هل حان الوقت للربيع العربي كي يَشْرع في إنتاج نوع التحولات التاريخية الكبرى المنتظرة منه، لأول مرة يتصدّع كيان السلطان السياسي المطلق المدعو بدولة العسكر في العالم العربي. هذا السلطان قد تسلم عديد الدول العربية المستقلة من يد الاحتلال الأجنبي لكي يستأنف شكلا آخر من التسلط المدعوم أساسا من بعض قوى الداخل. فالمرحلة الطويلة الموصوفة بالاستقلال الوطني منذ أكثر من نصف قرن عانت من عقدة التحكم الفردي، هذه العقدة مسؤولة عن إجهاض نهضةٍ مجتمعية كانت موعودة منذ أن تسلمت بعض القيادات الفردية زمام الأمور، فكان همها أن تحجب معظم القوى الاجتماعية عن كل ممارسة إنتاجية تمتُّ إلى مفهوم التطور المعقول العادل، والإبداع الحضاري الذي كانت تحتاجه أمةٌ محجوزة عن نفسها وتاريخها مئات من السنين وراء سجف الانحطاط، كان الشيء الوحيد الذي ينمو هو ظلام الانحطاط وحده مع تحييد كل إرادة بشرية واعية عن التدخل في أبسط شؤون الحياة العامة، فالاستقلال الوطني مقترنا بالتسلط الداخلي الشامل، راح يتحوّل إلى مجرد وهم لا يعني شيئا سوى التغطية الإعلامية على وسائل الاحتكار السياسي والمالي والثقافي. واليوم، يمكن القول إن التغيير بدأ يمسُّ السور الأصلي الذي تختبئ وراءه كل الخطايا. وقد اعتقدنا أن التغيير في مصر إنما يدخل من بابه الكبير، ورغم كل أشكال التخبط والعرقلة في مسيرة ثورة 25 يناير، فإنها لم تكن لتعيق هذا التغيير وصولا إلى فرض بعض إنجازاته الرئيسية. وأولها ولا شك، بعد إسقاط رأس النظام، كان حَدَثَ لجمهور مصر أن استرد بعض إرادته واستطاع أن يخوض أول انتخابات حرة، كأنْ يأتي رئيس إخواني أو سواه، ذلك شأن الديمقراطية الجديدة الناشئة، المهم أن مصر تشهد وصولَ رئيس شرعي بما يُشبه إجماعا شعبيا إلى سدَّة الهرم المصري. ومن ثم كان من المنتظر أن يبرهن أول رئيس منتخب عن قدرة شرعية تُمارَس في وجه أقدم دولةٍ عسكرية قائمةٍ في عالمنا المتخلف ضمن الدولة المدنية الأكبر التي هي مصر العربية؛ فالقرار بإنهاء المجلس العسكري كان نتيجة طبيعية لقيام مصدر شرعي واحد للسلطة، لا ازدواجية بعد اليوم بين القصر والثكَنَة. إن إسقاط الدولة العسكرية شرطٌ وجودي لقيام دولة القانون، هذا لا يعني أن السلطة السياسية تنال كل شيء من السلطة العسكرية، بل إنها قد تحد من غلوائها وتعيدها إلى مهامها الأصلية. لنتذكر أن مصر فقدت تقريبا قوة دفاعها الرسمية منذ ثلاثة عقود وأكثر تحت وطأة معاهدة كامب ديفيد، فجأةً تحوّل أعظم جيش عربي إلى مجرد قوى بوليسية موجهة نحو الداخل في حين تظل حدود الوطن مكشوفة تحت إشراف وصاية إسرائيلية ودولية، فالمهمات التي سوف تترتب عن قرار الرئيس المدني بإنهاء ما سُمّي بالمرحلة الانتقالية مقُودة من قِبل الجنرالات فقط، هي أكثر من أن تُعَد وتُحصى منذ الآن، لكنها تنطوي على دعوة واحدة أساسية هي إعادة بناء حضارة مصرية عربية انطلاقا من أُسسها الطبيعية، وهي الدولة المستقلة السيّدة، والمجتمع الحر العادل، أي أن مصر موشكة على أن تنجح في تحرير نفسها حقا وفعلا من طاغوت التسلط الذاتي المتمثل في الإقطاع العسكري السياسي، لعلها سوف تتابع تحررها الوجودي والإنساني الذي هو المضمون الأعمق لكل استقلال سياسي مطلوب وقابل للنمو وللدفاع عن مبادئه. بيْد أن المحظور المتكرر الذي يمكن أن يشوب كل الأفعال التاريخية الكبرى هو استغلال بعض نتائجها في غير ميادينها الحقيقية؛ فقد يخشى البعض من شبح الديكتاتورية السياسية الأخرى التي تمثلها هذه المرة رئاسة شبه دينية مطلقة اليد، مالكة للسلطتين: التشريعية والتنفيذية في وقت واحد، ذلك هو انحراف يمكن تصوّره منذ الآن، لكن بالمقابل