إن المتلقي للخطاب الشعري في نصوص القصيدة النثرية لدى الشاعرة (نبيلة حماني) (1) يلاحظ ذلك التناغم البديع الذي تميزت به النصوص في بناء هرميتها سواء على المستوى الخارجي/ التركيبي بما يتسم به من تلوينات لفظية تتشكل منها فسيفساء النص… أو على المستوى الداخلي/ دلاليا بما تحمله بنية اللغة من خبايا الصمت، تحتاج إلى استنطاق ما تخفيه في محرابها من درر البوح… وقفة على عتبات العناوين: لا مشاحة في أن الدارس المتلقي للخطاب الأدبي عموما والخطاب الشعري بمختلف روافده على الخصوص يفطن اليوم إلى ما أولته الدراسات النقدية المعاصرة من أهمية بالغة للعنوان / العتبة / بوابة النص – إن شئنا – في مقاربة النصوص… لذلك تميزت أغلب عناوين / عتبات قصائد الشاعرة ببناء لغوي متميز تركيبيا، اعتمدت في توليفه على المركب الإضافي كنواة جوهرية تلقي بتجلياتها على جسد القصيدة ككل في تناسق وانسجام، وذلك باعتبار أن المتضايفين يشكلان وحدة دلالية غير قابلة للانفصال، ومنها على سبيل المثال: (مشكاة الروح) و(على / حواف الروح) و(على / صراط الفناء) و(احتضار على / شفاه الليل…) والقائمة طويلة… وإذا ما اعتبرنا أن العنوان من النصوص الموازية التي تعد اللبنة الأولى في هيكلة النص، أو الإشارة الضوئية الوامضة التي تلقي بتجلياتها على جسد القصيدة، فإننا سنقارب في هذه الدراسة بعض النصوص من هذه الزاوية لكشف العلاقة بين العتبة / العنوان والنص / المتن… فمن خلال إلقاء نظرة عميقة بعض الشيء لسبر أغوار «ترانيم الوجع في محراب البوح» في النصوص المبسوطة أمامنا… نجد أن العتبة / عنوان النص «مشكاة الروح» حيث إضافة (الروح) للمشكاة باعتبارها كوة يوضع فيها المصباح الذي يصدر عنه النور وكأني بهذا العنوان رسالة للمتلقي بأن ما ستحدثنا عنه الشاعرة هنا هو ذلك الشعاع الروحي المنبثق من مشكاة ليست كأي مشكاة مادية فهي ذات إضاءة روحية معنوية متفردة لا حدود لضوئها في الزمان ولا في المكان.. هذا العنوان الإيحائي (مشكاة الروح) (2) ينشر ضوءه على جسد النص ككل في تناص داخلي مع مكوناته اللغوية والدلالية… إذ نجد تيمة العتبة (مشكاة) تربط علاقاتها الروحية بكل ما يحيل على (النور) ضمن نسقية نصية متشاكلة ومتباينة متقنة… لمخاطبة ماض جميل (كنت = تغازل… تحيل الدجى = تعيد للعهد حياة…) « كمشكاة نورها تلألأ وهجا في غياهب الروح.. كنت تغازل ليل نسكي تحيل الدجى فيوضات من نور» ……….. وظفت الشاعرة العلاقات المغايرة لما يصدر عن المشكاة من الأنوار الروحية مقابل ما قد يؤثر على الروح من ظلام دامس قد يعكر صفو الضياء… مثل «… في غياهب الروح… في محراب الآه… في سراديب الروح» واستعمال الأداة (في)(3) في هذه الجمل تفيد الظرفية المكانية وليس حرفا زائدا وكما هو ملاحظ فالكلمات الثلاث (غياهب، سراديب، محراب) عبارة عن أماكن مجازية مرتفعة عن المادية لارتباطها بالصفاء الروحي الصادر عن مشكاة تتلألأ متوهجة («… في غياهب الروح … في سراديب الروح») كما ترتبط أيضا بكلمات الآه الدالة على التوجع والأنين لحظة الإحساس