-هل تساهم الجوائز في صناعة «النجم» وفي المفهوم الإعلامي الاستهلاكي؟ - الجوائز تساهم في صناعة «اللَّجْم»، بالأحرى. فهي، ببريقها الاعلامي المفتعل، تلعب دوراً أساسياً في السلوك الاستهلاكي المسطِّح للعقول. نحن هنا لا نتحدث عن أشخاص، وإنما عن «ظاهرة ثقافية» خطيرة، اسمها : «الجوائز الأدبية» في العالم في العربي. هذه الظاهرة التي أخذت تتمدد، أخيراً، وتتمركز في بؤرة « جُغْراسياسية» معينة، في الوقت الذي تتفَتَّت فيه بلدان أساسية ذات شأن ثقافيّ كبير، تُروِّج «لأشباح ثقافية»، وليس لمبدعين من طراز رفيع. وأكاد أقول إنها لا علاقة لها بالثقافة كما أفهمها أنا، ويفهمها الكثيرون من المهتمين بالإبداع. ولا تقُلْ لي : «هذا هو الموجود»! خطورة هذه « الظاهرة» هو تَعْميم الابتذال، والامتثال، والخوف. الخوف من الإهمال، من الإقصاء، من النسيان، من اللااعتبار، من الاستبعاد عن المنَصّة، والحيلولة دون « المبدع» والأضواء. فالخوف في العالم العربي له أشكال كثيرة، وإنْ كان على رأسها: القمع. - إلى أي مدى تهيمن الجوائز الأدبية اليوم على استراتيجية الكتابة الإبداعية والنقدية في العالم العربي؟ - بفضل هذه الجوائز المفبركة بدأت « الأمّيّة الكتابية» تنتشر. وأصبح « الاستِقْلام» (اسمح لي بنحت هذا المصطلح الأدبي الجديد، الذي يعني وضع الاقلام المبدعة في خدمة الجوائز وأهلها) سيّد الساحة «الأدبية». وصار السؤال «المصرفيّ» : ماذا تكتب؟ بدلاً من السؤال المعْرِفيّ : «ماذا تقرأ»؟ هو السائد. وتحوّل حتى الشعراء الناجزون إلى كتابة الروايات التي بدأت «تبيض دولارات» كثيرة، وكأن حقبة الشعر عندهم كانت تمريناً لكتابة الرواية. وهو ما يُعبِّر، في الحقيقة، عن انتكاسة عميقة في الوجود الثقافيّ العربي. ليس لأن الشعر— وقد تخيَّلْتُ موته منذ عقد الثمانينيّات الماضي، في كُتَيِّبي: «موت الشِعْر» الذي ارتكزَتْ مقولاته على تجربة «أدونيس»، وعلى «مفهوم ارتباط الشعر بالسلطة»، وأعيد نشره كاملاً في مجلة «دراسات عربية» البيروتية— هو «الفقيد الغالي»، ولكن لأن هذه الجوائز، على حداثة عهدها، حَوَّلت الثقافة، إلى «مهزلة ثقافية»، لا نظير لها في تاريخ المجتمعات الانسانية الحديثة. بتأثيرها اللاهِب صار «الفضاء الثقافي» مجرد مشهد هزليّ، له علاقة بالتجارة والسمسرة أكثر مما له علاقة بالأدب. وهو ما يشرح تَقَبُّل الناشرين لها، واحتفاءهم بها. وقد ساهم في هذا المشهد الفظيع بعض «الأكاديميين» العرب الهُواة: « أكاديميّو الشهادة الابتدائية»، كما تسميهم كاتبة طليعية. - هل يمكن أن يتشكل لدينا خلال السنوات القادمة ما يمكن أن نطلق عليه «أدب الجوائز» وخاصة في المجال الروائي؟ - لا يمكن. لأن هذه الظاهرة الفاسدة تحمل عوامل فنائها في ذاتها. ولأن المنضويين تحت «خيمتها» لا يمثِّلون القوة العربية المضادة للتخلّف. إنهم، على العكس من المظاهر المصطنعة، عوامل تقهقُر ثقافيّ مريع، ونكوص معرفيّ مخيف. وليس لهم أي منفذ تاريخي نحو الغد. هم لا يمثّلون النجابة، وإنما التخاذل. ولا يساهمون في نجاتنا من الابتذال، وإنما يدفعوننا إلى الغَرَق فيه. فلم يحدث في التاريخ أن «الدراهم» انتشَلَتْ ثقافة من الحضيض. الثقافة يخلِّدها الشعور بالعزة، والمعاناة الانسانية العميقة، والبحث الصارم في الوجود. أما السجود لمن يَهِب أكثر فليس له أثَر تاريخي في مخيلة الانسانية. ولن يبقى منه، في نهاية المطاف، إلا زبد أوراق «المستَقْلمين» الذين جعلتهم الجوائز يعتقدون أنهم «خالدون»، ذات يوم. - هل تحولت الجوائز إلى سلطة تقييم وبذلك أثرت على توجهات القراء وبالتالي توجهات الكتاب الذين يحلمون أو يكتبون من أجل نيل الجوائز؟ -هي تحوَّلت، على العكس مما كان منتظراً منها، إلى «سلطة تَخْديم»! فقط. ومن هذا المنظور، ليس لها الحق في تقويم الابداع. والجواب الباقي يتضمنه سؤالك الحصيف: هي سلطة عند الكتاب الذين يحلمون بها، ويكتبون من أجلها. و«كُتّابها» الذين يبحثون عن شهرة سريعة دون جهد خلّاق، وحتى دون «تاريخ شخصيّ» يستحقها، لا يمثلوننا. نحن لا نُقرُّ لهم بأحقية لأنهم نالوا جائزة. الأحقية في الابداع للمخيلة الحرة ، وللفكر النقيض. وهذه الجوائز، في النهاية، لا تكرس الابداع ولا الخصوصية. ولا تحتفي، كما رأينا، إلا بالمألوف والمعروف. وهما بعيدان عن «موهبة الحياة». إنها تخْنق الابداع بدلاً من أن تجعله ينتشي. ولا يدهشنا، بعد ذلك، أننا لم نحمل، طويلاً، في قلوبنا، ولا في عقولنا، منذ سنوات أياّ من «مريدي» هذه الجوائز ، برغم التهْبيل والتطبيل المرافق لمنحها لهم. فنارها نار قشّ سرعان ما تنطفيء، وليست ناراً خالدة تظل تضيء. مَن مِنا يتذكّر الفائز الثاني أو الثالث بها؟ ومن منا نسي نجيب محفوظ؟ - هل تمثل الأعمال التي تفوز بالجوائز الواقع العربي؟ ثم هل شرطا في الأساس أن تمثل الكتابة الواقع العربي؟ - كل كتابة تمثِّل واقعها. أو تحاول ذلك، حتى ولو كانت نقيضاً له. فلا يشبه الأصل، إلا النقيض. تذكَّر السلطة والمعارضة في العالم العربي. لكن تمثيل الواقع ليس «حكم قيمة». إنه «تخمين» منطقي. لكنه منطقيّ أكثر منه تخميناً. وعلى أي حال لا بد من إخراج الأدب من هذه « الحَصْرَة» الضيقة : الواقع وزواياه، وجَرّه إلى فضاء أكثر رحابة يلعب فيه على هواه. الأدب أهْواء. ومَنْ لا يتبَعْ أهواءه، ستَمْحُه الكتابة من تاريخها. ولدينا في العالم العربي أمثلة كثيرة على كُتّاب شاخوا، وما زالوا «حديثي السن كتابياً». نحن، هنا، لا يهمنا أن تمثل الكتابة، أو لا تمثل، الواقع. فليس ذلك هو المطلوب من الابداع. وليس لأحد أن يفرض على الابداع أية قاعدة، أو شبهة، أو قانون، أيّاً كان شأنه، ومبرره. ما يهمّنا هنا، هو الكيفية التي بها يُنجز الابداع. وهذه الكيفية تُناقض بشكل صارخ كل مفهوم للجوائز الممنوحة « سَلَفاً» لمن يستجيب أكثر لشروطها. لأن الابداع الحقيقي، هو، تماماً مثل «الحُبّ»، حتى لا نقول شيئاً آخر: ليس له مبرر، ولا دافع، إلا «وعي» فاعله بأهمية ما يفعل. وتمتُّعه العميق بما يفعل. (*): مقتطفات من تحقيق طويل للكاتب . والصحفيّ العُماني عاصم الشيدي