يعلمنا تاريخ الأفكار ،كما يرى ميشال فوكو أن المعرفة خلقت للحسم والقطع، فلا وجود لاستمرارية متعالية عن الزمان والمكان.تاريخ الثقافة إذن هو تاريخ قطائع معرفية ?ابستملوجية- .إنها استمرارية محكومة بجدل الاستمرار والتجاوز ،وقد كتب ميشال فوكو بهذا الصدد قائلا: «عندما نقول أن تشكيلة خطابية ما تحل مكان أخرى ،فإننا لا نعني بذلك أن عالما بكامله من الموضوعات والعبارات والمفاهيم والاختيارات النظرية الجديدة تمام الجدة،انبجس بكامل قواه وأعضائه،تام النظام والترتيب ،داخل نص ينصبه ويرسي دعائمه بصورة نهائية.بل نعني أن تحولا عاما طرأ على العلاقات،دون أن يصيب بالضرورة كل العناصر،وان العبارات أمست تخضع لقواعد تكوين جديدة».(1). والحال،أن هذه الجدلية المحكومة بالاستمرار والتجاوز في تاريخ الثقافات العالمية وصيرورتها التاريخية، مرهونة أيضا،بنقد معرفة السلطة المهيمنة ،إذ لا وجود لسلطة دون معرفة،والعكس صحيح(2)،ففي إنتاجها للمعرفة ،وهدا ما ينبهنا إليه إدوارد سعيد،تُمَسرح Théatralisation السلطة معرفتها عبر الاستثمار السياسي للأجساد.وعلى هذا المسرح يحصر أفراد المجتمع في الزمان والمكان،و يتعين عليهم «أن يمثلوا الكل الأوسع الذي ينبع منه»،إذ لا تتوقف «عين السلطة»L'oeil du pouvoir ،كما يقول فوكو،عن مراقبة الأفراد ما إن كان ما يفعلونه قانونيا أم لا، بل إنها تراقب ما هم مقدمون على فعله وما بمستطاعهم فعله في الزمان والمكان،ولنقد هده السلطة ومعرفتها يتعين التموضع خارج معرفة السلطة لإنتاج معرفة مضادة بغية تفكيك نسقها وآلياته المعرفية. هذه رؤية نقدية بدأت تتخلل المشهد الثقافي العربي كقناعة ثقافية و تاريخية لدى المثقف العربي بعد هزيمة 1967،عندما أصبح سؤال القطيعة أطروحة مركزية تؤثث في العمق خطاب المثقف العربي في نقده للوضع العربي المتأخر ثقافيا وتاريخيا وسياسيا،وبعبارة أوضح،لا يمكن إنجاز حداثة دون قطيعة مع الأسباب التي تنتج وتعيد إنتاج- خطاب الأزمة في المجتمعات العربية.إذ يتعين» للمسألة جذورها السياسية والتاريخية،والمتمثلة في كون المثقف العربي كفرد وككاتب يشعر،وهذا مما لا يدع مجالا للشك، يعيش في دولة عربية سلطوية ، رغم مظاهر الحداثة السياسية والمؤسساتية التي تبدو عليها،لم تجعل المثقف العربي ينظر إليها على أنها مجال لتربية النوع الإنساني،والسمو به من رق الشهوات إلى حرية العقل.(3).ومن تم يتعين ،كما يرى ادوارد سعيد، الإيمان»بالأثر الحاسم،الذي يتركه الكتاب الأفراد على الجسد الاجتماعي»(4)،فالكتاب ،» لا يتحددون بصورة آلية بالعقائدية(الإيديولوجية) أو الطبقة،أو التاريخ الاقتصادي بل هم كائنون إلى حد بعيد في تاريخ مجتمعاتهم ويتشكلون بذلك التاريخ وبتجربتهم الاجتماعية بدرجات متفاوتة».(5) من يقرأ أعمال كتاب عرب كبار كعبد الرحمان منيف ومحمد شكري وصنع الله إبراهيم وحيدر حيدر و محمد زفزاف وكوليت خوري وسلوى بكر وغائب طعمة فرمان والطيب صالح وغيرهم من الروائيين،لا بد و أن يستحضر تلك الأطروحة المركزية التي صاغها ادوارد سعيد حول المثقفين في دول العالم الثالث ،وهم مثقفون ناذرون،»يرجعون التصرفات البربرية الراهنة والطغيان والانحطاط في بلدانهم إلى تواريخهم الأصلانية ذاتها،وهي تواريخ كانت على درجة من السوء ثم انقلبت عائدة إلى حالتها السالفة بعد الاستعمار»(6). إنها وضعية تاريخية،كما يرى إدوارد سعيد، تقتضي الإيمان بثلاث سلطة ذات أهمية معرفية وتاريخية في التعبير الأدبي بشكل عام والتعبير الروائي بشكل خاص: وهذه السلط، هي سلطة المجتمع وسلطة المؤلف-الكاتب وسلطة السارد والراوي. 