في هذا الحوار الذي خص به الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري جريدة »الاتحاد الاشتراكي«، يعتبر بأنّ مقترح أن تصبح العربية العامية لغة مرسّمة في التعليم، على حساب العربية الفصيحة، مقترح جاء اعتباطا، جاء بدون مقدمات، ولا رؤية نظرية أو تجريبية، سياسية أو فكرية أو تربوية تستند إلى وقائع موضوعية، وتراكم تاريخي-تركيبي واع بما حققه المغاربة في مسارهم الحضاري-الثقافي. إنّ بدء النقاش حول إصلاح التعليم بالحروب اللغوية غير المبررة والاستفزاز عوض التروي والحجاج العلمي والإقناع بالمعطيات الموضوعية، والتفاوض والتوافق مع الأطراف السياسية والخبراء والعلماء أصحاب المكانة المتميزة والنيات غير المبيّتة، والتداول الدمقراطي الهادف، الخ، كلها شروط لا يمكن أن نستعيض عنها بالغوغائية. الأستاذ الفاسي الفهري، أبدأ معك بالتساؤل عن الدوافع والأهداف الكامنة وراء الدعوة إلى استعمال الدارجة وإدراجها في منظومة التعليم التي دعا إليها مؤخرا نور الدين عيوش، الذي نظم بالدار البيضاء ندوة حول التربية والتعليم؟ شكرا للاتحاد الاشتراكي على هذه الاستضافة. أولا إن مقترح ان تصبح العربية العامية لغة التعليم في المغرب مقترح جاء بدون مقدمات، ودون رؤية، ودون تحليل علمي دقيق ومتأن. فاقتراح مثل هذا لابد ان تسبقه مقدمات كثيرة. ومن جملتها، لماذا تختار هذه الصيغة، او هذه اللهجة، ولماذا نفصلها عن الفصيحة، مع أنهما متصل لساني واحد، أو لغة واحدة؟ هو مقترح استئصالي بتري مفقر، عوض أن يكون تراكميا مغنيا يجمع ويرصد ما يتوفر للمغاربة من غنى لغوي. أليست الحجة لصالح قبول التعدد اللغوي، الذي ينص عليه الدستور أن يكون مغنيا للرصيد اللغوي الثقافي للمغاربة؟ إن هذا الاقتراح جاء غامضا لان صاحبه يتردد، لأنه يتحدث مرة عن اللغة-الأم، ومرة عن اللغة الوسيطة، ومرة عن لغة الشعب، فلا ندري ما محتوى المقترح فعلا. وما المقصود باللغة المغربية، التي وحدها بقدرة قادر، مع أن هناك تنوعا كبيرا ومغنيا في اللهجات المغربية المتداولة، وهي كلها لهجات عربية في الشمال، والحسانية في الجنوب. فيها تفاعل و تأثير، بطبيعة الحال، للهجات الامازيغية، ولكنها تمثل مع الصيغة الوسيطة والسجل الفصيح متصلا لغويا عربيا linguistic continuum نظامه الأساسي عربي، كما أن الأمازيغية تأثرت باللغة العربية وأخذت منها، ولكن نظامها ظل أمازيغيا، ولا يمكن أن نقول ان هذه اللهجة، أو هذه الصيغة العربية تمثل لغة مستقلة، وإلا لقلنا ان الفرنسية ليست هي اللغة الفرنسية لمجرد أنها تأثرت باللهجات الجرمانية، وهي الأكثر جَرْمَنَة من بين اللغات الرومانية، ولقلنا ان اللغة الإنجليزية لغة فرنسية لأنها اخذت وتأثرت كثيرا باللغة النورماندية أولا، ثم اللغة الفرنسية، ثانيا، خلال فترة الحكمين النورماندي والفرنسي لإنجلترا. نحن بصدد متصل عربي له استعمالات مختلفة، وهو على كل حال مغن وشيء جميل من حيث التلوينات والتعددات الكثيرة، منها ما هو مستعمل في الزجل، وفي الملحون، وفي الحكي الشعبي، أو في التعليم، والإعلام، والرسميات، الخ. ثم إن هذه العربيات المغربيات تختلف بحسب العصور والأجيال، فلهجة أمي ليست هي لهجتي أنا، كما تختلف بحسب المناطق، هناك اللهجة المراكشية، والتطوانية، والبيضاوية، والفاسية، الخ. ليس