في سياق تقريب المسافة بين الصيغة الشعبية العامية وصيغة المدرسة، يأتي دور ما يسمى بالتدخل اللغوي، أي تدخل الدولة أو غيرها، في إطار التخطيط اللغوي، من أجل حماية لغة الهوية وتطويرها والنهوض بها، وتيسيرها، ونشرها، إلخ. ليست هناك لغة اليوم تترك وشأنها، بليبرالية مطلقة، وإلا دحرتها اللغات القوية في السوق اللغوي المحلي أو العالمي، الذي تبرز فيه لغات قوية وتخفت أخرى، وهذا ما حدث للفرنسية والإنجليزية والعربية، بعد أن انقلبت أدوارها. على الدولة أن تسعى من أجل النهوض بشعبها لغويا، أي بلغاته، وترسم خطط دعم اللغات الوطنية والنهوض بها. وقد نص الدستور على ضرورة دعم اللسانين العربي والمازيغي. وفي ما يخص اللسان العربي في الإعلام، يجدر أن يكون مهذبا ما أمكن، لسان الثقافة والتنوير، لا اللسان السوقي الهجين. ليس صحيحا، كما ادعى السيد عيوش، أن السيد بنكيران، رئيس الحكومة، قاد حملته الانتخابية بما أسماه السيد عيوش لغة المغاربة، يقصد الدارجة. حملة حزب العدالة والتنمية الانتخابية لم تختلف عن حملة الأحزاب الأخرى جذريا في ما يخص اللغة، بل إن الأحزاب كلها، في ما سمعت، استعملت صيغ اللسان العربي المتوفرة، الفصيحة والوسيطة والعامية، حسب السياق. لقد كان لسان التداول الديمقراطي بالسجلات المختلفة، وليس بالسجل العامي منفردا، بل إن هذا غير ممكن، لأن الحملة الانتخابية تحدثت عن الديمقراطية والعدالة واقتسام الثروات والتوازنات الاقتصادية والاستبداد واقتصاد الريع ومحاربة الفساد، إلخ. فهلا زودنا السيد عيوش بمفردات ومصطلحات خاصة بالعامية الشعبية تعبر عن هذه المفاهيم؟ وأما نعت العامية بأنها لغة المغاربة فهذه أغلوطة كبيرة، لعل السيد عيوش سقط فيها، كنتيجة لتأثير زعماء الدارجة القادمين من فرنسا إلى المغرب، أمثال بنطوليلة وحجاج وكوبي، إلخ، وما أكثرهم. المغاربة متعددون لغويا، ليست لهم لغة واحدة، بل لغات، وكذلك لهجات وسجلات لغوية متنوعة. وينبغي ألا نخلط اللغة باللهجة أو بالسجل اللغوي. فإذا بحثنا في السجل اللغوي للمغاربة، ماذا نجد؟ ضمن سجلهم اللغوي، نجد العربية الفصيحة والوسيطة والدارجة العامية بتنوعاتها حسب المناطق والطبقات المجتمعية، بما في ذلك الحسانية، والأمازيغية بتنوعاتها الشلحية والأمازيغية المتوسطة والريفية، ونجد كذلك اللغات الأجنبية، الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والصينية، إلخ، حسب المتكلمين. إلا أن ألسن الهوية محدودة في لسانين هما اللسان العربي واللسان الأمازيعي، حيث إن حوالي 95 في المائة ناطق باللسان العربي بتنوعاته، وحوالي 35 إلى 40 في المائة ناطق باللسان الأمازيغي بتنوعاته. وينص الدستور على ضرورة دعم وتقوية هذين اللسانين. ويسهر المجلس الوطني للغات والثقافات على العمل على التوازنات بين التنوعات اللغوية والثقافية المغربية، بعد أن تفعل أكاديمية اللغة العربية من أجل النهوض باللغة العربية وتطويرها وتيسير تعلمها، إلخ. التصور الفرنكفوني للفرنسية عند عدد من المغاربة يضر بها وبمصالحها. ينبغي أن يكون واضحا أن الفرنسية لا يمكن أن تكون ضرة منافسة للعربية في وظائفها؛ فالذين ما زالوا يقرؤون فيها لغة الانفتاح الثقافي والفكري والعلمي لا بد أن يعوا أن هذه السمات يجب أن تنطبق أولا على اللسان العربي، وعلى اللسان الأمازيغي، بصفة تكاملية وتراكمية؛ فلا يمكن أن نحكم على اللسان العربي بأن يكون محصورا في