اكتشف خليل النعيمي مبكرًا الوضع البائس في سورية. وازداد يقينًا أثناء خدمته العسكرية كطبيب في الجيش السوري، ووجد أن الحياة في ظل هذا النظام السياسي لا تُطاق: الديكتاتورية والفساد والقمع ثم الفشل على كل الأصعدة. قرّر الذهاب إلى باريس. حيث اكتشف الحرية والمعرفة، وأصبح جرّاحًا، ودرس الفلسفة في السوربون، وشارك في جدالات فكرية، إلى جانب يساريين وفوضويين وسورياليين عرب. حوار : محمد المزديوي p بمناسبة صدور كتابك الجديد «الطريق الى قونية»، عن « المؤسسة العربية للدراسات والنشر » بيروت/ عمان، نود ان نعرف ما الذي يمكن ان يقدمه لنا أدب الرحلة في القرن الواحد والعشرين، حيث وفرة المعلومات وسهولة السفر والتنقل وغيرها من الأشياء التي كانت غائبة زمن الرحالة الأوائل؟ n الأشياء كانت دائماً متوفّرة. والكثرة لا تقدِّم شيئاً. «وعي الكائن» الذي يُعايش الأشياء هو الذي يعطيها المعنى، أو هو الذي يستخرج جوهرها من العدم، وليس وجودها الكمّي. والقرن الواحد والعشرون، على عكس ما تعتقد، هو أسوأ القرون إبداعياً، حتى الآن. لأنه قضى نهائياً على « الحَدْس» الإنساني الفاعِل الذي يستثيره الغموض، من خلال توفير كميات عظمى من المعلومات اللامبدعة، وإغراقنا ب «ثَرثَرة كونية» لامحدودة. نحن نعرف أن طاقة الابداع لدى الكائن، هي «طاقة جهله المبدع»، وليس مساحة معرفته المستقرّة. «الجهل الخلاّق» هو الذي يدفعنا إلى السفر المستمر، من أجل «ما لا نعرف»، حتى وأن كنا نتصوّر أننا نعرف كل شيء. فصورة الأشياء ليست معرفة. وفي النهاية، «وعي الكائن» هو الذي يكتب العالَم. والوعي بحاجة إلى رأس وقَدَمَيْن. p كتابك الجديد كتب قبل أعوام، فهل اضطررت لإضافة تعديلات عليه...؟ n هذا يحدث دائماً. كلما أعدتُ قراءة نص لي ، أقوم بتعديله، غير مضطرّ. وإلا ما جدوى القراءة، من جديد. قراءة ما كتبْناه أكثر جدارة من قراءة ما لم نكتبه. لأن قراءة الذات «مخيفة». ولأنها كذلك فهي تستحق العناء. إنها خطوة أساسية نحو تحرير الذات المبدعة من أوهامها. وتعديل ما كتبناه هو أقل ما يمكن لنا أن نقوم به، عندما نمتلك الجرأة لقراءة مخلَّفاتنا البائسة. p تكتب الرواية وأدب الرحلة فهل ثمة تداخلات بينهما وهل يمكن ان يتحول موضوع رحلي إلرواية ؟ n بالتأكيد، ثمة تداخل عميق بينهما. وعنصر التداخل هو أنا. أقصد « أنا الكاتب». لكن المريب في سؤالك هو «حكم القيمة» الذي يوحي به. لكأن أحد الحقلين « أحطَّ» قليلاً، أوكثيراً، وهو ما يستوجب «تَحْويله» ليبلغ «عتبة الآخر». وبرأيي، فإن كل ما نكتبه «رواية»، حتى عندما نُسَمّيه: شعراً. p نتعلم من كتاب « الطريق إلى قونية» طريقتك في الكتابة، فأنت تكتب، وأنتَ في قمة الانغماس مع الحشود في الاحتفال بمولانا الرومي. تكتب..وكأن الحمّى ركبتْكَ، كما فعلت ايضا في كتاب الهند.. فهل الكتابة والتسجيل ضروريان؟ والذاكرة لا تكفي؟ n «الكتابة المباشرة»، هي طريقتي فعلاً في نقل ما أراه، وأحسّه، عندما أسافر. وعندما زرت المكسيك، مثلاً، قمت بزيار واسعة للبلاد، وبخاصة لمناطق الهنود الأوائل، معتمداً على الباصات العمومية، فقط. وخلال أيام الرحلة كلها، كنت أحجز المقعد رقم 3، على يمين السائق مباشرة، من أجل أن أكتب بلا جواجز وأنا اخترق المساحات. المكان هو الذي يُلْهِم الكائن، عندئذ. ولقد كان يتَراءى لي، أحياناً، أن الصفحة التي أكتب عليها هي الأفق الممتدّ أمامي حتى آخر الكون. «الكتابة المباشرة» لا علاقة لها بالذاكرة، وإنما بالأحاسيس. إنها «طقس حسيّ»، بامتياز. «الرؤىة الحيَّة» فيها تحلّ محلّ «الذاكرة الميتة». وهي مثل « الجراحة» لا يمكن التلاعب بها، ولا تحتمل التنازلات. وربما كانت تلك هي حال الكتابة، كلها. p ربما استنتج بعض من قرأ نصوصك الروائية استشرافك للوضع في سورية، خاصة في رواية «مديح الهرب»، لكن هل كنت حقاً تتصور شعبا بأكمله يهرب من ديكتاتور؟ ام ان الواقع فاق الخيال؟ n الواقع يفوق الخيال، دوماً. أنا لم استشرف شيئاً. كتبتُ عن واقع عشته، وقاسيتُه. ومعاناتي هي السبب في إدراكي المبكّر لسيِّئات « الوضٌع » الذي كنا نعيشه، يومذاك. وكما تعرف، فالشخصيات الرئيسية في «مديح الهرب» التي صدرت عن المؤسسة العربية سنة 2005، بأجمل غلاف للشاعر الفنان، صديقك الذي تعرفه: «زهير أبوشايب»، هم ثلاثة ضباط، ورابعهم سياسيّ مثقف. ومسرح الرواية هي البؤر المشتعلة اليوم في «حوران» : «إنخل»، و«نوى»، و«الصنمين»، و«تل الفرس»، وأنحاء أخرى من الجبهة السورية. الضابط الأول ينتحر . والثاني يقتله رئيسه المباشر. والثالث، وهو الراوي، يهرب. أما المدني الوحيد الذي كان بعثياً عنيداً، فيجُنّ. أنا لا أحب ربط الأعمال الأدبية بالثورات الإنسانية المعمَّمة التي هي أكبر من الأدب بكثير. لا! لا صلة بين الأدب، وبين الواقع، من هذه الناحية، ناحية التنبُّؤ والاستشراف. ومع ذلك فالصلة بينهما متينة، ولكن «من الجهة الأخرى» الأكثر حميمية وعمقاً. وإذا عدنا إلى الطغاة، فَهُم، مع الأسف، يفعلون مثل ذلك، وأكثر. ولكن مهما كانت قسوة طغيانهم، فإن الشعب سيتحرر في النهاية. p لا نتصور ان احدا من النقاد انتبه للعلاقة الحميمة التي تربطك بوالدك، على افتراض ان السارد هو المؤلِّف، فهي على عكس ما نجده لدى معظم الكتاب الذين يتباهون بقتل الأب، على الطريقة الفرويدية.. فما هو تفسيرك للأمر ؟ n تفسيري أبسط مما تتصوَّر. إنه كامن في «تاريخي الشخصيّ». أنا أحب كثيراً طفولتي في «بادية الشام». وأتصوّر أن شَساعة القاع، وترامي السُهوب ، وبلاغة الضوء، وهبوب الرياح، وانعدام أي شكل من أشكال القيود التي نعيشها في المدن المحدودة ، لا يوحي، ولا يستوجب، أي مماحكة، أو توتّر، أو اضطراب، من أي نوع كان. كنتُ أعيش في الجنة. لماذ تسألني عن أبي؟ p هذه العلاقة الوثيقة مع الأب تظهر بشكل مكشوف في كتاب قونية، حتى يبدو وكأن الكتاب كتب من اجل الأب لانه هو الذي كان يتوجب عليه ان يكتبه.. «هذه القونية التي كان أبي يترنم بها مسحورا''! n كُتِب، فعلاً من أجله. ومنذ بداية الكتاب تطالعنا جملة الكاتب المزهوّ بما يفعله، وهو يخاطب أباه : «... لَكَم أحبّ أن أحقق أحلامك...». p كيف تفاعل النعيمي الروائي مع المأساة السورية ومع الربيع العربي الذي تحول الى حرب طاحنة والى شعب في الطرقات وفي الشتات؟ n طرْح السؤال بهذه الكيفية، لا يسمح بالإجابة عليه. وفي الحقيقة ليس ثمة إجابة على سؤال مبتسر مثل هذا بأية كيفية أخذناه. وإذا كنتَ أنت نفسك، تصف الحال بأنها «مأساة، وشتات، وحروب طاحنة، و...» فكيف تريدني أن أتفاعل؟ أعرف أن كتاباً كثيرين وكاتبات، مِمَّنْ كانوا من «حواشي السلطة» هجموا علي «المأساة» وانتحلوها، ودَبَّجوا كتُباً، ومقالات، وأشعاراً حولها. وأعرف عملاء نظام، وممالئين، صاروا «معارضين». وأعرف سنمائيين تَرَبّوا في حضن المؤسسة الرسمية، وبدؤا يحاولون أفلاماً «مناهضة»، وأعرف... وثمة الكثير الذي لا أعرفه. وعلى أية حال، فإن «الهجوم الكاسح» على الثورة التي أصبحت «مأساة»، وتَبَنّيها، من أجل الشهرة، والتَّباهي، والحصول على رضى الآخرين، أوالتمتّع بمزايا جديدة ... لهو أحطّ فعل يمكن لعاقل أن يرتكبه. أنا لا أكتب عن الثورة. أكتب عمّا قبلها. p ماذا تقول في المنجز الروائي العربي الحالي؟ وفي كل هذا التراكم الذي أنجز في العقود الاخيرة؟! وماذا عن الجوائز الأدبية المكرسة للرواية؟ n أنتَ تعرف أنني من « حركة أدب بلا جوائز». وإنني كتبت مقالات عدة ضد «ظاهرة الجوائز الأدبية» في العالَم العربي. لماذا؟ لأن جميع الهيئات المانحة للجوائز هي جهات رسمية. لها أحكام ومتطلَّبات وقواعد أخلاقية ومعرفية وفنية صارمة، ومعلومة، مهما ادعت البساطة والتسامح والقبول. ولا يجهل أحد ذلك. والكل يتهافت كالذباب على جُرْن عَصيد مَدْهون برقاقة من العسل. وبرأيي الشخصي، ومن حقي أن أخطيء، المتهافِت ، أيا كان وضعه،لا يمكن أن يكون مبدعاً فَذّاً، حتى ولو حاز على جائزة «نوبل». خطورة الجوائز العربية، في هذه الحال، تكمن في تأصيل الابتذال الأدبي، وترويج الأخلاق المحافظة، وتسييد البلادة الفنية، وتقييد الإنبهار، ومنع التمرّد، وتخضيع المبدعين الذين ينضوون في خانتها، ولَجْم الفورات الإبداعية المناهضة لكل ما هو رسميّ وعتيد. و تَدْجين المتفَلِّتين، و...و...ماذا تريدني أن أقول أكثر من ذلك؟ p قرأنا لك مؤخراً مقالا عنيفا عن القاهرة، في « القدس العربي» بعنوان : « القاهرة تختنق، وتخنق أبو الهول»! فهل هو انتقاد للزمن العربي و لكل العواصم؟ وهل من واجب الكاتب والمبدع ان يغضب؟ بل وما هي وظيفة المبدع والمثقف، أصلا؟ n ليس للمبدع وظيفة. ولكن، له دَوْر. ودوره الأساسي هو أن يقول ما يؤمن به حتى ولو أغضَب قولُه الآخرين. ولكن مَنْ منا يجرؤ على ذلك؟ كثيرون بالتأكيد. لكننا في العالَم العربي بحاجة إلى أكثر مِنْ «كثيرون بالتأكيد». بحاجة إلى زخم هائل من الغضب والاستياء والتَرَفُّض والترَفُّع عن الهِبات والعطايا والجوائز والمثاقيل. بحاجة لنطير بأجنحتنا لا بأجنحة السلطات أكُنّا موالين لها أم معارضين. ولكن هيهات لمَنْ تعَوَّد على تَذَوُّق مَرَق السلطة الدسِم بملاعق من ذهب، أن يستمْريء أكل الخبْز العَلْسَ بيديه. p الدكتور خليل النعيمي، نعرف أنك قارئ نهم، ولكن ما هي الكتب الأساسية التي شكلت وعيك الكتابي، وعلى الأقل الروائي؟ n يمكن القول انني بدأت «القراءة المعروفة «، قراءة الحروف، متأخرا. بل متأخراً جداً. إلا أنها كانت قراءة مفعمة بالأمل والشغف. لكن مرحلة القراءة المهمة بالنسبة لي هي «مرحلة البادية». مرحلة الصحراء الباذخة. «حقبة ما قبل القراءة «بالمعني المألوف. وهي «قراءة أخرى « لأساطير الكون: قراءة الإذن والعين، والتي لازالت تسيطر علي إلى الآن, حتى ليصحّ عليَّ القول : ‘'عرفتُ هَواها قبل أن أعرف الهَوى/ فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّنا''. وخارج «جَغْرَفَة» القراءة، هذه ، أثارت فضولي المعرفي روايات «نجيب محفوظ» التي قرأتها باكراً. لكن « التحطيم الأخلاقي» الذي حصل في نفسي كان بسبب « الإخوة كارامازوف» لديستيوفسكي، و»الجريمة والعقاب»، وكنتُ يومها في السنة الأولى جامعة. ومن بعد، تَتالت القراءات لكي لا تنتهي ابداً. ومن نافل القول أن أضيف: «أن يَنابيع المعرفة الكونية واحدة، لكن المهمّ مَن الذي يَسْتقي منها، ومتى، وكيف». p أنت لا تتحدث كثيرا عن اشتغالك في الجراحة، ولا بد أن ثمة رابط بينهما، وهنا نريد أن نعرف ما هو تأثير الجراحة على كتابتك الأدبية. n فَضْل الجراحة على كتابتي : لُغَوي. وهو فضل علماء اللغة العربية الأطباء في دمشق، وعلى رأسهم الأساتذة : « مرشد خاطر»، و« المَطْ »، و«محمود برمدا»، و«مدني الخيمي»، على سبيل الذكر لا الحصْر. ويكفي أن أُشير إلى أن دراستي للعلوم، وللعلوم الطبية، في جامعة دمشق كانت، كلها، باللغة العربية، لتعرف أية ثروة لُغَوية هائلة كانت بين أيدينا. ولكي أوضح الامر، فأنا كثيراً ما أُشَبِّهُ أديباً تعلَّم الأدب المحض ومارسه، مثل كائن أعرج، يمشي علي قدم واحدة. فهو لا يلمُّ بلغة العلم. ولا يخطر له علي بال الثراء الآسر في لغة العلوم العربية. وللأسف الشديد، هذه اللغة العربية العظمي التي كانت وسيلة تطور العلوم والمعارف الأوربية، أساساً، بدأت تعاني اليوم من الاهمال، وسوء الاستعمال. وكثير من البلدان العربية يتجاهلها في الجامعات والمعاهد العليا، لحجة بائسة هي كون العلم اليوم أوربياً! وماذا لو صار غداً صينياً، او هندياً؟ «سوريا» كانت البلد الوحيد الذي يُدرِّس كل المناهج، والعلوم، في جميع مستوياتها، باللغة العربية. وربما لهذا السبب (ولأسباب أُخرى كثيرة) يتَفَوّق أطبّاؤها، ومهندسوها، في أمريكا وأوربا! لا تهزأ! ولكم كنّا سعداء ونحن نتعلم الأسماء الشاعرية في الطب: «الشغاف «، مثلاً. وهو الغشاء الذي يحيط بالقلب ويحميه. تذكَّر الآية الكريمة :'' وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً''. و«العصب الودي»، وهو الذي يحرف العين نحو الحبيب. و«القرح» الناجم عن الأسي والهيام. ولا بد انك قرأتَ ما قال الشاعر القديم : ‘'ولي كبد مقروحة مَنْ يبيعني / بها، كبداً ليست بذات قُروح''. و...وكثير غيره. p الكثيرُ من الروائيين لا نتذكر، بشكل عام، سوى مضامين رواياتهم، ولكننا، أحيانا، معك، نتذكر جُملاً، أو حِكَماً، وهو ما رأيناه في الإنترنيت في موقع يتضمن استشهادات من نصوصك، فهل تتقصَّد الأمر، وهل «الرواية تفكر» في نظرك؟ n الرواية تفكِّر؟ بكل تأكيد. وأي شيء يستحق الرويّ سوى « الفكر العذْب»؟ أعرف أن «الموضة الروائية» في العالم العربي اليوم تدّعي الابتعاد عن الفكر. لكن ذلك شيء خطير. الكائن لا ينضج دون فكرأصيل، ووعي مناهض لما هو سائد. والكتابة،أيا كان شأنها، ومهما كان الموضوع الذي تعالحه، لا «ضرورة» لها دون فكر. ولا تنسَ أن العالم لايتطوّر« بالّلَغْو» ، وإنما بالمنعطفات الفكرية الخارقة. والاتِّكاء على الشكل في الرواية هو ابتذال لها، وغُبْن للقاريء الذي سيمضي ساعات ، وربما أكثر، معها. لكنك تعرف مثلي أن الكتابة العربية الراهنة صارت «محط أنظار» هيئات رسمية أو شبه رسمية، ومطلوبة من قبل بعض« المقاولين الرسميين»، وهو ما يجعلها تنحو منحى « حيادياً» في أحسن الأحوال، ولا تتعرّض للفكر العربي المحافظ إلا بإشارات مبهمة ومثيرة للضحك. ولا بد أن ذلك هو سبب كونها محشوّة بالإنشاء، والوصف، والتاريخ المزيف، والإختلاقات. لكنها نادراً ما تجرؤ على تفكيك الأساسي. p في حوار جديد أجرته ليبراسيون مع الروائية الفرنسية آني إيرنو تقول: «ليس المهمّ هو الذاكرة، بل هي الكتابة، أي ما نفعله بِصُوَر الذاكرة»، هل تتفق مع هذا الرأي؟ n الذاكرة هي «مَخْزن الحياة». وهي بهذا المعنى لا تخلق أدباً. لكن الكاتب يستعين بذاكرته الغنية عندما يبدع، وهو ما يسمّى جزافاً ب«الخيال». دون مخزون لا وجود للابداع. والكتابة تختلف من كاتب إلى آخر لأن المخزون بينهما مختلف. وفي النهاية، الابداع، أيا كان، هو «التصوّر الشخصيّ » للعالَم لدى الكاتب. ولذلك فهو يحمل كامل سِماته الانسانية. إنه صدقه، وزيفه، وكذبه، وخيانته، وأمانته، وحبه، وفشله. وأمور أخرى كثيرة. الكتابة هي كل هذه «المحطّات» العظمي في حياة الكائن. ومن السذاجة اختزالها إلى الخيال، أو الذاكرة، أو الإلهام، أو العبث. p هل أنت راضٍ عن ترجمة بعض منجزنا الروائي العربي إلى اللغات الأجنبية؟ وإذا لم تكن كذلك، فما هي مؤاخذاتك؟ n الترحمة تواصل ثقافي هام. والانسانية لا تتقدّم دون هذا التواصل المستمر من آلاف السنين. والعالَم العربي كان صلة الوصل الحضارية العظمى في العصور الإولي . هناك إذن فرق بين « الترجمة الفاعِلة»، وبين «الترجمة المنفعلة» التي تسود السوق الزدبي العربي اليوم. حتى أن بعض البلدان الثرية صارت تتكلف بنفقات الترجمات من العربية إلى اللغات الأوربية. وثمة كتاب كبار، وشعراء، ياتباهون بترجمة أعمالهم، وهو أمر مضحك فعلاً، إلا في حالات نادرة. ومع الأسف هو هذا النهح اللاأدبي، وأكاد أقول والجحف بحق الإبداع العربي، جعل دور نشر فرنسية «مرموقة» لا تترجم إلا كتب الجواءئز المدفوعة الثمن سلفاً، أو الكتب التي يموّلها « أحد الناس» . وأنا أتجوّل في شوارع باريس منذ عشرات السنين، ولم أجد أي كتاب عربي مرميّ في واجهات المكتبات، حتى ولا لأدونيس أو محمود درويش. ونادراً ما تحظى الترجمات العربية المدفوغة الأجر بتعليق بائس من عربي متفَرْنس، أو و من لا أحد. الترجمة إذن هي في النهاية «صراع بين حضارتين بشكل أدبي». وهي ليست فلكلوراً محلياً منقولاً إلى لغة لايهمها أمره إلا بقدر ما يتضمّن من إثارة للفضول . هل تذكُر كيف كنا نهجم على قراءة الروس، والفرنسيين مثل سارتر، مثلاً، والألمان مثل هرمان هيسه، وتوماس مان، و... من يقرأ اليوم «أونفري» من العرب؟ ومن يقرأ «لوكليزيو»، وكم عربي يعرف اسم نوبل الأخير؟ هذا فقط لأذكِّر بأن العالَم اليوم أصبح مخنوقاً بالابتذال. لماذا لا يتسابق العرب على الترجمة إذن؟ p أنت روائي عربي، تكتب بالعربية، وتقيم بالغرب، ولعلكّ الأجدر بالرد على هذا السؤال: هل يمكن اعتبار الأدب الذي يكتبه منحدرون من أصول عربية، أدبا عربيا؟ أم أن اللغة، في نظرك، تحسم كُلَّ شيء؟ n الأدب لغة. اللغة شأن اجتماعيّ. أما الابداع فهو «تصَرُّف» فردي بحت. هذا التقرير المكرّر،ثلاثاً، لكي نشرح أن الكتابة تحمل «جينات» كاتبها. ويزعجني أن نحاول «تصنيف» الأدب. لأن الأدب إنسانيّ. «كامو» قد يكون عربياً أكثر من «حنا مينا» على سبيل المثال. أريد أن أقول أنني أربأ بنفسي من تحديد «هوية الإبداع».