هناك شيء يوحد هذه اللهجات، ولا ينبغي ذلك. وإذن إذا أردنا ان ندخلها في المنظومة التعليمية، ينبغي ان نصنع لغة جديدة توحد هذه اللهجات، ونُعَيّرها، أي نحولها الى لغة معيارية مقعدة standard. والحال أن غنى هذه اللهجة هو انها ليست لغة معيارية non-standard ، بل هي تنوعية، صالحة للتعبيرات الثقافية الإبداعية التنوعية، فما كل شيء في اللغة يُرَسَّم أو يقعد. كما أن اللغات الحضارية الأخرى لها لهجات كثيرة كذلك. فالألمانية المعيارية ليست هي الألمانية المستعملة في كل مناحي الحياة، وكذلك الفرنسية ولهاجتها، وهكذا دواليك. فهذا يدخل عادة فيما يسمى في الأدبيات اللسانية المجتمعية diglossia بالازدواجية اللغوية، أو الاستعمال التكاملي للعامية أو العاميات والفصيحة. هناك مستويات للغة تكون شعبية، ومستويات أخرى تكون فيها معيارية، ولا مجال للمفاضلة بين هذا وذاك، لأن كل صيغة وكل لون من ألوان اللغة له استعمالاته، وله فوائده. إلى أيّ حدّ يمكن التفريط في هذا الموروث اللغوي في سياق الشروط الجديدة؟ وهل هذا ممكن؟ نحن لا يمكن أن نفرط في هذا التراث الشعبي، وفي نفس الوقت لا يمكننا أن نعيش بدون لغة معيارية، لغة المدرسة ولغة التدريس. ما هو جدي هو أن من جملة مهام أكاديمية محمد السادس للغة العربية تقريب الفصحى من العامية وتقريب العامية من الفصحى، وجعل العامية في مستوى أرقى، لا صيغة هجينة، والشيء نفسه في الاتجاه الأخر. المفيد هو أن نأخذ مفرادت وتعبيرات راقية ومفيدة في العامية لتدمج في العربية الفصيحة، للرفع من جاذبية اللغة ومن تعبيريتها وحيويتها، والعمل من أجل ألا يكون هناك تباعد أو هوة بين السجلات اللغوية. وهذا لا يتم بدون تخطيط وبدون جهد جماعي كبير لمستعملي اللغة والخبراء. والمؤسسة التي يمكن أن يناط بها هذا التخطيط، علاوة على المهام الكبيرة الأخرى، هي المؤسسة التي ينص عليها القانون، أي أكاديمية اللغة العربية. هذا نقاش سبق ان حسم فيه في إطار ميثاق التربية والتكوين الذي اقترح فيه ان تكون مؤسسة تتولى النهوض باللغة العربية وتطويرها، وتكوين معربين جدد بتفكير جديد وجيد، ومنفتح، يبلورون تداخل الثقافات والآداب والمعارف والفنون، بل معربين تعدديين. والمعارف التي يجب ان تنقل إلى اللغة العربية، أو تكتب بها شيء ضخم ومستمر، ولا يمكن أن يقوى على القيام به أفراد غير منظمين. شأن اللغة هو شأن مستمر، لا ينقطع، وفي كل الدول والدول الراقية هناك معاهد وأكاديميات تطور اللغة من خلال التخطيط لها ولبقائها ومستقبلها وتفاعلها مع غيرها من اللغات. ما هو دور الدستور المغربي الجديد في هذا الشأن؟ الدستور المغربي الجديد ينص على العناية باللغة العربية، وعلى نشرها وتقوية استعمالها، وتوفير الوسائل لذلك، وفي نفس الوقت المحافظة على التعبيرات اللغوية المرتبطة بالهوية المغربية. إذن نحن دخلنا في تفكير جديد، وعهد جديد، عهد التنوع والتعدد والوحدة. مع الأسف مثل هذا المقترح الذي اثار جدلا اليوم هو تفكير اختزالي وإقصائي، تفكير يريد نبذ لغة. والنبذ اللغوي هو من الجرائم المحرمة دوليا. ولذلك نحن لا يمكن ان نأخذ مأخذ الجد مثل هذه الاقتراحات، بكل بساطة لأنها لم تعد مقترحات العصر، ولا ما يقترحه الدستور. لقد دخلنا عصر الديمقراطية اللغوية، في عهد الحقوق اللغوية