ما هو تراثي أو قديم، أو بأن يكون لسان تعليم الآداب والدين والفلسفة الإسلامية، دون العلوم الدقيقة والتقنيات، دون أن نقتله تدريجيا. هذا التصور التوزيعي لأدوار الفرنسية والعربية كولونيالي بالأساس. ثم إن العربية ليست كلاسيكية، كما يردد البعض، فهذا تصور حمولته أن العربية قديمة لا تصلح للعصر، على غرار الإغريقية الكلاسيكية التي اندحرت؛ ففي الوقت الذي شاع فيه مصطلح عربية معيار للإحالة على اللغة المدرسة في التعليم، مازالت بعض الأوساط التي لا تريد للعربية خيرا تستعمل مصطلح العربية الكلاسيكية الذي يختلف مضمونه عند الألمان أو عند الإنجليز، بل حتى عند الباحثين الفرنسيين ذوي النيات الحسنة، أمثال مونتاي وبييا وغيرهما، الذين يتحدثون عن عربية عصرية أو عربية حية، إلخ. وللأسف أن بعض المتحدثين المغاربة عن شؤون العربية يحملون كثيرا من المصطلحات والتمثلات الكولونيالية؛ فأين التحرر، وأين الثورة؟ وليست العربية المعيار بأقل جاهزية من اللغات التي تدرس بها العلوم والرياضيات، في كوريا وأندونيسيا وفنلندا وإسرائيل، واحذروا، أخواتي إخواني الإعلاميين والباحثين، أن تكرروا مقولات كولونيالية دون أن تشعروا بذلك. وأما عن الفرنسية، فهي لغة جميلة، دون شك، ونحن تعلمناها، ولا نريد لها زوالا، وستكون أجمل عندما تتحرر من حمولتها وتمثلاتها الكولونيالية مما تحمله إياها جماعة من المثقفين المغاربة ومن المثقفين الفرنسيين. إن معركة اللغات تقتضي ربط شراكة عربية-فرنسية من أجل الدفاع عن التعدد اللغوي الذي يقوم على قطبية لغوية متعددة ستحل فيها العربية مرتبة أكيدة في أعلى هرم المجرة اللغوية العالمية، كما تنبأ بذلك عدد من التقارير الموضوعية حول مستقبل اللغات، وقد تكون الفرنسية أقل حظا في احتلال مكانة فيها إن هي لم تتخلص من سماتها الكولونيالية، وتدخل في شراكة ندية مع العربية، كما نادى بذلك عدد من حكماء الفرنسية وحكماء العربية. وفي تصورنا لمسألة اللغة أو اللغات بالمغرب، ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أننا في زمن الثورة والإصلاح، وأن أي لغة لا تحمل أفكار الثورة العربية لا يمكن أن تكون لغة مواكبة. ولمن يريدون أن يحصروا اللسان العربي في حربهم ضد جماعة من الإسلاميين، عليهم أن يتأملوا تجربة طه حسين الذي ثار من داخل الأزهر على لغة الأزهريين المحنطة، وحرر هذه اللغة وجعلها جميلة جذابة. أليس دور المغاربة، واللسان العربي لسانهم، أن يجعلوه لسان الثورة والإصلاح والجاذبية، عوض أن يكرروا باستمرار أن اللسان الجاهز لذلك هو الفرنسية (ونسوا أن يضيفوا في فرنسا)؟ ثم من أين أتوا بهذا التعدد اللغوي الذي يحتم أن تكون النشرة الرئيسة في قناة وطنية عمومية بلغة أجنبية؟ هل يمكن أن نجد مثيلا له في فرنسا حتى نحاكيه في بلادنا، نحن المغاربة؟ نتمنى أن نتحرر بلسانينا العربي والأمازيغي، ليس ضد الفرنسية، بل ضد ما يمور في أنفسنا من أساطير وأغاليط وأوهام، تفرش للاستبداد والإقصاء، باسم التعدد. إن اللغة قلب وعقل. كل مواطن ينبغي أن يكون قلبه مع لغته، فيحبها لأنها تسكنه ويسكنها، فإن ماتت مات جزء منه فيها. وكل مواطن يوظف عقله في التعامل مع اللغة حين يتواصل ويتبادل، فيتواصل بلغة جماعته أولا، إن استطاع، وإلا تواصل بلغة جماعة غيره. فأين قلوبكم وعقولكم في كل هذا، يا مواطني الأعزاء؟ باحث وأكاديمي، رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب