فأثناء الثورات والانتفاضات السياسية في العديد من البلدان العربية حوَّل الثوار مفاهيم إدوارد سعيد إلى شعارات لهم، وتحولت كلماته إلى كتابات على جدران بنايات تونس وشوارعها خلال ثورة الياسمين. وبذلك لم يسقط الناشطون النظام فحسب بل وأسقطوا أيضاً الأطروحة القائلة بأن أفكار إدوارد سعيد مقتصرة على «الأوضاع القائمة» أثناء حياته وأن أفكاره عبارة عن مفاهيم جامدة وتأويلات مؤسساتية. وهي أطروحة اعتبرت إدوارد سعيد مرتبطاً بمجموعة معينة ومحددة من المفاهيم التي سنَّتها سلطة الأوساط الأكاديمية وبعض النقاشات الفكرية. وتشير شبلي إلى إحدى محاولات إدوارد سعيد الأساسية، التي يمكن تتبعها واقتفاء أثرها في جميع أعماله ويبقي ارتباطها وثيقا بالقضايا الراهنة، سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية، تتجاوز المنطق الثنائي في العلاقات المتضادة. وهو منطق بات يهيمن للأسف على منهجية تحليل العلاقات الاجتماعية وعلى طريقة فهم التفاعلات فيما بينها. وأبسط مراتب هذه العلاقات المتضادة هي علاقة ال «أنا ضد الآخر» أو «نحن ضد الآخرين» (أياً كان هذا ال أنا أو هؤلاء ال نحن). وهذا هو ما ينتقده إدوارد سعيد ويصفه بالإشكالي مرارا وتكرارا. فخلال جهده الساعي لتجاوز الانقسامات البينية بحث إدوارد سعيد في مفاهيم مثل المعرفة والسلطة والتمثيل والمكان والزمان والسفر. وبما أن العديد من أفكار إدوارد سعيد باتت معروفة تمام المعرفة، مثل نقده للاستشراق وبحثه وتحقيقه في العلاقة بين الثقافة والإمبريالية، فسيتم فيما يلي ذكر معالجاته الأقل شهرة والأكثر شخصية لما تقدم ذكره من مفاهيم. في البداية يمكن ذكر ما يكتبه إدوارد سعيد عن نفسه في مذكراته المعنونة «خارج المكان Out of Place» التي ألفها عام 1999. وفيها يكتب عن كونه فلسطينيا وأميركيا في الوقت ذاته، وله لغتان هما العربية والإنجليزية وكلتاهما بمثابة لغته الأم على حد سواء، لدرجة أنه لم يكن قادرا على فهم الفصل بينهما. وهذا النوع من الكينونة يمكن رؤيته في الوقت الحاضر بشكل متزايد: فالغرب وبالتحديد في منطقته الشمالية باتت تسكن في أوساطه جاليات كبيرة من المهاجرين غير الغربيين لأول مرة في التاريخ. وفي ظل هذه الظروف، كما يذكر إدوارد سعيد في ملاحظاته، يصبح تعريف الثقافات والمجتمعات شديد التغير والتقلب وفي غاية الإثارة للجدل. وتوضح شبلي أن تعريف الثقافات والمجتمعات ينبغي أن يتم تعديله بمعرفة ما يطلق عليه إدوارد سعيد مصطلح «الثقافة المضادة»، وهي مجموعة متكاملة من الممارسات المرتبطة بأنواع مختلفة من الغرباء. ولا يقتصر هؤلاء الغرباء على المهاجرين بل يشملون أيضا الفقراء والفنانين البوهيميين [المتخذِين أنماطا سلوكية غير مألوفة] وكذلك العمال والمتمردين. ومن المهم هنا أيضا ملاحظة أن إدوارد سعيد جادل، عبر طروحات الفيلسوف الاجتماعي [المناوئ للاستعمار] فرانز فانون، جدالا فعالا لصالح الوعي الاجتماعي بدلا من الوعي القومي، الذي يرى إدوارد سعيد أنه تأكيد على العودة الرجوعية إلى انفصال الهوية الاستعمارية عن الهوية الوطنية. وتتضح رغبة إدوارد سعيد في السعي إلى الوعي الاجتماعي بدلا من الوعي القومي جليةً في دعوته إلى حل الدولة الواحدة لقضية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وأيضا سعيه إلى تعديل تعريف الكونية [المبادئ التسامحية] نائياً بها نأياً تامّاً عن الإمبريالية.