هنالك قوى الناس في الميادين الشعبية تراقب كل شيء، وتكون قادرة على فعل كل شيء؛ فمن مكاسب هذه الثورة أن الحرية رجعت إلى موطنها الأصلي، إلى وعي الناس وإرادتهم؛ المجتمعات العربية المتخلصة من أصنامها الحاكمة السابقة، قد اكتسبت على الأقل قدرة الوعي والفعل الجماعي المباشر، وذلك نصرٌ حضاري عظيم، هو المفتاح الأول لكل الأبواب المغلقة؛ فالظلم الماضي هو في طريقه إلى الانهيار، وبالتالي كل ظلم آخر قادم سيكون له الناس بالمرصاد، نحن متفائلون، وينبغي أن نبقى كذلك رغم كل صنوف الإجهاضات التي تعانيها ثورات أنجزت خطواتها الأولى، وأخرى لا تزال تصارع الطواغيت. ولعل أشنع طاغوت راهن اليوم يتمثل في الوحش المنقض على الشعب السوري؛ فقد آل هذا الوحش على نفسه أن يدمر كل شيء قبل أن تنخلع أبواب قصره، وتتدفق الجماهير باحثةً عن الجلادين في الجحور المظلمة. إنها رحلة التحرير الشاقة التي اختارها الشباب السوري كسبيل وحيد لإنجاز معضلة التسلط على المصائر العامة؛ فلم تعد تنفع مختلف وسائل النضال العادية المعروفة، إذ ربما لم يحدث في تاريخ الأمم جميعا أن أصبح حكّام دولةٍ ما هم أعداؤها الأوائل الذين يعلنون حرب إبادة كاملة على المجتمع بكامل عدده وعدّته. من كان يتخيل أن جيش الدولة يتحوّل إلى وحشٍ قاتلٍ يستخدم مختلف أدوات السحق والمحق لكل ما هو حيّ في بلدٍ كان يدّعي جيشه أنه يحمي حدوده من عدوٍ خارجي، فإذا به يتقمص هو شخصية هذا العدو، ويُضاعف عدة مرات من حقده وجبروته لكي يسحق شعبه ويدمر حضارته. كانت آخر الحروب العربية مع العدو الحقيقي الإسرائيلي قد وضعت حدّا لعهد الوطنية الجامعة بين شعبها وجيشها، لكن تمَّ تحييد هذه المرحلة ودفن معالمها ما بعد معاهدة كامب ديفيد، فلم تكن هذه المعاهدة مجرد اتفاقية سلام مع الخصم الخارجي، بقدر ما أصبحت هي مشروع انقلابٍ حقيقي لبنية الدولة العربية واستراتيجية مستقبلها، وخاصة بدءا من مؤسساتها الأولى، فكان الجيش هو الضحية المركزية في مصر بعد أن كان لهذا القطر الدور المحوري في كل معادلةٍ للأمن القومي الشامل. فهؤلاء الضباط الكبار الذين أقالهم أول رئيس جاءت به الديمقراطية الشعبية هم الفوج الأخير من خانة الأصدقاء الأوفياء لمشروع إجهاض الجيش المصري من وظائفه الدفاعية الأصلية، فالمعاهدة فرضت شروطا معلنة وسرّية تقلب المهمات الطبيعية للجيش؛ فقد تمّ تحويل كبار رجاله إلى مدراء مشاريع اقتصادية وتجارية، لها أصول سابقة في مؤسسات القطاع العام الذي بدوره تمّ توزيعه في نطاق الخصخصة، فصار رجال الجيش وأشباههم هم المرشحين ليؤلفوا صنفَ أمراء الإقطاع الليبرالي الجديد، بحيث يرعى العسكر مباشرةً عملية الإنتاج الطبقي المستغل لأمة كانت قد انتصرت على الكثير من أمراض تخلّفها وانقساماتها السابقة، موحدةً وراء أهداف في الحرية والعدالة. كان التخطيط، إذن، ليس في قلب الوظيفة الوطنية للجيش فحسب، ولكن في إعادة بناء مجتمع آخر يكون مضادا ذاتيا لمنطق أية مقاومة حقيقية قد يضطر إليها المجتمع، لحفظ بقائه حرا سيدا على نفسه. ما يخشاه أعداء مصر والعرب جميعا من منجزات الثورة المصرية الجديدة هو انهدام مشروع الانقلاب البنيوي، الذي اعتقدوا أنهم زرعوا بذوره وحفروا له جذورا عميقة في مختلف نواحي الحياة الذاتية للمجتمع المصري، ذلك أن التصدي الفعلي لدولة العسكر لن يتوقف عند حدود هذا التغيير لأشخاص المراكز القيادية فيه، فالمسألة هي أن العدو لم يعد قادرا على حماية سيطرته على استراتيجية التطور البنيوي لأكبر مجتمع عربي؛ فأن تُشرف الجماهير من جديد على المراكز القيادية للدولة، ذلك هو الهدف المنعطف العظيم الذي حلمت به أجيال التغيير منذ بداية