بداءة، وللحق أقول، إن المشهد الروائي المغاربي، فقد مؤخرا اسما أكثر من واعد في سماء الرواية الجزائرية بصيغة المؤنث، إنها الروائية ديهية لويز وعن سن تناهز 32عاما، وهكذا هي بعض النماذج من المبدعين الأصلاء والأصفياء يغادروننا باكرا، وأعتقد أن الفقيدة ديهيا لويز، واحدة من هؤلاء المبدعين الأصلاء والبروميتيوسيون، يرحلون فجأة وفي قلوبهم صناديق سوداء تنام على أسرار غامضة، والكثير مما يستحق الانتباه والبوح اعترافا واستحضارا لروح الفقيدة وعوالمها الثرية والبهية للراحلة، سنلامس بالتحديد ملامح البوح في روايتها الثانية «سأقذف نفسي أمامك» الصادرة منشورات «ضفاف» و»الاختلاف» 2013 بعد روايتها «جسد يسكنني» الصادرة عن دار ثيرا العام 2012، كما ساهمت في مجموعة قصصية باللغة الأمازيغية مع عدد من الكتاب الجزائريين والمغاربة والليبيين، وحازت في 2016 على جائزة محمد ديب للرواية في اللغة الأمازيغية ، وشاركت في العديد من التظاهرات الأدبية بالجزائر وخارجها وخصوصا بالإمارات العربية المتحدة، ثم أخيرا روايتها «إيروتومانيا» التي بدأت كتابتها العام الماضي ورحلت من دون أن تنهيها. يلاحظ المقبل على غلاف الرواية اختيار الراحلة أن تقذف بنفسها في العنوان دون جسدها ، لأن النفس لا تعدو أن تكون خزانا وصندوقا للأسرار والانفلاتات، حيث لم تتردَّد في البوْح بما يختلج في نفسها، حتى لا تبقى تلك الخبايا حبيسة وسجينة مكنوناتها، فتجد في الكتابة ما تعويضا وملاذا «لكني سأكمل وأكتب وأتعرى، رغما عني، وبإرادتي .. فلم يعد هناك غير الكتابة كملجأ أخير لهذا الكم الهائل من الخراب الداخلي» ص7، وفي نفس سياق طلب الساردة للجوء التنفيسي والتعويضي من الكتابة فنقرأ في ص 37: «أعرف أني في أحيان كثيرة أكتب أشياء قاسية جدا، بدءا بنفسي ووصولا إلى أقرب الناس إلي .. لكن الكتابة هي متنفسي الوحيد، حقيقتي التي أواجهها بكل قسوتها وجمالها». هكذا يعلن العنوان عن نية النص، إذ سيكون القارئ وعلى مدى إحدى عشر فصلا، أمام جزيرة من البوح غايته التنفيس والتطهير ونشر الغسيل كل ما هو مدنس ومحرم، وبذلك يكون العنوان الذي انتدبته الراحلة متساوقا مع المتْن الروائي، وكما لو أن الكاتبة تمسك بيد القارئ في العتبة قائلة: «عزيزي القارئ، هذه هي نفسي أنشر ها أمامك.» مما يوحي بكامل البوح أو بشطر منه. تتحدث الرواية عن ليلة ماطرة ومظلمة ، حين يعود الأب مخموراً إلى بيته لينهال على جسده بقبلة عنيفة على شفتيها محاولا اغتصابها، فيحاول «نسيم» الدفاع عن شقيقته ليصطدم رأسه بالطاولة ليحدث له نزيفا أدى به إلى الوفاة بالمستشفى، يهرب الأب ويغادر بيته إلى ما لا رجوع حتى تبيّن أنّه توفّى وحيدا بائسا ليموت وحيدا في أعماق الغاب. بعدها تقرر الأم الخروج إلى ممارسة الدعارة، في الوقت الذي تجاوزت مريم حالتها بالانغماس في الحياة الدراسية والمشاركة في الاحتجاجات للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتتعرف على «عمر» المناضل الوطني الذي تسكنه المواطنة والكتابة في نفس الحين، وسيتزوجها لا حقا، وبسبب جرأته التي أزعجت الحكومة تم اغتياله برصاصة في رأسه قيل بعدها أنها طائشة وأصابته خطأ، بعدها تتوالى الأحداث في الرواية وتتحمل «مريم» آلاما جديدة وإضافية بعد أن تكتشف أنها ابنة غير شرعية لعلاقة جمعت أمها بمناضل وكاتب مشهور هو سليمان جودي، هو بدوره في عداد الموتى بالمهجر . وأن الرجل الذي ظنته أباها تزوج من أمها، وقرر أن ينتقم منها عن طريقها، لم يكن سوى أبا بالتبني. في هذه الأحداث تخصيصا، تطرح الكاتبة بجرأة وحذاقة، واحدا من الطابوهات الاجتماعية المتفشية في العالم العربي، والمتمثل في زنا المحارم الذي لم تتداوله الكتابات والأبحاث حتى، وكما ينبغي أن يكون باعتباره أمرا منافيا للأعراف والتقاليد، وواحدا من الحواجز الاجتماعية . ويمكن أن نستشف هذا الجهد من البوح والاختراق لهذه العوالم السوداء من خلال حكايتين اثنتين لهما علاقة بالعنف والتحرش الجنسي، أولاها محاولة اعتداء أولى فاشلة من طرف أبيها انتهى باندثار تلك الصورة الأبوية الذهنية «لكن بدل ذلك ترك ذراعه تحيط بخصري بهدوء، قبل أن يجذبني إليه بقوة تكاد تكسر