1 - سلطة المجتمع»يمكن أن تكون العائلة وقد تكون الأمة التي ينتمي غليها المؤلف ضمن شروط تاريخية محددة».. 2 - سلطة المؤلف»شخص ما يدون حركية المجتمع وعملياته بطريقة مقبولة،يراقب الأعراف والتقاليد ومتبعا الأنساق». 3 - سلطة السارد-الراوي- الذي يرسي خطابه السردية في ظروف قابلة للتمييز،وهي ظروف لها دلالتها الايحالية والوجودية. (7). وإذا كان ميشال فوكو في كتابه العظيم «الكلمات والأشياء» قد كشف عن دور الابستيميEpistémé في تشكيل الجهات المعرفيةModalités cognitives التي تتحكم في تفكير حقبة تاريخية ما وإنتاج معارفها،فإن إدوارد سعيد يخالف ميشال فوكو قائلا:»»بيد أنني على خلاف من ميشال فوكو الذي ندين لعمله بدين واضح بالأثر الحاسم الذي يتركه الكتاب الأفراد على الجسد الاجتماعي»(8). وبعبارة أوضح إن التأثير متبادل بين الابستيمي والكتاب،إذا كان الأول يحدد ويرسم الحدود بين ما يفكر فيه Le pensable وما لا يجب التفكير فيهL'impensable ،فإن الكتاب لهم دورهم في التأثير في الجسد الاجتماعي وبالتالي في خلخلة الشفرات الثقافية المهينة في حقبة تاريخية ما والعلاقة القائمة بين الدال والمدلول ، ونحن نعرف إلى أي حد قوض نص دون كخوته هذه المعادلة الميتافيزيقية في تاريخ الثقافة الأوروبية. إن المثقف والكاتب العربي سواء كان روائيا أو فيلسوفا أو مؤرخا أو سينمائيا أو مسرحيا... كائن ينتج خطابا ومعرفة- مضادة ضد نسق لغوي يكرس سلطة النموذج.لغة تؤمن وتنتحل مطلقها الخاص،لغة تحدد للعربي طرائق الكلام في الشارع والمدرسة والإدارة والأكل والشرب وطريقة الجماع والنوم.لغة وثوقية لا تتكلم إلا مطلقها الخاص.ولا تؤمن بالممكن في صيرورة حياة الأفراد. وكما يرى إدوارد سعيد»يتعين على المرء إذن أن يربط بنيات القصة المسرودة بالأفكار والتصورات والتجارب التي تستمد منها الدعم،ذلك أن هناك علاقة جدلية بين النص والكاتب المفرد والتشكيل الاجتماعي المعقد والمتشابك الذي يمثل عمله إسهاما فيها. هدا يعني أن الروائي العربي في إنتاجه للمعرفة ?المضادة لمعرفة السلطة العربية وشفراتها الثقافية والسياسية المهيمنة يفكر من داخل سلطة ثقافية يقتضي الأمر تفكيك شفراتها المهيمنة والمتنوعة،وتتحول هده المعرفة إلى تشخيص-مضاد Anti-représentation لتشخيص السلطة، و يثبت تاريخ الرواية العربية أن الصراع بين هاذين التشخيصين يتخذ له تجليات سردية متنوعة ، يتحول ميتا-نص الاختلاف إلى بينة عميقة تنظم تجلياته السردية.وهدا يعني أن التفكير في نصوص روائية كبيرة من قبيل» شرق المتوسط» و»خماسية «أرض السواد» لعبد الرحمان منيف و»الخبز الحافي» لمحمد شكري و «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر و «المركب» لغائب طعمة فرمان و» موسم الهجرة على الشمال» للطيب صالح و»باب الشمس»لإلياس خوري وغيرها من النصوص الكبيرة في تاريخ الرواية العربية ،معناه التفكير في سؤال»السلطة والمعرفة « في تاريخ الرواية العربية . إنها نصوص يتحول فيها المتخيل إلى ميدان لاشتباك معرفتين متضادتين،تسعى معرفة الروائي العربي إلى تفكيك ونقض نسق معرفة السلطة العربية.