الحقبة الاستقلالية للدولة العربية المعاصرة. نحن لا نجرؤ منذ الآن على القول إن هذا الهدف الأعظم أصبح حقا أمانةً كاملة تحت رقابة الجماهير الكبيرة، لكن إرادة التغيير هي القادرة وحدها على اكتشاف العقبات والمبادرة إلى مكافحتها، فالقوة الكبيرة للجيش التي كانت محجوزة القيادة في قبضة الفئة الحاكمة، لم تكن لتدع أية أيدٍ غريبة خارجة عن نطاق العسكر كيما تتدخل في شؤونها الذاتية. ما يحدث اليوم هو أن السلطة المدنية شرعت في اختراق القلعة العسكرية الصماء، بمعنى أن الدولة هي التي ستشرف منذ الآن فصاعدا على تركيبة الجيش وليس العكس، أي تلك الحال التي كان فيها العسكر رعاة الاستبداد السياسي في عصر الديكتاتوريات السابقة، حتى إنهم تمادوا لكي يمارسوا الوصاية على الثورة نفسها. وقد كشف الناس جميعا نوازع القمع التي لم يستطع المجلس العسكري أن يتخلّى عنها. صار يقمع مظاهرات الشباب الثائرين، ويعتقل العشرات والمئات، ويعذب، حتى ويقتل، وقد يدفع بالكثير من رموز الشارع الثائر إلى المحاكم العرفية؛ وقد قيل إن هذا المجلس حكم وسجن العدد الغفير من الشباب في عهد المرحلة الانتقالية قد يتجاوز أحيانا منجزات القمع الديكتاتوري السابق. هذا السلوك ليس جديدا بالنسبة إلى سلطة العسكر المصري التابع لتلك المرحلة، لكن في الظرف الراهن أضحت مصر كلها شاهدة على هذا السلوك وفظائعه، الأمر الذي عرّى ادعاءات رجال المجلس حول مساندة الثورة، بينما أصبحت لهم مهمة حفظ النظام الاستبدادي السابق، واستنزاف جهود الثورة وصولا إلى عودة الطبقة السياسية الحاكمة التقليدية. فَقَدَ المجلس العسكري، إذن، آخر ما تبقى له من شعبيته، خاصة بعد أن فشل في إيصال أحد رموز الماضي إلى سلطة الرئاسة مجددا مع الانتخابات الأخيرة، فكان قرار عزل قادته أشبه بالضربة القاضية في اللحظة المناسبة، بحيث لم تنتج عنه أية ردود فعلية عسكرية أو مدنية سوى هذا التأييد الفرح لدى الغالبية العظمى من الرأي العام المحلي والقومي الشامل. هذه المرة، خسرت الفوضى الهدامة رهانا جديدا، وإسرائيل هي التي تجني أشواك هذه الخسارة، لعلها تتأكد من أن عصر المعاهدة/المؤامرة يفقد كل يومٍ الشيء الكثير من مضامينه المشؤومة. مصر الثورة تسير في طريق استقلالها الداخلي إزاء نفسها أولا، فقد عاشت حوالي أربعة عقود خارجةً عن نطاقها الذاتي. كان تغريب الوطنية المصرية محركا أساسيا لسلطة التحريف القومي الشامل، الذي أصبح دَيْدَن الثورة المضادة ما بعد عبد الناصر. كان حرمان مصر من جيشها الوطني أخطر انتصارات هذه الثورة المضادة، كان تأثير هذه المرحلة السوداء يتجاوز حدود القطر ليشمل النهضة العربية وجغرافيتها السياسية والدفاعية الكاملة؛ فقد باتت الأمة العربية فجأة دون أمنٍ قومي حقيقي تصنعه بوعيها وإرادتها، فالغدر الأعظم الذي عانته هذه النهضة هو انتزاع استراتيجية دفاعها القومي من لدن قياداتها الوطنية التي لم يعد لها أي نفوذ على المصير السياسي لمعظم الأقطار. أن يستعيد العرب مجددا جيوشهم الوطنية إلى مهماتها الأصلية، فذلك هدفٌ مفصلي في ثقافة الربيع العربي البازغة، وقد شرعت ثورة 25 يناير في وعي هذه الحقيقة، وفي الإقدام الجريء على إبداع ما لم يُبْدَع حتى الآن؛ فقد أصبحت مصر مدعوة منذ اليوم إلى إعادة رسم استراتيجية مستقبلها، بقدر ما تتجذر أفاعيل هذه الثورة المباركة. والعرب جميعا اليوم يتطلعون إلى استعادة «مصرهم» التي أحبوها، وعرفوها في مفاصل تاريخهم عبر أدوارها الحضارية الشاملة. إنهم جميعا يتحملون مسؤولية الجرأة الثورية الجديدة، ويأملون أن يستمدوا شرارات مضيئة من هذه الحقيقة الساطعة والمشرقة ما وراء أهرامات مصر الخالدة.