غادرنا المدرسة الحزبية بمدينة نانيينغ في صباح ارتفعت الرطوبة فيه من شدة الحرارة، لكنه كان صباحا مميزا، تناولنا فيه فطور الوداع بمطعم تشوان شين يوان، بعدما سلمنا حقائبنا لسائق الحافلة التي ستوصلنا بعد ذلك إلى محطة القطار الموجودة في شرق نانيننغ للتوجه إلى شمال قويلين. لم يكن المطعم ذلك اليوم كباقي الأيام، فقد حرصت العاملات أن يخدمننا بضيافة مختلفة عن سابقاتها، تلاحظها في حركاتهن وطريقة تعبيرهن عن فرحهن بتواجدنا في مطعم المدرسة الحزبية. كنا نستقبل هذه العناية الفائقة بكثير من الامتنان، وكان بعضنا يعلق على كل هذا التواضع الذي دفع عاملات المطعم أن يهيئن خبزا شبيها بفطائرنا، وحساء قريبا من شكل حساء مطبخنا، احترما لأذواقنا، ورغم ذلك كان الكثير منا يحب أن يأكل من المطبخ الصيني، الذي قالت عنه مرافقتنا «وردة» التي سنتعرف عليها عند عودتنا لبكين، إنه أكل مناسب لإنقاص الوزن، وذلك هو هم الكثير منا. وصلنا محطة القطار، اعتقدنا أننا في مطار دولي، كل المواصفات شبيهة بذلك، المدخل، البهو، البوابات الإلكترونية، طريقة الحصول على التذاكر، وشكل هذه الأخيرة، والمدة الزمنية التي ينبغي الوصول فيها للمحطة قبل المغادرة، ناهيك عن إجراءات التفتيش، والتي خصت الأوراق والحقائب. ركبنا القطار في الوقت المحدد، لاحظنا احترام الدقائق، قالت إحدى عضوات الوفد المغربي إن «الزمن مقدس في الصين، وأعتقد أن هذا هو سر نجاح هذا البلد». دخلنا في حديث مطول داخل القاطرة، تلك التي سعتنا صحبة الوفد الصيني المرافق، حول مختلف ما شاهدناه في نانيننغ، كان البعض يذكر البعض بمختلف المحطات والأوراش، كنا نقارن بين الكلام والفعل، بين الجد والجد في سلوك الصينيين، وبين هذا الكل ومشهدنا السياسي والحزبي، والذي بدا أن بعضنا تحدث عنه بقسوة وانتقاد شديدين، والبعض الآخر أدخلنا في عامل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرجعيات الموجهة لذلك، سواء الثقافية أو الدستورية التي يؤسس فيها المغرب لمستقبل مغاير مبني على مسار طويل من التضحيات والنضال. تركت نقاش أعضاء الوفد، المميز بالفعل، جانبا، وأخذتني من ذلك النقاش الهام والعميق، تلك المشاهد الجمالية التي أتاحت لي نافذة القطار السريع الإطلاع عليها. كانت الجبال شامخة، ترتدي لباسا أخضر غطى قممها وأخمص قدميها، بدأت ذاكرتي تجرني إلى قمم الأطلس البيضاء في بلادي، وإلى وادي أم الربيع وواد سبو ورمال الصحراء، وإلى كل تلك الفضاءات الجميلة التي وقفت عند محطاتها مرارا في الزمن الذي مضى، والذي سابقت فيه زمنا نحو مستقبل أفضل لوطني، إلا أني تداركت أن الفضاءات العذراء في بلدي، تنتظر النحت في صخورها، كما تنتظر أياد بيضاء تلامس جمالها، ولا يمكن فعل ذلك إلا بمخططات كبرى ترفع الحصار عن معالمها، كما فعل هؤلاء الصينيون الذين أبهرونا بالفعل في طريقة اهتمامهم بجماليات الطبيعة لتكون الطبيعة في خدمة تنميتهم وتقدمهم وتطورهم. عرفت بعد ذلك أن قويلين هي مدينة سياحية متطورة، بها مرافق النقل المريحة، ويمكنك دخولها عن طريق الجو أو القطار أوالحافلة للمسافات الطويلة أو السفينة أو الاستمتاع بزيارة جميع أنحاء المدينة بمختلف وسائل التنقل، كما عرفت أن مناظر قويلين تتصدر الصين،»وهي مدينة ذات بيئة طبيعية جيدة و قد ساهمت حركات الأرض في ظهور غابات بها و جبال وكهوف وانهار جوفية متلائمة مع نهر ليجيانغ الجميل ومناظر القرى الخلابة مما يشكل «مناظر قويلين» التي تتسم بجمال الجبال والمياه والكهوف والصخور « . وصلنا مدينة قويلين بعد أربع ساعات ونصف من السفر عبر القطار السريع الذي انطلق من شرق ناننينغ في الساعة التاسعة والنصف صباحا ليصل إلى شمال قويلين في الساعة الواحدة والنصف ظهرا، وجدنا الحافلة في انتظارنا بنفس النظام والانضباط الذي عشنا تفاصيله في مدينة نانيننغ، توجهنا إلى فندق يونغ هو، وبعد الغذاء زرنا كهف لودي. قالت مرافقتنا إن تاريخ مدينة قويلين يرجع إلى ما قبل 2110 سنوات ويوجد فيها 109 مواقع أثرية على مستوى منطقة قوانغشي والصينب كاملها. وقويلين مدينة ثقافية بامتياز، فإضافة إلى طبيعتها الثقافية التي تضم الآثار والمسارح والمتاحف يوجد بها أهم الأدباء والشعراء والفنانين، وهم الذين تغنوا بمناظرها وتماثيلها البوذية في الجبال والكهوف، وصخورها المنقوشة بجبل شيشان. وقالت مرافقتنا التي ستودعنا في نفس اليوم لإحساسها بالتعب الشديد، إن أشهر مناظر قويلين قمة لوتاس وحديقة تشيشينغ ونبع لونغشانغ الدافئ وصخور لودي وجبل خرطوم الفيل ومناطق أخرى. لم أكتف بما جادت به ذاكرة المرافقة الجميلة والطيبة والصريحة، بل فتشت في دفتري مرة أخرى لأجد فيه أن مدينة قويلين تقع على الضفة الغربية لنهر لي، على الحدود مع هونان في الشمال، اسمها يعني "غابة أوسمانثوس الحلوة" ، وذلك بسبب وجود عدد كبير من عبق أشجار أوسمانثوس الحلو في المدينة. وقد اشتهرت المدينة منذ فترة طويلة بمناظرها الطبيعية والتضاريس الكارستية لتعد واحدة من الوجهات السياحية الأكثر شعبية في الصين وتبلغ مساحتها نحو 27809 كيلو متر مربع، و يتدفق نهر لي في جوانبها فيزيدها جمالا واخضرارا، ويتأثر مناخها بالرياح الموسمية الرطبة الشبه استوائية، شتاؤها معتدل و قصير، وصيفها حار وطويل، وربيعها غائم وممطر مثل صيفها، وفي قويلين لم يبهرنا كهف لودي بالتاريخ العميق الذي يجر وراءه، بل سندخل الجنة من بابها الواسع خلال زيارتنا للنهرين والبحيرات الأربع.