إن السلطة العربية تتقدم في هده النصوص كمرسل متعال يمسرح سلطته في الزمان والمكان ،عبر استثمار الجسد بمحتوى قيمها السلطوية،أي أن الأفراد يتحولون إلى أشكال يتوجب عليهم أن يلعبوا الدور الاجتماعي المحدد قبليا لتبقى عين السلطة تراقب حركاتهم وتنقلاتهم اليومية في الزمان والمكان،والحال أن الرواية العربية في النصوص المشار إليها آنفا، وغيرها من النصوص ،تنتقد هده المقولة الوجوديةCatégorisation éxistentielle القبلية للوجود،عبر تفجير مقولات نسق السلطة العربية من الداخل. ففي رواية «الخبز الحافي»لمحمد شكري ،وهي بالمناسبة رواية مازالت المؤسسات الثقافية العربية الرسمية والدينية، ترفض تدريسها وبرمجتها في مقرراتها الأدبية،تشتبك معرفة الذات ومعرفة السلطة الأبوية في الزمان والمكان،لينفتح السؤال على إرادة الفرد والسلطة و رفض طرائق صوغها القيمي لهوية الذات التي تذهب بتحديها إلى أقصى الدرجات أما في رواية «شرق المتوسط» يفجر عبدالرحمان منيف نسق سلطة الاستبداد الشرقي المدعم بالتكنولوجيا الحديثة وتسعى إلى دق إسفين في بنيانه كما يرى الروائي السوري الراحل هاني الراهب،للكشف عن سادية الدولة العربية و طرائق تدميرها السياسي والاجتماعي والسيكولوجي لصوت الاختلاف،واستبعاد كلمة»لا» من قاموسها السياسي،هذه ال»للا» التي يمجدها أبطال عبدالرحمان منيف ،سواء في رواية»الأشجار واغتيال مرزوق» أو»شرق لمتوسط» أو»الآن هنا ...أو شرق المتوسط مرة أخرى» و»حين تركنا الجسر»،كما أن المتخيل في رواية»وليمة لأعشاب البحر»لحيدر حيدر يتحول إلى مواجهة بين نسقين تجترح من عمق الاستبداد تأسطر السلطة ،ويبقى كل من مهيار الباهلي وفلة بوعناب،شخصيتان تشهدان عن تراجيدية الموقف،الأول شخص شيوعي انتهى به المطاف هاربا من القمع إلى جزائر ما بعد الثورة ،هذه الأخيرة تحكي هي الأخرى عن سرقة الثورة من طرف العسكر والبيروقراطيين ليكتمل نشيد المأساة والذي لم تتوقف رواية»وليمة لأعشاب البحر» عن ترديده مدينة بذلك زمن السلطة العربية الأسطوري. عود على بدء: صفوة القول يدعونا إدوارد سعيد نحن العرب إلى موقعة النقد العربي في إطار النقد المابعد الكولونيالي، ذلك أن التفكير في نصوص الروائي العربي الذي ينتمي إلى هذه الجغرافيا المسماة العالم الثالث، يقتضي النظر إلى المتخيل الروائي العربي من رؤية منهجية تقرأ الجمالي على ضوء التاريخي والسياسي.فالروائي العربي يكتب من داخل سياق ثقافي وتاريخي لم يسم فيه مفهوم الفرد إلى مرتبة المقولة الديمقراطية والحقوقية والمدنية لأسباب متنوعة يتداخل فيها ما هو نفسي بما هو اجتماعي وانتروبولوجي واقتصادي وثقافي.أي أن أسباب تخلف الإنسان الذي تكتب عنه الرواية العربية يعود إلى التاريخ الاصلاني للشعوب العربية،وتحديدا إلى نظرة السلطة العربية إلى الفرد العربي نظرة حجر ،تعتبره مواطنا-طفلا لم يبلغ سن الرشد، وبمستطاعه أن يعبر عن رأيه بكل حرية واستقلالية، وها هنا كما يرى ايمانويل كانط،يكمن لب جوهر عصر الأنوار.والحال أن الكاتب العربي يعرف أن :» المشكلة المحددة التي يواجهها المفكر هي أننا نجد في كل مجتمع «جماعة لغوية»، بمعنى أنها جماعة تكونت لديها عادات معينة في التعبير، من وظائفها الرئيسية الحفاظ على الوضع الراهن والتأكد من تصريف الأمور بيسر، ودون تغيير، ودون أن يطعن فيها أحد..»(8). Michel foucault-Larchéologie du savoir-ed Gallimard-1969-p67.. 1-Michél Foucault - ميشال فوكو،»حفريات المعرفة»،ترجمة سالم يفوت،المركز الثقافي العربي،ط1، 1986،ص165. .2 - Surveiller et punir. Naissance de la prison. Gallimard. 1975. p.p 34. 3-عبدالله العروي،مفهوم الدولة،المركز الثقافي العربين1981،ص184. -Edward said.L'orientalisme-L'orient cré par l'occident -4 Traduit de l'américain par Catherine malmoud .Ed seuil-2003.p33. 5-ادوارد سعيد»الثقافة والإمبريالية»،ترجمة كمال أبوديب،ط2،1998.ص66. 6 -نفسه، ص169. 7 -نفسه، ص ص145. 8 -الاستشراق،نفسه،ص37، 9 -ادوارد سعيد، «المثقف والسلطة»، ترجمة وتقديم الدكتور محمد عناني، رؤية للنشر، 2006، ص65-66.