العميق بالألم في قولها… «في محراب (الآه) رتلها تسابيح (أنّات)» يسافر من خلالها في زمن التيه والبعاد المفتقر لعلامات العودة والرجوع (إلى مسافات التيه)… وفي قصيدة (على صراط الفناء) (4) يلعب المركب الإضافي المكون لعتبة النص دوره الأساس كوحدة دلالية لا تعرف الانفصال في إقامة علاقة حميمية بين متضايفين (صراط + الفناء) علاقة مصيرها الزوال لأنه لا شيء أبدي… كما يرسم العنوان مع حرف الجر (على) خريطة الطريق التي تبسط تجلياتها على جسد النص ككل… من خلال مظهر الاستعلاء الذي يدل عليه حرف (على)… غير أنه استعلاء لحظي يصير إلى زوال بدليل الفناء المرتبط ب (صراط) وإذن هناك بداية ونهاية معنوية يرسمها العنوان المتصدر للنص في صورة لحظات متكررة.. من الزمن المعنوي تسير من الأعلى نحو الهبوط التدريجي إلى الأسفل.. كما يتجلى ذلك في المنطوق التالي للنص… «قد أقول لزمن أعدته للمرة الألف لحظة انفصام بين الشوق والأنين… لحظة تسامي الوجع… لحظة سيق حلمي لهاوية…» وإذن نلاحظ كذلك بسط الزمن النفسي يده ليجثم بكلكله على نفسية الناص / الشاعرة، فتنطلق ترانيم الوجع الممتد في لحظات تتكرر مثقلة بالوجع والأنين المتمثلة في ثلاث لحظات (لحظة انفصام، لحظة… الوجع، لحظة… الهاوية) تترجم تسلسل زمني للحظةِ الشعرية.. لحظة البوح.. وتتناسل الأحاسيس وتتوالد الانفعالات لتتدفق المعاني الوجدانية (في صمت) ولتعبّر بصدق عما يرجّ ويخضّ الخاطر… « في صمت… رجّني الوجع على صراط الفناء… هدهدني على مسافات الرجاء كان وهما حد الشهقة الأخيرة كان صوت بوح زلزل صرح الأوهام… مزق شمس الإشراق فيه رمى لعيني بصك النهايات ….» وهكذا يتلقى القارئ وهو يحاور النص من بدايته إلى نهايته، معجما من الكلمات (أفعال وأسماء) ضمن حقل دلالي تتوحد ضمنه الرؤية الكونية للشاعرة (رؤيا للعالم).. ومن خلال سيميائية العنوان (على صراط الفناء) باعتباره نصا موازيا يتصدر جسد المتن نجد تيمة «الفناء» / البؤرة.. تربط جسورها وعلاقاتها بمعجم متنام من المفردات الموحية والدالة على معاني الزوال والهلاك والفناء… من ذلك ما هو وارد في النص كالتالي.. معجم الأسماء: (الأنين – الوجع 1 – الفناء – الشهقة الأخيرة / الاحتضار – صرح الأوهام – صك النهايات – الذهول – الآه – الوجع 2..) معجم الأفعال: (رجّني – هدهدني – زلزل – مزّق – رمى – يهدر – يطفئ – يمزّق – تنوح – تنزف..) ومن خلال النص: (احتضار على شفاه الليل) (5) تتربع تيمة «الاحتضار» على عتبة النص لترخي بظلالها على جسد القصيدة باسطة تجليات دلالات الاحتضار عليه، في تصوير مبهر يرقى بشعرية النثر ويسمو بجمالية التصوير.. هذا الاحتضار الذي اختارت له الشاعرة، دلاليا: مكانا معنويا هو (شفاه الليل) المرتبط تركيبيا: بحرف (على) قبله يفيد (الاستعلاء المعنوي) (6) أو الفَوْقيّة وقد يفيد أيضا (الظرفية الزمنية ك – في -)(6) ليصبح المعنى (احتضار في زمن الليل) كل ذلك للتعبير عن لحظة بل لحظات الاحتضار القاسية التي تعيشها النفس الإنسانية عند النزع الأخير وتساقط أوراق الاخضرار