عظامي، وضع شفتيه على فمي ورائحته تخنقني ، يده تتسلل في جسدي لتبعث فيه رعشة لم أعرفها قبل تلك اللحظة» ص9 . ثم ليعيد المحاولة ثانيا وفي غياب الأم ، لكن هذه المرة أكثر عنفا وتحرشا فنقرأ في ص 23:» انقلبت ملامح وجهه ، ليتحول إلى وجه لا يرغب سوى بالعنف، انفلتت يداه إلى صدري ليمزق قميص نومي الأزرق، اجتاحني برد جسدي من صدري العاري». أما الحكاية الثانية وبطلتها «إيناس» صديقة «مريم» التي تعرضت لاغتصاب جنسي ووحشي و هي طفلة في سن المراهقة من طرف عون أمن في مكتب الدرك الوطني: «كنت أتمزق من الألم والإهانة، جسدي لا يسعفني ليقاوم أو يتحمل عضوه الذي تغلغل بداخلي بعنف» ص78، لتحتمل بعدها الكارثة في صمت وتلتزم الصبر والترصّد إلى أن سمحت لها أوضاع الربيع الأسود، فأخذت ثأرها بيدها من مغتصبها بقتله وأصبحت حديث الجميع «أحرقت در كيا الأسبوع الماضي ، صبت عليه زيتا مغليا حين كان يجلس أسفل شرفة منزل خالتها» ص 71 ثم تنتحر بعدها. واضح من زبدة الحكايتين السابقتين ، أن التيمة التي تحظى بحصة الأسد وقصب السبق هي تيمة قمة الذكورة أو قهر المرأة عبر مشهدين فاجعين كما هو أعلاه وفق ثقافة أبيسية تروم حيونة العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال الأحاسيس والغرائز الحيوانية، وبذلك تسمو الكاتبة ببوحها حد العري ودون حدود جمركية، لتنشر على حبال الرواية غسيل المجتمع الأبيسي الذي يروم تسليع المرأة وتشييئها. وفي نفس سياق البوح العاري وبجرأة الكتاب الحرفيين والمتمكنين من صناعة كتابة الموقف والاختيار، تنتقل بنا الكاتبة لأحداث الربيع الأمازيغي عام 2011، كما يطلق عليه الناشطون الأمازيغ بالجزائر، ويطلق هذا المصطلح على الاصطدامات العنيفة التي عرفتها منطقة القبائل بين قوات الأمن والمتظاهرين خلال الفترة الممتدة بين أبريل 2001م وأبريل 2002م حيث أجهض الرصاص وشطط السلطة كل الأحلام وذلك بإطلاق الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين الذي يطالبون بحقوقهم الاجتماعية والاعتراف بهوينهم اللغوية التي طالما تم تجاهلتها الحكومات المتعاقبة في وطن تشهد جباله الشامخة أصالة الأمازيغ في صنع تاريخه واستقلاله ، ونورد بالمناسبة ، شواهد نصية تصور بعضا من هذا الشطط: «أسبوع واحد يحصد أكثر من خمسين قتيلا» ص59 «أكثر من مائة وعشرين قتيلا والعشرات من المعطوبين» ص64. «حزن يختزل الم أمهات مازلن يرثين أولادهن ويتصدرون الصفوف الأولى في كل مظاهرة ، للمطالبة بالثار لحياة أبناء قتلوا مجان» ص92. «ما إن جلسنا في مقهى « السعادة « بأقبو حتى وصلت حشود الشباب الهارب من الغازات المسيلة للدموع» ص114. من خلال هذه والمشاهد الدرامية والحماسية يتعبأ السرد ليصور أهوال القيامة التي اجتاحت جغرافية «القبايل» من خلال أنفاس روائية ساخنة ومحبوكة، كيف لا وهي تسرد علينا وقائع كاملة ودقيقة من الفجائع والأوجاع وتستعرض لنا العديد من المواقف والمصائر والخيانات حتى، والتي تساوقت واحداث الربيع الأسود الذي نكل بالكثير، وعطب وزج في السجن بالعديد، كما أطفأ الحلم «القبايلي» بوطن كما ينبغي أن يكون. والأكثر منه، إن هذا البوح يمنح الضوء الأخضر للرواية بالانضمام للجيل جديد من ذوي الأصول الأمازيغية من كتّاب الرواية الذي ظهر في الجزائر خلال السنوات الأخيرة ،والذين تجرؤوا وكتبوا عن الربيع الأمازيغي باللغة العربية من دون عقد لغوية، ذلك أنّ الدفاع عن الأمازيغية ليس حكراً على اللغة الأمازيغية أو على اللغة الفرنسية، كما هو شائع في أدبيات الحركة البربرية، تبقى رواية «سأقذف نفسي أمامك»، تجربة جريئة ومتجهمة وشاعرية، وورشة حافلة بالمفارقات، حافلة والسخرية والتهكم، وحافلة بنقاط ساخنة، وبأكثر من بوح عما يعتمل بالداخل من جراحات وانكسارات، وبأكثر من فظاظة رائجة خارج هذه الذات المأزومة، ليبقى كل شيء جزءا من لحظات مستفزة نكاد نتقراها باليد ونستعيد أصداءها وتفاصيلها. وصفوة القول، سلام على روح فقيدتنا القاصة والروائية والإنسانة « ديهيا لويز» الذي أدركت حرفة الكتابة ليدركها الموت وفي جبتها رواية «إيروتومانيا» والكثير من الإبداع المزيد والمنقح ، أسكنها لله فسيح جنانه ، وإنه القدر المقدور .