والعدالة اللغوية. هناك مفاهيم وترسانة جديدة لا تسمح لنا بالحديث عن نبذ هذه اللغة او تلك. من هنا، فإن ادخال الدارجة ومعيرتها هو ضرب من الترسيم غير المباشر، والهدف منه، كما أعلن عن ذلك السيد عيوش، في عدة مناسبات، هو قتل اللغة العربية تدريجيا، كما وقع للإغريقية القديمة، او وقع للغات الرومانية مع اللاتينية، حيث كانت لهجات للاتينية وتدريجيا حلت محلها عبر الترسيم التدريجي والقوانين التي صدرت. المشكل هو ان الظروف السياسية والثقافية التي تم فيها قتل اللاتينية تدريجيا مغايرة تماما للظروف اليوم، لأنها انطلقت من قوميات لغوية، ومن محاولة بناء أمة قطرية حول اللغة، وقع هذا في فرنسا وفي إيطاليا، وفي إسبانيا، الخ. المغرب ليس هو فرنسا في عهد فرانسوا الأول، وليس هو إيطاليا في زمن دانتي، وليس هو إسبانيا في عهد ايزابيلا القشتالية الى غير ذلك. هناك ظروف مخالفة. الأمة-الدولة في المغرب قامت على أسس اخرى، مكوناتها الأساسية هي الاسلام والعروبة والمزوغة. هذه التركيبة الثلاثية في الهوية المغربية لا يناقشها أحد، وأما التفاصيل فهي في مستوى آخر: هناك تنوعات في الأمازيغية مثلا، الخ. كيف يمكن تدبير هذه التفاصيل؟ هذه التفاصيل يمكن تدبيرها في إطار المجلس الوطني للغات والثقافات. المغرب تقدم من حيث القوانين والمؤسسات بالقياس الي دول أخرى. المشكل الكبير هو أننا لا نطبق النصوص التي نتوافق عليها بعد جهد جهيد. ينبغي أن ننتقل الى التطبيق الفعلي. هناك الدستور، هناك قانون أكاديمية اللغة العربية، وظهير إنشاء المعهد الامازيغي، ودسترة المجلس الوطني للغات والثقافات، فضلا عن الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي كان محل توافق وتطعيم بمختلف الآراء، فنحن لا يمكن أن نخرج من نصوص ذات مرجعية كبرى مثل الدستور، اللهم إلا إذا كنا نريد الانقلاب على الدستور. هذا الاقتراح، اقتراح الدارجة هو بمثابة انقلاب على الدستور، لأنه يطعن في اللغة العربية، ويطعن في إمكاناتها. واللغة العربية مهما كانت لها من مشاكل، لابد من معالجتها بالإكثار من استعمالها، لا بقتلها. هنا أستحضر ديوي الذي يقول ما مفاده «كلما ازدادت مشاكل الديمقراطية يجب الزيادة في الديمقراطية». بالإكثار من الديمقراطية ستحل مشاكل الديمقراطية، وبالإكثار من العربية ستحل مشاكل العربية. هناك اليوم انتشار للغة العربية عبر الفضائيات والمجلات والجرائد المكتوبة والالكترونية الخ، مما يدعم هذا المتصل اللغوي. لا ينبغي التركيز على الجوانب السلبية، المشاكل نسبية ولابد من قطع مسافات لإيجاد الحلول، وليس نبذها والبحث عن حلول غير معقولة. هناك كتاب ومؤلفون مغاربة يكتبون بلغة عربية متقدمة وحديثة نالت جوائز كبرى. ما هو المشكل الحقيقيّ المطروح في هذا الشأن؟ وما هي المؤسسة الوسيط الكفيلة بالقيام بهذا العمل؟ هناك مشكل حقوق وعدالة في هذا الوضع العام، ومشكل سياسي كبير. اللغة العربية مظلومة ومتضررة لأن النصوص المتعلقة بشأنها لا تطبق. واضح أن هناك مصالح في الإعلام والإشهار. الصحف العربية التي تكتب لم تكن مدعومة بالإشهار والصحف المكتوبة بالفرنسية هي المدعومة بالإشهار. وأذكر أنني حين نظمت ندوة في هذا الصدد، وأنا مدير لمعهد التعريب، قيل لي إن أصحاب الاقتصاد والإعلان هم الذين يطلبون الفرنسية. بطبيعة الحال هذه حجج واهية ومعروفة ويمكن دحضها بسهولة. واستمر هذا الوضع إلى أن وصلنا اليوم إلى إعطاء إشهارات بالعامية للصحف العربية، بعامية هجينة. فأصبح يعلن في صحف مكتوبة بعربية فصيحة بلغة هجينة قيل إنها أقرب إلى مسامع الناس! جل هذه الإشهارات لا تفهم. مثلا حين تكتب لي: واش عندك الضوبل؟ ديما عندي الضوبل، لاعندي التريبل. أنا شخصيا لا أفهم شيئا من كل هذا. فلو كتبت بلغة عربية فصيحة مبسطة لفهم الناس ببساطة. نخلق لغة هجينة، نلوث بها فضاءاتنا وفضاءات المتعلمين، مع العلم أن هناك كلمات في الدارجة هي عربية فصيحة ومفهومة ونفس الكلمات تحور لتصبح لا هي عربية ولا هي فرنسية. عجين وبغيل من الفرنسية والعربية والدارجة. وهذا غير مقبول، فنحن نسعى إلى ترقية المواطن بإشهار يمكن أن تتدخل فيه الدولة، كما هو الشأن في فرنسا وغيرها. هناك فضاء عمومي يوضع فيه الإعلان الإشهاري، وهذا الفضاء العمومي هو ملك للمواطن، فلا يمكن أن تعرض على المواطن إشهارا بلغة هجينة تفسد له ما تعلم في المدرسة. فالتلميذ الذي يقرأ أخطاء في الإعلان مثلا ويقرأ أشياء مغايرة في المدرسة يفسد له الإشهار بالعامية ما تعلمه، وهذا في الحقيقة اعتداء على حق المواطن في بيئة لغوية نقية سليمة. لا تتم التربية النقية الراقية بهذا الشكل، لأن التربية ليست فقط داخل المدرسة، التربية بيئة عامة تساهم فيها الدولة والمدرسة والأسرة والفضاء العمومي، وتنظيم الحقل العمومي هو من اختصاص المواطن ومن حق المواطن على الدولة أن تتدخل في الحقل العمومي لما فيه فائدة المواطن. هذا الفضاء العمومي لا يمكن أن نضع فيه أي لغة، لا نتدخل في الخواص، بينما الخواص يحتلون الملك العمومي والفضاء العمومي، ويمكن أن نقيد هذا الفضاء بصورة لا تقيد الحرية في شيء. لا يمكن أن نفسد الجهود التي يقوم بها المواطنون والتي تقوم بها الدولة، هذا يسمى إهدارا للجهود. إن نزول مستوى التعليم ليس فقط داخل المدرسة، هناك البيئة العامة للتعليم، والشيء نفسه يصدق على اللغة، لأن أول شيء في تعلم اللغة هي البيئة، فضلا عن الأبعاد الاقتصادية والقانونية والسياسية، فحين تستعمل هذه اللغة دون تلك، ألا تعتدي على غيرك؟ وحين تستعمل لغة هجينة وتترك اللغة السليمة، أليس الهدف من كل هذا إفساد لغة المواطنين، وبالتالي عقول المواطنين؟ فكلما كانت اللغة فاسدة، كلما فسد الفكر، وهذا كلام كونفوشيوس، الذي أحيل على قولته في كتابي عن »السياسة اللغوية في البلاد العربية«. ما هي حدود الأجندة الفرنكوفونية في هذا الرهان السياسي حول اللغة؟ مع الدستور الجديد، دخلنا في عهد جديد وفي هذا السياق، فإن هناك أجندة فرنكوفونية. غير أن داخل الفرنكوفونية هناك فرنكفونيات. هناك فرنكفونية مصلحية ضيقة إقصائية، وهناك فرنكفونية جادة متعاونة تضامنية. وهذه الأخيرة هي التي تعي بأن الثقافة الفرنسية، واللغة الفرنسية مهددة، وتريد أن نتضامن معها ونتكافل لنحفظ هذه اللغة وتلك الثقافة، ونحن سنتضامن لأننا نريد الانفتاح على الثقافة الفرنسية، ونريد تعلم لغتها ودعمها، هذا لا إشكال فيه. ولكن ليس دعم الفرنسية على حساب لغتنا وتراثنا. في المجرة اللغوية العالمية، هناك موازين قوى لغوية، هناك ما يسمى بالإمبريالية اللغوية للإنجليزية التي تهيمن على باقي اللغات. وهذا فيه نقاش طويل. حتى حين طرحت وزيرة التعليم الفرنسية القانون الجديد في فرنسا لإدخال الإنجليزية من أجل تعليم عدد من المواد في التعليم العالي الفرنسي، قامت حوله ضجة في فرنسا. هل نقبل الإنجليزية أم لا نقبلها؟ وانتهى الفرنسيون إلى أنهم يجب أن يقبلوا هذا الوضع وقبلوه، وبقي هناك من يقول: كيف نعمل لكي لا تقضي الإنجليزية على الفرنسية بصفة تدريجية؟ في كتابي الجديد عن السياسة اللغوية أوضح هذه المسألة. هناك قانون الغَلَبة عند ابن خلدون، وفي اللسانيات المجتمعية الحديثة يسمي قانون لابونس. ما هو محتوى هذا القانون؟ إذا تساكنتْ لغتان، يقول القانون، وواحدة أقوى من الأخرى، فإن اللغة الأقوى تبتلع اللغة الأضعف. هكذا فسَّرْتُ تعريب المغرب، والذي أتى من كون اللغة العربية في عهد الفتوحات الاسلامية كان لها جاه وعلم وترسانة من العلوم، وحين دخلت على شعب مثل الشعب المغربي الأمازيغي تبناها وتخلى عن لغته الأصلية. الشيء نفسه يصدق على فَرْنَسَة المغرب بعد الاستقلال. ليلة الاستقلال، كانت نسبة المتفرنسين من المتمدرسين 9% فقط، أي أن الاستعمار لم يستطع فرنسة المغرب، وإنما تفَرْنَسَ بعد الاستقلال، حيث بلغت النسبة حوالي 40%. نريد أن ننفّذ ما كان يخطط له الفرنسيون، وأحياناً بعض الكلام الذي يورده من أسمّيهم الأُمْزوغيّين، الذين يحكون أساطير حول الأمازيغية، مقابل المزوغيّين الذين يدافعون عن لغتهم وثقافتهم بطرق مشروعة. إذن هذا الكلام كله يقودنا إلى القول بأن هناك مصالح، وهناك من يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى نقطة الصفر، يعتقد أن إنقاذ المغرب يكمن فيما كان قد اقترحه وخطط له الفرنسيون في 1920 من فصل العرب عن البربر، الخ. المفارقة الغريبة هي أن المستعمر كان يسمي العامية المغربية arabe marocain، والآن هناك من يقول بأن هذه العامية المغربية ليست عربية. هناك الكثير من الخزعبلات والأغاليط. لنعد إلى تشخيص التعدد اللغوي الذي ينص عليه الدستور؟ الدستور المغربي الجديد يركز كثيراً على التعدد والتنوع اللغوي في المغرب. هذا شيء مفيد وجميل، ولكن تدبيرالتعدد صَعْب. هو مثل تعدد الزوجات، فإن خفتم ألا تعدلوا، ولن تعدلوا، فواحدة. كان الحل الأبسط، وما زال في بعض البلدان، هو لغة رسمية واحدة. وكل القوميات التي تأسست في أوربا دعت إلى قتل اللغات الأخرى، للاحتفاظ بلغة واحدة. وهذا لم يقع في المغرب، لم يكن هناك إرهاب لغوي ولا استئصال، ولا نريد له أن يقع، بل لا يمكن أن يقع اليوم حتى لو أردناه. هذا التصور الجاكوبيني، وليس اليعقوبي كما يترجمه البعض، كان هو السائد، في فرنسا، وما زال، وحتى أمريكا التي هي من أكبر الديمقراطيات العالمية، كانت فيها نزعة إلى الأحادية اللغوية، مع أنه في أمريكا كان هناك مستوطنون ألمان وفرنسيون وإسبان، ومع ذلك، سعوا إلى أن تكون البلاد موحّدة بلغة واحدة. أعود لأقول إن التعدد صعبٌ، وهناك تعددات، وأنواع كثيرة. في السويد نجحت الثنائية اللغوية، والتعددية، لأنها دولة ديمقراطية اجتماعية قولا وفعلا. التعدد رهان وتحد لنا، واختيار مصيري لا محيد عنه. فلنعمل جميعا على إنجاحه، مع العناية بأساليب التوحد كذلك. ما دور الديمقراطية والعدالة في التدبير اللغوي. لابد من الديمقراطية، ولابد من العدالة، لأن المنطلق في إقرار التعدد