في صيغة ملخصة تلخيصا، يصح القول أن المغرب والمغاربة- في السنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال السياسي- حاولا، جديا، إعطاء مضمون لما بعد رحيل الاستعمار المباشر...إنه المضمون الذي كان لا بد منه لكسب التحرر الشامل والكامل، على جميع الأصعدة وفي كافة الواجهات... لا يسمح، المقال والمقام معا، بتفصيل القول في هذا كله- علما أن ما لا يدرك كله قد يدرك بعضه- سيما وأن المسألة اللغوية قد طرحت بحدة في هذا الرهان، في معركة التحرير والاستقلال، وفي جهاد التحرر والبناء الديمقراطي الشامل في آن واحد... لكن، الرهان- وأعني رهان التحرير والتحرر الشاملين، وفي الواجهة اللغوية تحديدا وتعيينا- لم يكن سهلا أو بلا ثمن... لقد كان تحديا، محاولة للنهوض والانعتاق، بل استمرارا محينا لمبادرات النهضة والإصلاح التي توالت منذ فقدان المغرب لإشعاعه ولزمام أموره... وهو الرهان المستمر في الحال والآتي، رغم تعقد الأمور. في المضمار اللغوي،على الأقل، كان الوضع أعوص من تعويض الفرنك الفرنسي بعملة مغربية ومن استبدال الأطر الفرنسية بأخرى تحمل أسماء مغربية، ومن شعار المغربة نفسه... لقد كانت حربا في ساحة السياسة، بميزان قوى مختل وبرؤية لم تنضج كفاية، مع» نظير» متمكن، متمرس ومتحكم في المبادرة... ومن دون استبعاد الروح الوطنية، وأمام انصراف الوطنيين إلى التعليم «التقليدي»، استحوذ المفرنسون والمتفرنسون على المناصب والمراكز والمواقع المهمة والهامة، بتزامن مع إرادوية الوطنيين والتقدميين وضعف الإمكانيات والمؤهلات وثقل الإرث الاستعماري وحدة الاختراقات ووزن «النظير»... هذه «الحرب اللغوية»، تمت وتتم برهانين متعاركين: إخضاع النفوس مقابل تحريرها،التبعية والهوان وجها لوجه مع الانعتاق والعز والكرامة المستدامة، والاستقلال الشامل والمكمول بدل ما نحن فيه وعليه... في هذه الشروط والظروف والملابسات، وفي تدافع الرهانين وتجاذبهما... في هذه الأجواء والاعتبارات، طرحت قضايا وطنية مصيرية، وعلى رأسها المسالة اللغوية، وفي الساحة التربوية والتعليمية على وجه التعيين والبيان، وذلك على طول مراحل ما بعد تغيير الاستعمار لوسائله فقط. إن الحصيلة لمزعجة اليوم، حيث بات واضحا أن المغاربة في الطريق نحو التشظي اللغوي والتمزق الثقافي والضياع الحضاري والتطرف تغربا وتشرقا، لسانا وتفكيرا وروحا... يؤكد أكثر من باحث وبحث ، أن اللغة هي اللحام المجتمعي المؤتمن على الجماعة، وعلى استمرارها. ولأن الأمر على هذا النحو، فإن» اللغة والمجتمع رحما موصولا وتعاضدا لا غنى عنه لأي منهما عنه»... اللغة ليست مجرد أصوات أو رموز، ليست شكلا مفصولا عن المعنى، ولا هي عن الصراع الاجتماعي والحضاري... اللغة- بعبارات دقيقة- أوسع وأكثر وأعمق من مجرد وسيلة للتعبير وأداة للاتصال والتواصل والتفاهم، أي إنها ليست وعاء تصب فيه المعاني المراد نقلها أو التعبير عنها فقط، وإنما هي قالب للتفكير وأداة للعمليات التفكيرية و « مشحون حضاري وثقافي ومخزون تراثي وظاهرة اجتماعية وتاريخية، تتطور وتنمو بتعدد وتنمو بتعدد وتنوع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية». اللغة، أخيرا وليس آخرا، تخضع للتحول التاريخي بتحول المجتمعات، تلخص صورة المجتمع عن نفسه،تعكس آلامه وأماله،أولوياته و»طرق تعبيره عن ذاته وطرائق فهمه لعلاقته بأفراده وبالآخرين والعالم»... لا شك أننا في وضع لا نحسد عليه، فالتردد في الحسم اللغوي، لنصف قرن ونيف، في شكل تأرجحات بين الفرنسية والعربية، في صورة فوضى وشرخ لسنيين ولسانيين وبالتالي في الثقافة والهوية والوعي والوجدان.. إن هذه الازدواجية اللغوية الموروثة والمورثة، والتي يراد لها أن تستفحل وتستعضل، باستعمال»بعض أصحاب رسم التيفيناغ» و»خدام مخطط الفرونكو- أراب»، تصيب ? اليوم وفي منظور المستقبل- المغرب المغاربة في المقتل... إننا نعيش في مجرة لغوية عالمية- إن جاز التعبير- وهناك موازين قوى لغوية، بل هناك ما يسمى بالإمبريالية اللغوية، فالانجليزية تهيمن- منذ الحرب العالمية الثانية- على باقي اللغات، والآفاق مفتوحة على تغييرات في ميزان القوى، أما التحولات فجارية كتراجع الفرنسية في عقر دارها وصعود الصينية. ابن خلدون- صاحب المقدمة ونظرية علم العمران- قال بقانون الغلبة،» وفي اللسانيات المجتمعية الحديثة هناك قانون لابونس الذي يقول: إذا تساكنت لغتان، وواحدة أقوى من الأخرى، فإن اللغة الأقوى تبتلع اللغة الأضعف...والمغرب فرنس أكثر بعد الاستقلال»، لقد تجاوزت نسبة المتفرنسين من المتمدرسين 40 في المائة اليوم، بعدما أن كانت قبيل الستينيات من القرن الماضي أقل من 10في المائة... في المقالة الثالثة المقبلة خوض في خلفيات ما جرى ويجري على صعيد الواجهة اللغوية، أسباب التردد اللغوي ونتائجه...