حسن بحراوي ليس باحثا أكاديميا محبوبا وحسب، كما أن اسمه لا يحيل فقط على كونه أحد أهم الجامعيين المغاربة الحداثيين ممن نوعوا مباحث الدرس الجامعي الوطني، سواء باختياراته المعرفية والبحثية الدقيقة والطريفة، أو بعدد إصداراته ودراساته وأبحاثه ذات الصلة بالثقافة والأدب الشعبيين والترجمة وفنون الفرجة، وإنما هو أكبر من ذلك بكثير. إنه قامة معرفية وإنسانية نبيلة، ساهمت، منذ أزيد من ثلاثة عقود في تكريس صورة مخصوصة عن الأستاذ الجامعي المغربي ( وقبله المعلم في أقسى الجنوب ) الذي لا يكف عن بناء جسور الصداقة والمحبة مع طلبته، بل مع أعوان المؤسسة التي يشتغل بها، مع موظفيها الصغار قبل زملائه من هيئة التدريس، وهو في ذلك يُبقي على طبيعته العفوية مكشوفة دونما احتراز أو خوف أو ارتياب من فقدان هبة الباحث الألمعي وجديته المفترضة. منذ عرفته، وكان ذلك منذ أزيد من عشرين سنة، ظل كما هو، ودودا ومنفتحا على مختلف التجارب والأجيال والحساسيات، صاحب مبادرة وقلب كبير، يقوده في ذلك حدسه المنحاز دوما إلى الموضوعات الغميسة والهامشية والمهملة، وهو إلى ذلك، صاحب أياد بيضاء على عدد من أصدقائه من المبدعين المغاربة. كما لا يبخل بدعم وتشجيع كل من بدا له بحاجة إلى مساندة، وفي ذلك يسخر كل طاقته الإغرائية والإقناعية الجبارة، من قبيل تتفيه كل الصعوبات وجعلها تبدو مجرد وهم في رأس من يتهيب مخاطرها. أتذكر، في هذه العجالة، قصة ذلك العون الذي كان مكلفا بمرافق كلية الآداب بالرباط، وكان مساره الدراسي قد توقف في المرحلة الثانوية، وكيف استطاع صاحبنا إقناعه بعد إلحاح شديد، بتقديم ترشيحه الحر لنيل شهادة الباكالوريا، والتسجيل بعدها بسلك الإجازة، قبل أن يكبر هذا الطموح ويحصل على دبلوم الدراسات العليا، ثم التسجيل بسلك الدكتوراه، وهو الآن يشغل منصبا محترما بذات الكلية، التي كان مجرد عون بسيط في طاقمها الإداري، محطم الطموح، وفاقدا لأي أمل في المستقبل. هذا الأمر، جرى معي ما يشبهه تقريبا. ذلك أنني مدين للأستاذ بحراوي بعودتي للممارسة التشكيلية بعد انقطاع إجباري امتد إلى أزيد من عشرين سنة بسبب قلة ذات اليد. وأتذكر، تلك الأماسي التي كانت تجمعنا في بادية شاربان بالرباط في مرحلة التسعينيات، وكيف كان يمارس علي سحره في الإقناع وتدليل الصعوبات وتبخيس التخوفات دون توقف، إلى أن استأنفت نشاطي الفني، حيث رافقتني هذه الرعاية النبيلة إلى أن أقمت أول معرض لي في بحر سنة 2004، قبل أن يشرف، سنوات قليلة بعد ذلك، على أطروحتي الجامعية في ذات الموضوع. نفس الإلحاح كذلك لا يكف بحراوي عن ممارسته عن كل من لمس فيه موهبة الكتابة وجموح الخيال، أو بالأحرى من اطلع على ما يغري في مساره الشخصي عما يستحق الحكي والكتابة، حتى أصبحت عبارة «اكتب سيرتك الذاتية « المستفزة دعوة مقرونة به إلى كل أصدقائه. ولا أنسى في هذه العجالة كذلك، إخلاصة لأصدقائه من المبدعين ممن عاجلهم الموت باكرا قبل أن يصدروا أعمالهم الإبداعية مجموعة في كتاب. ويحضرني هنا، على سبيل المثال لا الحصر، ما سخره من مجهود جبار لتجميع قصائد صديق طفولته ونزيل فضالة الزجال الراحل عبد اله ودان، التي صدرت، قبل أشهر، في كتاب يحمل عنوان « ديوان البالة والفاس «، ولولا هذه المبادرة المخلصة من قبله لاستمر بعض الطفيليين وعديمي الموهبة في إنساب قصائد الراحل لأنفسهم. كما لا ينبغي أن ننسى، في ختام هذه التحية، المجهود الجبار الذي بذله الأستاذ بحراوي - إلى جانب قلة قليلة من الباحثين المغاربة - في سبيل تكريس ما أصبح يعرف اليوم في الثقافة المغربية ب «الأدب السجني»، سواء عبر اقتراح عدد من البحوث والأطاريح الجامعية على طلبته، أو بتجميع نصوص هذا المحكي السيرذاتي الذي كان في عداد المهمل وتصنيفها بيبيوغرافيا، بما يفي بإضاءة عدد من مناطق الغموض والظل التي لا تزال تلف هذا النوع من الكتابة المجروحة. ولا تفوتنا الإشارة هنا، إلى أن هذا المجهود المجتهد، رغم جديته وطرافته، لم يجنب صاحبنا سخرية واستهزاء بعض زملائه من الأكاديميين المغاربة سامحهم الله، ممن كانوا ينظرون إلى هذا الأدب بنوع من الترف المعرفي. من هنا أعتبر مشروع إنجاز أنطولوجيا خاصة بهذا الأدب، وهو ما ينكب عليه الأستاذ بحراوي في الوقت الراهن، سيكون إضافة نوعية للبحث الأكاديمي المغربي وتنويعا لمساره المجدد، والأهم من ذلك سيفسح المجال لإعادة قراءة هذه السير الذاتية ذات الخلفية السياسية والحقوقية في ضوء ممكنات الدرس الأدبي في شقه الإبداعي، وهي مبادرة تحسب للأستاذ حسن بحراوي، ابن فضالة البار.