اللغوي هو الإنصاف والعدالة. حينما نقبل أن يتكلم الآخر لغته ولغة غير لغتك، هذا تنازل وعدل وإنصاف، سينطبق فيه على الآخر ما ينطبق عليّ أنا. وبما أن اللغة إذا قارنّاها بالهوية، وإذا قارنا الهوية بالكرامة، فإنه حين لا تتحدث لغة إنسان، فكأنك تحط من كرامته. هذا مبدأ الكرامة المتساوية. لابد أن تكون هناك عدالة لغوية موازية للعدالات الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية. أليست هناك قوانين تعتبر مرجعية وذات إجماع في هذا الشأن؟ هناك قوانين، غير أن القوانين ليست كافية رغم أنها مدخل أولي، ولكي تطبق القوانين، لابد من توفر ثقافة القانون. لابد من إنضاج المواطنة الواعية بحقوق كل الأطراف. وفي موضوع التعدد، تطالعنا تحديات كبيرة، وهذه التحديات حاضرة. فعلى الدولة وعلى الحكومة أن تُحِلّ القوانين بتطبيقها. فقانون الأكاديمية موجود، لكنه لا يطبَّق، وهو ميز ضد اللغة العربية، وليس له اسم آخر، وهذا ظلم للمواطنين الذين يجدون أنفسهم في هذه اللغة. وبالنسبة للمشهد الآخر الذي هو الأمازيغية، لابد من أن يكون هناك قانون أو قوانين لتفعيل رسمية الأمازيغية بناء على توافق سياسي، لأن الرسمية فيها رسميات. هناك رسمية مرتبطة بما يسمى الترابية، حيث تكون اللغة سيدة على تراب محدد ومعين، وهناك الرسمية المرتبطة بالشّخْصانية، أي بالشخص، إذا ذهب إلى مكان واحتاج إلى خدمات لغوية معينة، يجب أن توفر له هذه الخدمات. هناك صيغ للرسمية ينبغي التوافق عليها. وهناك التنوع الأمازيغي، العلاقة بين اللغة المعيارية التي يشتغل عليها المعهد والتنوعات الجهوية، الريفية، والسوسية، والمازيغية، الخ. هناك عمل قوي ينتظر الحكومة، في النصوص التي تحتاج إليها العربية كذلك. وفي بلدان مثل كندا، هناك ميثاق للغات، يضع القوانين والضوابط التي يمكن أن تكون بين اللغتين، الفرنسية والإنجليزية. بالإضافة إلى هذا، هناك لغات الانفتاح، وهي لغات تطرح إشكال ما هي اللغة أو اللغات التي يجب أن تكون لها الأولوية في هذا الانفتاح. وبحكم الاستعمار، فنحن ورثنا اللغة الفرنسية، والفرنكفونية حاضرة في المغرب بالتباساتها، فمرة تقرأ قراءة استعمارية، ومرة تقرأ قراءة إيجابية. ويبدو من المعقول الحفاظ على الفرنسية كلغة انفتاح، ولغة ملء بعض الخانات العلمية. ولكن لغة الاتصال والعلم في العالم هي الإنجليزية، حتى في دول مثل فرنسا، والدستور المغربي يشير الى شيء من هذا، حيث ينعتها باللغات الأكثر انتشاراً، وهذا ينطبق على الإنجليزية. فهل ينبغي أن ننقل المغرب إلى وضع آخر؟ المرحوم الحسن الثاني كان قد اقترح أن تدخل الإنجليزية في الابتدائي، وهذا موجود في الميثاق، ولكن هذا الكلام لم يُطبَّقْ. مشكلتنا في المغرب أننا نقضي وقتاً طويلاً في الاتفاق، ثم نخرج ونبدأ المناقشة من الصّفْر، وكأن الوثيقة لا توجد، وهذا إهدار للوقت، فقد كان ينبغي تطبيق الميثاق في شموليته، فالبرامج اللغوية في الميثاق لم يطبق منها شيء، وعدنا إلى النقاش من جديد. وبعد 50 سنة، سنعود الى النقاش من جديد. كيف يمكن أن نغير اختياراتنا اللغوية؟ المجتمعات المتقدمة تغيّر من اختياراتها اللغوية بناء على معطيات وأحداث جديدة. فالإنجليزية صعدت بأرقام مثيرة في المجلات العلمية، وصارت تنشر بنسبة 85%، وصارت المؤتمرات العلمية تكاد تتحدث بالإنجليزية فقط، حتى في قلب باريس. منذ 1996، وأنا لا أتحدث في مؤتمرات فرنسا إلا بالإنجليزية. ولماذا يُحرم المغاربة من الإنجليزية؟ ولماذا لا تدرس المواد بها في الجامعة، مع أن الأستاذ والطبيب والإعلامي ينادون بها؟ وحتى المراجع العلمية بالفرنسية لم تعد كافية. نحن لسنا في حرب لغوية، نريد برنامجا .لسانيا، نريد التوافق بالطرق الديمقراطية، بالتداول والاستماع بروية، وحين يصدر قانون يُطبّق. وهذا يقتضي أن يكون قرارنا السياسي قوياً. إذا اتخذ القرار يطبق، لأن مشاكل التعليم آتية من التردد اللغوي من الاستقلال إلى الآن. منذ الاستقلال، كان يؤتى بوزير للتربية والتكوين يعرّب، والذي يليه يُفَرنس وهكذا، في فترة قصيرة، ثم يأتي ثالث يغيّر إلخ. التردد في القرار مشكل كبير. القضية قضية قرار سياسي لغوي واضح. إضافة إلى كل هذا، هناك حاجة إلى الخبرة، لأنه مع الأسف، أصبحنا إزاء نقاشات غوغائية، كل واحد يكتب في هذا الموقع الإلكتروني أو ذاك، ويطبل ويغرّد بدون معرفة. السؤال المطروح هنا هو: مَنْ من هؤلاء مطلع بما يكفي على ما يقع في العالم؟ فهل اقتراح إدخال الدارجة العربية في التعليم مسألة جديدة؟ أين نحن من اتهام طه حسين في الأربعينيات بدعمه للدارجة، ثم تراجعه وإنكاره ذلك، واقتراحه عكس ما نسب له، وأن هذا الكلام منكر؟ وأين ما كتبه سلامة موسى، وأين ما كتبه اللبنانيون، ولماذا رفض؟ هل اتعظنا؟ هل أجبنا عن المشاكل التي كانوا يطرحونها في الأربعينيات؟ أليس هذا احتقار للمثقف المغربي، الذي له ذاكرة وله تراث وله اطلاع؟ هذا المثقف الذي يعمل ويتعب؟ بعد ذلك، يأتي الغوغائي ليقول: أنا أقترح كذا وكذا، وكأنه «برغوث على ظهر قملة» يسميها «ندوة دولية»، ثم يقع نقاش وتحدث غوغاء أخرى. هذا قتل للثقافة، وقتل للعلم، وقتل حتى للسياسة. ما معنى أن يأتي شخص ويقول إنه صديق الملك، وقد رفع له مذكرة؟ أين نحن من الأسلوب العصري المتبع في مثل هذه الحالات: الاستفتاء اللغوي؟ ما المانع؟ نستفتي الناس فيما يريدون وما لا يريدون. أيمكن أن نستمر فيما أسميه «الحجر اللغوي» على المواطن؟ أين هي الحقوق اللغوية؟ الاتجاه الديمقراطي البسيط هو أن يكون الحاكم في خدمة المحكوم، وليس العكس. أما القرارات «الأبراجية» فعهدها قد انتهى. المغاربة يجمعهم الاسلام الذي هو ثقافة قبل أن يكون ديانة، تجمعهم العروبة واللسان العربي وليس العرق، كما أن المُزوغة من اللسان. هذه مقومات ينبغي أن تكون في صالحنا. والملكية في التأويل الصحيح مؤسسة جامعة للمغاربة، والمغاربة ينظرون إليها كذلك. أما حين يحاول البعض أن يُدخل الملكية في منازعات فئوية، فهذا ينال من رمزيتها وهيْبتها. هناك أيضا انشغال رئيس الدولة، وهو الأمر الذي تجلّى في الخطاب الملكي في 20 غشت الماضي، والذي كان تشخيصا لأسباب فشل المنظومة التعليمية؟ صحيح أن رئيس الدولة ينشغل بمشكل التعليم ككلّ، لكن أين هي الحكومة، وأين هي الأحزاب السياسية والنقابات، الخ؟. فهذا ينبغي أن يكون مشكل الجميع، كما هي قضية الصحراء. والعدالة أيضا، وإقرار الديمقراطية، كل هذا ينبغي أن يكون مشكل الجميع. وكلما تحسنت هذه الأمور سيتحسّن التدبير اللغوي. فالتدبير اللغوي لا يكون في فراغ، وإنما يكون بمحيطه، ببيئته السياسية والثقافية والاقتصادية. وبطبيعة الحال، فحين نذكر الاقتصاد، فإن اللغة مرتبطة دائما بالمصالح. فرنسيس بونج كان يقول: »ليستْ اللغة الفرنسية لغة التواصل بيننا فقط، بل هي لغة نعيش بها«. هناك عدد من الناس يعيشون بها كذلك في هذا البلد، وأحيانا يحتكرون بعض المصالح، وهذا واضح، وينبغي ألا يكون فيه سرّ، أو شيء تحت الطاولة. في إطار توفير المعلومة، ينبغي أن تكون المعلومة بين أيدي الناس. لكن الأهمّ من هذا هو أن المعرّبين أنفسهم لهم مسؤولية كبرى، لأنهم يعيشون بالعربية، ولا يؤدون الواجب تجاهها، بتطويرها، والذود عنها، الخ. ما هو دور أو مسؤولية المشتغلين باللغة العربية؟ الذين يشتغلون بالعربية لا يقومون بمجهود للكتابة واستعمال لغة عربية متوسطة في الإعلام وغيره، تحمل المعنى والثقافة والحضارة للمواطن حتى تكون هذه اللغة جذابة ومفيدة، ليست فقط قضية شكل. اللغة ليست شكلا، بل هي في جانبها الثقافي أساسا معنى ودلالة. مشكلتنا هي أنّ لغتنا نفرغها من المعنى. خذْ مثلا كلمة »ديمقراطية«، لو فتحتَ التلفزيون تجد أن الجميع يستعملها في نقاشاته، لكنك لو تمحّصتَ كلامهم لوجدت القلة القليلة هم الديمقراطيون، ومعظمهم استبداديون. معنى هذا أن الكلمة تُفرغ من معناها. إن العرب يكاد يكونون ظاهرة صوتية، كما قيل، كلامهم بدون محتوى. نحن شركاء في مجتمع جديد، واللغة تنتشر عن طريق الشراكة، أقصد اللغة الجيدة المحمّلة بالمعاني، لكن لا بدّ من مؤسسة فيها خبراء قارين من الطراز الرفيع، موجّهين، لأنه ليس كل واحد متخصص في قضايا اللغة، وحوسبة اللغة، أو في قضايا سياسة اللغة. المطلوب هو القيام بعمل توافقي على المستوى السياسي، ومطلوب تفعيل المؤسسات الموجودة، وتفعيل الدستور في مستويات مختلفة، وألا ننتقل من بيئة نكون فيها في بيئة سياسية محترمة إلى بيئة خارجة عن السياسة. وأعود لأقول إن رفع ملتمسات باستمرار إلى الملك، هو نقطة الصفر بالنسبة إليّ في السياسة، بمعنى أنه يقصي الأحزاب، ويقصي المؤسسات وكل شيء. هذا ليس قصده تقليص دور الملكية، هذا مجرّد تصور للعلاقة بين المؤسسة الملكية والأطراف الأخرى المواطنة والممثلة. ينبغي أن يكون لها دور ورأي. ولا يمكن أن يقفز شخص، كيفما كان نوعه على آراء المواطنين بدعوى هذه العلاقة أو تلك. ما تأسفت له هو أن يبدأ النقاش حول إصلاح التعليم بخرجة غوغائية. فهل نريد بالفعل إصلاح التعليم؟ هذه الخرجة الإعلامية إذا كانت اعتباطية انتهى الكلام. وأما إذا كانت موجّهة، فهذا نبأ سيّئ بالنسبة لإصلاح التعليم. ليست هناك إرادة في إصلاح التعليم. ما يهمني في هذا الأمر هو الإرادة السياسة في إصلاح التعليم. وإن لم تكن هناك إرادة، فلْنقلها ونريح الناس. لأن البدء بالحروب اللغوية غير مقبول ولا فائدة منه. إن إصلاح التعليم يكون بالتروي وبالحجج وبالإقناع، وبالمعطيات الموضوعية وبالتوافق بين الأطراف السياسية وبين الخبراء والعلماء الذين ليست لهم نية مبيّتة. إصلاح التعليم عليه أن يبدأ بما تركز عليه عدد من التقارير، بإشكالات ثلاثة هي: الفاعلية والنجاعة والإنصاف. وهذا يهم كل الأهداف المرسومة لإصلاح التعليم، وتوفير الأدوات، وتوفير تعليم منصف، وتوزيع الكلفة. وفي الجانب اللغوي تدخل مسألة الإنصاف، ولا بد من التوفيق بين الخبراء والسياسيين وممثلي المواطنين، وآرائهم. هذه هي التحديات الكبرى.