والحياة.. وقد أفلحت الشاعرة في تصوير معاني الاحتضار زمنيا بالتدرج من أعلى إلى أسفل موظفة بذلك معجما من الكلمات المصاحبة المتعالقة بمضامين تيمة الاحتضار ضمن بنية متناسقة أنجبت هذا النص… «يغشى اللحظة وجوم خريف حزين تنسكب شلال وريقات باعدتها الحياة تسائل نفسها عن جدوى الذكرى عن اخضرار مر كحلم هارب تسائل الغصن العاري منها عن مستقر ما عاد وطنا» ………………… ثم لحظة ما قبل الاحتضار ليأتي التعبير البارز لتصوير اللحظة الجارحة للاحتضار في خط تنازلي متوازية مع نهاية النص وكأنها لحظة احتضار القصيدة في توحّد الصوت والكلمة واللحظة الشعرية مع معنى الاحتضار.. «تعفرت اللحظة بركام الآه والوجع بانقضاء الحنين على جدع الزمان تعفرت من تفاهة المآل كان البعد إبرا صادمة احتضرت على شفاه الليل اغتالها انتظار لحظة شهيدة فمن يا ترى يذكر سحر معانيها خضرة دواليها وهل تنصف حكمة الزمان لحيظة أفنتها سهام وهم وألم انتظار» ويلاحظ المتلقي الاستعمال المتكرر لمفردة (لحظة) في تسلسله التنازلي للدلالة على الاحتضار النفسي والوجداني والروحي في المتن، بعدما تكررت في شموخها ثلاث مرات (اللحظة).. يغشى اللحظة… تعفّرت اللحظة… لحظة شهيدة… لتنتهي هذه اللحظات في تسلسل يتهاوى نحو الانحدار نحو الفناء.. تلك النهاية المحتومة المثخنة بالوجع وألم الانتظار، وقد لعبت اللغة دورها الجمالي والتعبيري والدلالي في تصغير كلمة (لحظة) الى (لحيْظة) لتصوير الاحتضار يؤكدها الفناء.. «لحيْظة أفنتها سهام وهم وألم انتظار» هذه اللحظة التي تمخضت عنها وحولها تساؤلات جمة و(عنعنات نفسية) – إن صح التعبير- مشحونة بتراكمات الوجع، ومثخنة بالجراحات والآلام.. هي إن شئتم (لحظة هاربة من الليل) (7) وهي التي نسجت سبيكة هذا النص الوجداني العميق.. بتساؤلات مؤرقة امتطت فيها الشاعرة نبيلة حماني جمالية أسلوب التكرار للتعبير عن مخالجات النفس والتأثير في المتلقي بما يحمله من معاني الإلحاح.. ….. «كانت تسائل نفسها عن حكايا السندباد والبحر.. تسائل عيني عن ضياع لمعتها.. تسائل زمن اغترابي عن سر الذهول والذبول وتشظي الأمل.. عن صمت الدمع عن علوقه بالمقل كانت الاحلام تومئ للبدر تسائله عن خفوت النور.. عن حزنه الدفين على أعتابي.. عن الصمت الغريب بأزماني.. عن شوقه للنجوم منذ الازل.. كانت تسائله عن السكون عن التشظي سرابا خلف أبوابي.. عن البسمة والألم.. عن جفاف النبع الثر عن زمانه القلق إذ رآني..»(7) ……… فلم يكن التكرار هنا في هذا النص حشوا زائدا ولا كلاما اعتباطيا، بل جاء بناءً تركيبيا وجماليا ودلاليا.. فعلى المستوى التركيبي والجمالي شكل التكرار (فسيفساء المتن) بأداة (عن) مع المفردة الواقعة بعدها فكان البناء المعماري للنص يزخر بتلوينات جذابة وكأنها جدارية مزخرفة بقطع صغيرة منضدة ومنسقة.. وعلى المستوى الدلالي فإن تكرار الأداة (عن) (14 مرة) جعل من القصيدة محرابا للبوح يتردد فيه صوت الوجع والأنين الذي يعكس صدى النفس الإنسانية بما تضمره من أحاسيس ومشاعر دفينة.. ومن أسرار هذه الأداة (عن) المتوجع