة وهبها الله الماء والجبال والطبيعة الخلابة، أم أن الأمر يتعلق بالفعل بإيديولوجية حزب أبانت أنها قادرة على تغيير الكون نحوها ، بقدرة فائقة في تكوين الإنسان المنتج في كافة المجالات، مجالات عنونت سطورها الكبرى بعوامل التنمية في فعل العقل المكون ضمن مخططات مدروسة وحكيمة. تساؤلات وجدت تفاصيلها في محاضرات قال فيها الخبراء المحاضرون من الصينيين، إن عامل الصرامة والجدية والتربية والتكوين الشامل- الذي وضع خطاطاته الحزب الشيوعي الصيني، انطلاقا من اشتراكية تتغذى من واقع الصين الشعبية وخصوصيتها- جعل الصينيين يرسمون أهدافهم في تقوية الذات، لبناء جسر الانفتاح على العالم بأسئلة مغايرة لكل تلك الساحات الأخرى التي بنت مجدها بتسويق الأوهام في الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحال أن لا حقوق للإنسان، إلا عند ذلك المنتصب شمالا، المغتصب لأهل الجنوب في مشهد عبودي مقزز، لا حق لنا فيه إلا بترديد الدرس وحفظه وتطبيقه بشكل عشوائي وغير مفيد، في غالب الأحيان، إلا عند من جعلوه على المقاس في مشهد الأضحوكة، وكأننا نريد أن «نحرث الماء، ونحن نصدق كالبلهاء أننا سنجني زرعا، فاكهة أو ثمارا، في الوقت الذي جنينا فقط اللاتكافؤ بين الشمال والجنوب، وجنينا الخراب في تطبيق «حرية وكرامة وعدالة « الدم، وجنينا الصمت أو كلمات المجاملة و»القشور» عندما نسأل عن حوار الند للند، دائرين في طاحونة لن تخرج إلا أجسادا منهوكة في زمن ديمقراطية «الهمبورغر».