كان علينا أن ننتظر أكثر من نصف قرن ليحصل هذا.ليصبح التسلّط مضاعفاً. البداية كانت الانقلاب العسكري الأول الذي قام به «حسني الزعيم»«. فمنذ أن اغتصب السلطة أصبح هو كل شيء. صار اسمه : «الزعيم حسني الزعيم». وراحَ أهلي، من خوفهم، في أعالي الجزيرة السورية، يخيطون صورته بلقبه الجديد على الرواق، إذ ليس للخيمة جدران، كما تعرفون. ولكن ما علاقة ذلك بما نكتب عنه، الآن؟ العلاقة بينهما أكثر حميمية، مما تتصوّرون : لقد صار، فجأة، اسطورة! بلا اسم، ولا تاريخ، ولا ميزة، غدا هو كل شيء في الحياة السياسية في سورية، آنذاك! من تسلّطه استمدّ شرعية حكمه، ومبرر طغيانه. وبهذا الشكل اللامنطقي في الوجود، أعطى الحق لمن سيقوم بانقلاب جديد، أن يقعد مكانه، ويصير، حتى، أسوأ منه. ولكن ما الذي كان ينقصه، وينقص الانقلابيين الذين تعاقَبوا على امتطاء سوريا من بعده؟ كان ينقصهم الكثير:التصوّر المبدع للحياة، والتماسك، والتاريخ. ذلك النَقْص الفادح، هو سبب الانهيار المعَمَّم الذي يعيشه العالم العربي، حالياَ. فالانقلاب العسكري، أياً كان مبرره، عدوان داخليّ مقيت، أحدث تغييراَ عميقاً في بنية المجتمع العربي، حتى في البلدان التي لم تكن معنية به بشكل مباشر. تماماً، كما يفعل، اليوم، »الانقلاب الأدبي» الذي أحدثَتْه «الجوائز الأدبية» التي فَرَّغتْ الحياة الثقافية العربية من محتواها، وربما السياسية، أيضاً، إنْ لم يكن بالتأكيد. كُتّاب بلا تاريخ ابداعيّ، أزاحوا تاريخ الكتابة العربية المبدعة، وحَرَفوا مسارها. جعلوها لعبة حكايات، بدلاً من أن تكون ظاهرة معرفية، ووسيلة للتطوّر الخلاّق. لماذا؟ لأن لجان الجوائز التي انتشرت كالفطر السام في العالم العربي، ارتأت أن تمنح مَنْ تشاء «جائزة» برصيد مادي كبير، لا رصيد تاريخياً لها. وإضافة إلى ذلك فهي تسوّق الممنوحين إعلامياً. فالسلطات المانحة تملك الجوائز ووسائل الإعلام والمشتغلين في هذه الوسائل، وأدوات الاتصال الأخرى، و... وتملك أكثر من ذلك بكثير. وبتأثير هذه الهيمنة المطلقة، والاستحواذ اللامتناهي، واللامُراقب ديمقراطياً، اضطربت الساحة الأدبية، كثيراً. وأكاد أقول والفكرية، والأخلاقية، أيضاً. هذا»الانقلاب الأدبيّ» المسالم ظاهرياً لم يأتِ من عدم. هو الآخر له تاريخ. وتاريخه عسكريّ بامتياز. انقلاب بعد آخر كانت الأمور تَتعقَّد، وتَتَمايَز، في العالم العربي. لم يعد «الكرسي» كافياً. صار بحاجة إلى «كَوْرس»، أو «كومبارس أدبيّ»، وأحياناً، «فلسفي»، أو أكثر، على حسب رغبة»المُتسَلْط» على السلطة، وأهوائه. وأول مَنْ «اَبْدع» في هذا المجال، كان «الانقلاب الأسديّ». فجأة، بُعَيْد ذلك الانقلاب اللعين لم يعد لسورية، ولا فيها، أي نشاط ثقافيّ. كل ما كان قبل الانقلاب، انمحى! لكأن البلد كانت صحراء (وحتى الصحراء لها ثقافتها المحترمة)! لقد تَمّ إلغاء تاريخ سوريا الثقافيّ، دفعة واحدة، وبلا تأنيب ضمير! وتَصَدَّر المشهد «طلاب» هامشيون، ينقصهم التماسك المعرفي، وليس لأي منهم «تاريخ أدبي»، أو «موهبة استثنائية»، ما عدا»قابليتهم للاستيعاب». هؤلاء المتحمًّسون » العُراة معرفيّاً» الذين زُجّ بهم في المعركة الثقافية المحسومة سلفاً لصالح الانقلاب وأهله، وبالتأكيد بإرادتهم وقبولهم بدورهم السلطوي الجديد، صاروا، بقرار سياسي متعسف، »المرجع الثقافي» في الشعر والمسرح، والسرد، والإعلام، طيلة فترة الاستبداد الأسدي، حتى ولو ادّعوا »المعارضة من الداخل»، الأمر الذي يثير السخرية! وهو ما سيؤدي بسورية، وبغيرها، إلى الحضيض. الآن، يحدث الشيء نفسه في الثقافة والإبداع، ولكن، على مستوى العالَم العربي. ولذلك يبدو الأمر أشدّ خطورة، ويوجب الشَّجْب. السلطات المسمّاة مدنية، ذات الثروات الهائلة، هي التي صارت تقوم «بانقلابات مَلْساء»، بادئة، منذ عقود، بالحياة الأدبية. لقد أدركَتْ أن تجييش السادة الأدباء، أهمّ من «العسْكَرَة». وهي في ذلك على حق. هذه السلطات المتمكِّنة، والقادرة على كل شيء، وضعتْ يدها الرهيبة، بجَشَع مرعب، على مجمل الحياة الأدبية، محتكرة كل الأنشطة الثقافية. هي التي تمنح الجوائز. وتنشر الكتب. وتقوم بترجمتها. وبتحويلها إلى أعمال سينمائية. وقد تمسرحها، أيضاً! وهي التي تشتري وتبيع «المنتَجات الثقافية» بشتى أنواعها. وتقيم الولائم المشهدية. وتدعو إليها الكتاب الذين يُلائمونها. وتحتفي بهم في وسائل إعلامها. و... و...أليس ذلك سوء استعمال مطلقاً للسلطة الثقافية؟ هكذا، تهافتت عليها دور النشر التي لا علاقة لهاً أصلاً بالثقافة. وقصدَتْها جيوش الكُتّاب الحالمين بجائزة ما. وصار يطنّ في أروقتها «ذُباب الأدب»، حتى لا نقول «شبابه». عجباً! حتى في الجاهلية لم يكن الأدب محصوراً، ومحاصَراً، إلى هذا الحد. حتى الشعراء الصعاليك كان لهم الحق المطلق في ارتياد المنتديات، وفي نشر قصائدهم، أو تعليقها ليقرأها العابرون، مثل غيرهم من «كبار القوم». لا! ليس بهذا الشكل، ولا بشكل آخر، يتخلّص الإبداع العربي من الكَساد. فالإبداع الحقيقي في مكان، والسلطة الثقافية في مكان آخر. إلى أي هاوية تراه يجرّنا، الانقلاب الأدبي الأسود؟