هذه الحكاية، حكايتي، أصبحت أيضا حكاية جماعية، عامة ديموقراطية، جمهورية وسياسية، حكاية فرنسية لأنني وزيرة في الجمهورية، وأنني حملت كلمة بلادي، وفي بعض الأحيان تتمثل هذه البلاد في وجهي، لا هي حكاية جميلة ولا سيئة، فقط هي حكاية حقيقية. بالنسبة لي قبل 39 سنة، الحياة رحلة بدأت في بني شيكر بالمغرب، ولا أعرف تماما كيف هو مسارها، أو بالأحرى أحاول ألا أعرف … بالمقابل، أعرف جيدا لصالح من أعمل كل صباح، كل مساء، في كل مرة أركب الطائرة، أغيب عن عائلتي، أعتذر عن حضور احتفال بنهاية السنة، أو عندما تتصل بي والدتي لتقول لي إنها لم تعد تراني، مؤاخذات حنونة، إنه شيء فظيع. واليوم لا أعتقد أنه بإمكاني أن أتوقف هنا، أن أقول بأنني كنت ناطقة باسم الحكومة، وزيرة لحقوق النساء، وزيرة للمدينة، للشباب والرياضة، ووزيرة للتعليم العالي والبحث العلمي، بأنني وضعت قوانين ووقعت مراسيم، تلقيت ضربات، تكلمت في البرلمان.. ضحكت من صوري من هفواتي، وبالأخص استمتعت وسط هذا الصخب، وأيضا كوني كنت محبوبة، ولي أصدقاء في كل الظروف، كل هذا صحيح ومثير وقاس، لكن هذه ليست فكرة هذا الكتاب. الفكرة هي أن أتحدث عن فرنسا، عن فرنسا بلدي، فرنسا بلدنا...
أقرأ أيضا عند بائع الكتب أو في المكتبات. لكن أسفي الأكبر، وطيلة كل هذه السنوات التي قضيتها في السياسة وفي الحكومة أنني لم أعد أقرأ كثيرا تلك الحكايات بصوت مرتفع لأطفالي. لا أعرف حظا أسعد لمن يتوفر على الماء في المنزل، ذلك الذي يعود كل مساء إلى بيته، يقوم بمسح جبين أطفاله ويلمس ملابس نومهم وينسى كل هواجسه في أعينهم الضاحكة والصارمة التي يغمرها الصفاء، ثم يقومون بعد ذلك بالاختيار المشترك لحكاية، والجلوس جنبا إلى جنب والانغماس في قصور وحكايات وأفكار تلك الكتب .. بالنسبة لي لم أر كتبا في قرية طفولتي، كنت،فقط، أحرس الماعز وألعب مع الدجاجات النحيفة وأرافق أمي في كل مكان. لا يجب نطق نجاة «نادجات (Nadjat)»، تلك الكلمة التي تفصل، تطرد أو تتهكم، فكم من مرة رمي هذا الاسم في وجهي كعتاب، إلا بالنسبة للذين يخلطونه مع كلمة »Nadja» لأندري بروتون، فأنا أعتقد أن هذا الاسم يحمل رنة ناعمة، وكان يعجب دائما صديقاتي وأصدقائي. وبالنسبة لي كان يبدو اسما نادرا نوعا ما عندما وصلت إلى فرنسا، فالجميع يسمى ماري أو أوليفيه، إلا أنا فقد كان اسمي «نجاة»، وفي كل مرة كانوا يطرحون علي السؤال: ماذا يعني هذا الاسم؟ كنت أجيب، باعتزاز، أعتقد أنه يعني الخلاص، وأحيانا كانوا يضيفون: من أين أتى هذا الاسم؟ وكنت أشرح ببساطة ثم لا نتحدث في الأمر مرة أخرى، وفي هذا الصمت المحايد الحنون والحميمي، كانت هناك فرنسا. لم أعد إلى بني شيكر إلا وعمري حوالي 14 سنة، لسبب بسيط جدا أتردد في كتابته: كنا فقراء وكان السفر مكلفا، ولذلك عشت عشر سنوات بعيدا عن قريتي، لذلك ليست لي ذكريات كثيرة عن هذه الفترة، ثم توالت ثلاثة أصياف مغربية، وكان عمري في آخر زيارة لي 18 سنة، من يريد النظر إلى وراء ذاته وبالتالي إلى داخله؟ لقد تغيرت القرية ومر الزمن، واصلت حياتي ولم أر مجددا بني شيكر، زوجي لا يعرف تلك القرية، كما أن أولادي لا يعرفونها، و هذا الأمر لا أجعل منه هما، ولكنني أعرف أن هذا الاسم أمامي ثم أصبح فجأة على صفحاتي، أنا حائرة بعض الشيء: إنه الحزن، الفرح، الشمس، العالم القديم، إنه أنا أيضا. أنا أعرف جيدا أنه منذ السطر الأول، عاهدت نفسي على ألا أحكي عهدا غريبا لا يمكن احترامه، لاسيما وأنا أجر خيط الذكريات و أرى حيواناتنا: كانت العائلة تملك حمارا وبقرات نحيفات متثاقلات تضرب بحوافرها الحجر، وكانت تملك كلبا، حارسنا وصديقنا الصغير الذي لا يتعب، بالإضافة إلى بضع عنزات كنت أتبعها طيلة اليوم، وكانت أفضل صديقاتي، دجاجتان نحيفتان تنقان.. باستمرار، كنت أحبهما، وأحب بيضهما الأصفر، كنت ألعب معهما: لا أنا دجاجة أم ولا مطاردة، قلقة بعض الشيء من أظافرها وأجنحتها، وماذا لو نجحتا في الفرار في نهاية المطاف؟ كنت أشغل وقتي رفقة أختي الكبرى وأبناء عمومتي، بأشياء بسيطة: نجري، نلهو، نحسب أو نرمي الحجر، كنا نعيش ببساطة بعيدين عن كل شيء، أما بالنسبة للمدرسة بالقرية فقد دخلتها لفترة قصيرة خلال طفولتي، المدرسة العربية بطبيعة الحال، كنت أذهب أيضا إلى المسجد مع والدتي بجناح النساء، كان إسلاما قرويا ورعا وبدائيا، ما زلت احتفظ بالخصوص بذكرى أول زيارة لي لمسجد، دخلنا دون ضجيج، كان هناك نوع من الغبار الغريب يعلق في المكان، هناك قيل لي، لا تتكلمي، احفظي لسانك، وستفهمين في ما بعد. في القاعة رائحة دافئة، ممزوجة ببعض العطر، كانت هناك زربية وطاولة كبيرة وفوقها شبه دمية كبيرة من الثوب، في الواقع كان الأمر يتعلق بجثة ميت ملفوفة في قماش أبيض في انتظار حمله إلى مثواه الأخير «روحه تحلق فوقنا، نجاه، إنها تراقبنا»، لا أعلم إن كان الأمر حقيقيا أو قالوا لي ذلك حتى أصمت،لكن صدقوني، لم أجرؤ على أية حركة، لم أنطق بأية كلمة، فالخوف هو أفضل مستشار كما يقال. لو بقيت هناك لكان كل شيء مختلفا، كنت سأتزوج مبكرا، في قرية مجاورة، ولما كنت بالتأكيد عرفت الحرية جيدا، ولا «إيموجين» صديقتي الشرطية ولا مارسيل الصغير وهو يجري في التلال مع والده لاصطياد الحجل البري.