بها في هذا النص، أنها مكونة من حرفين (ع) و (ن) فحرف العين يعتبر عند أهل الاختصاص من (أنصع الحروف جرسا وألذها سماعا) (8) كما تعتبر النون ذلك الإناء العاطفي الشفاف الذي يترجم نغم الحزن المتدفق المنساب بلطف من مخرج الخيشوم يتماهى فيه الوجع والحزن والتساؤل والإلحاح.. وكما أن تأثير أداة الجر (عن) بكسر جميع الأسماء الواقعة بعدها يحيلنا إلى دلالة الانكسار النفسي الناجم عن شعور الإنسان بغياب محبّين خُلصاء.. وقد صوّرت الشاعرة هذا بعمق في تساؤلاتها متمثلة في تكرار كلمة (تُسائل 5 مرات) للدلالة على الإلحاح في بعده النفسي، بعد أن حدثتنا عن الأحلام وهي تقف مكشوفة عارية والفرح ساخر منها كلوحة ذابلة.. في موجات مترددة ومتكررة بلغة راقية تقول: (كانت تسائل نفسها عن حكايا… عن ضياع… عن سر الذهول والذبول وتشظي… عن صمت الدمع… عن علوقه.. عن خفوت النور.. عن حزنه الدفين.. عن الصمت الغريب.. عن.. وعن.. وعن..) بعد هذا كان الصمت المجلجل في المكان، هو الجواب المعبّر عن (رجع الصدى) الذي ترددت ترنيماته في مكامن النفس ليتفجر بالوجع في محراب البوح.. فلم يعد للحياة معنى، بعد الصمت وبعد الذبول.. «كان الصمت بوحا وكان الذبول يكشف ما تستره المعاني.. فما عاد للنرجس طيف ولا تمايل النارنج فواحا على غصن الحنين.. ما عاد للزلال هدير.. ولا الورد احتمل العطش بجناني كان صخرا غيب سحر الحلم فلا القول يغري ولا تمايلت العروش بعذب النغم صادف النبع صخرا حال بين الزهر وعطره فلا رحيق لا رذاذ يسقي ظمأ الأمنيات..» (7) ولو أردنا سبر أغوار مظاهر الجمال، وتدفق المعاني الروحية، والنفحات الوجدانية.. وتتبع الأساليب اللغوية في هندسة البنيات التركيبية والدلالية وبسط تجليات عتبات المتون عليها، وكذا تناسل القيم الإنسانية التي تزخر بها نصوص الشاعرة… لما وسعنا المقام لذلك… أتمنى أن أكون بهذه القراءة المتواضعة، قد وفقت إلى حد ما في استكناه بعض مضامين نصوص شاعرتنا الشامخة نبيلة حماني…
هوامش: (1) نبيلة حماني: شاعرة، رئيسة لمعهد صروح للثقافة والإبداع» ، الناطق الرسمي لجماعة عرار للأدب والثقافة والشعر العربي والنبطي والشعبي وعضو رابطة كاتبات المغرب، وعضو في عدة جمعيات تهتم بالإبداع والثقافة داخل الوطن وخارجه.. (بتصرف عن حوار أجراه معها الكاتب والباحث الدكتور أحمد محمود القاسم..) (2) نص «مشكاة الروح» نشر بتاريخ 19/06/2015 بالمجلة الإليكترونية.. (عاشقة الصحراء..) (3) أنظر (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) لابن هشام الأنصاري / دار الفكر / ط 5 / صفحة 233 (4) ديوان… «احتراق في وريد الصمت» للشاعرة نبيلة حماني / مطبعة وراقة بلال / الصفحة 14 (5) النص منشور في موقع (الصومعة الأدبي) 06/05/2015 (6) أنظر (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) لابن هشام الأنصاري / دار الفكر / ط 5 / صفحة 190 و191 (7) قصيدة: (لحظة هاربة من الليل) منشورة في مجلة أضواء المصرية بتاريخ (18/04/2015). (8) أنظر لسان العرب لابن منظور (حرف العين).