ها قد هبت رياح التغيير والثورة في بلادنا العربية، بعد أن هرب بنعلي، وتنحى مبارك، وسيسقط عبد الله صالح والقدافي، وكل المستبدين الذين أجرموا من أجل السلطة والكسب غير المشروع، ضدا على مصالح الشعوب وحقوقها. وقد بزغ الربيع في المغرب بعد أن استفاق الشعب والشباب من أجل وطن أفضل، ونادى الملك بالإصلاح الشامل. فهل يسود التمازج من أجل السيادة والكرامة والحرية، والحقوق والعدل، والمسؤولية والمحاسبة ونبذ الفساد، ونشر المعرفة والتمدن والحضارة؟ إن التدبير السلمي الحضاري للتغيير المرتقب والملح لن يفلح دون تغير جذري في التمثلات والآليات، والقطع مع التمثلات والممارسات المتحجرة البائدة، بإنبات قيم حضارية وثقافية جديدة، ونهضة فكرية وعلمية، وآليات للحركية والتفاعل والتمازج. إننا بحاجة إلى القطع مع الجهل والجاهلية التي تنخر بيئتنا في مجالات مختلفة، وتعيق تنميتنا وتقدمنا، وتمنعنا من التمتع بحقوقنا، وإلى إقرار ديمقراطية ناجعة، تهدف إلى الرقي والانخراط في القرية الكونية للمعرفة والحقوق والواجبات. لقد أتاح الله للمغاربة والعرب وغيرهم من الشعوب، بفضل الإسلام، فرصة أن ينخرطوا في ثورة فكرية/سياسية/علمية عمت أنحاء المعمور، نقلتهم من الجهالة والوثنية والقبلية إلى النور والمعرفة والثقافة والآداب الراقية. وها هم الآن بصدد فرصة جديدة، بصدد ثورة 'عربية' كونية، أسسها الحقوق والقَوْنَنَة والدمقرطة، بما في ذلك الحق في المعرفة، وفي المعاملة بالمعايير الكونية، القاطعة مع الخصوصيات القاتلة. الهوية فردا وجماعة على مستوى التمثل، يطالعنا مفهوم أساسي هو مفهوم الهوية، لابد من الاتفاق على مضمونه، لأنه قد يجر الخيرات أو الويلات، حسبما نضمنه إياه، وبحسب حركيته أو سَكَنِيَتِه. وهناك مفاهيم أخرى ترتبط به مثل التنوع أو الاختلاف، والتجمع أو الوحدة، والخصوصية والكونية، الخ. قد تكون الهوية فردية أو جماعية. والفردية مفتوحة عموما، ولكن الجماعية مقيدة. الحق في الاختلاف والتنوع يقابله (وينافسه) الحق في التوحد والمراكمة، بغية إقامة هوية جماعية أكبر حجما، تكون فاعلة في التنمية، والقدرة على المنافسة، والتموقع ضمن مجموعات إقليمية كبيرة أو كبرى، وصولا إلى الجماعة الكونية، التي لا مناص من الانخراط فيها، بحقوقها وقَوْنَنَتِها وواجباتها ومعاييرها، الخ. وتدبير التوازن بين الخصوصي (أو التنوع) والعمومي (أو التوحد) لا يمكن أن يكون إلا عبر الديمقراطية، وهي آلية أصبحت كونية. بين التنوع والتوحد هناك إقرار واعتراف دولي ووطني بالخصوصية والتنوع والاختلاف، وهناك إغناء للهوية الوطنية عن طريق التجمعات الصغيرة. فقد تكون فاسيا أو ريفيا أو سوسيا أو أندلسيا أو دكاليا، الخ، بعادات وطقوس وتجارب وقيم خاصة، قد تنفع عند جماعات أكبر منها، إن هي تبنتها، وقد تدبر في مستوى جماعة حضارية أو قروية. وقد تكون مازيغيا أو عروبيا، بهوية أكبر حجما، تدبر جهويا أو وطنيا. وبعد ذلك، أنت مرتبط بوطن أكبر حجما هو المغرب، وينبغي أن تصبح مغربيا، بهوية أوسع، وبروافد وسمات تمازجية تنفي بعض سمات الاختلاف. لقد تمازج العرب والأمازيغ في المغرب أعراقا وثقافات ولغات، إلى جانب أعراق وثقافات ولغات أخرى أقل منظورية، فكونوا هوية المغرب. والمغرب عربي عموما، بهوية عربية سياسية وثقافية مشتركة بين مختلف الأقطار العربية، وإن كانت خصوصياته مازيغية، لأن التراكم يحدث بالعروبة بمعناها التدبيري والحضاري والثقافي والسياسي العام. وهو عربي لأن ثورته عربية، لا يثور حين تثور فرنسا أو إسبانيا، بل تونس ومصر، وهو عربي بلسانه، وأكبر ما يشاهده من القنوات التلفزية بلسان عربي، وهو يدخل على الفيسبوك العربي، وعلى الأنترنيت العربي، الخ. بالإحصاء يتحدد سلوكه اللغوي الغالب. والمغرب إسلامي، ذو هوية إسلامية، يشترك فيها مع التكتلات والبلدان الإسلامية، وإن امتزجت فيه الديانات الأخرى، يهودية، أو نصرانية، الخ. والمغرب كوني، ذو هوية كونية، لأنه انخرط ضمن مجموعة من الدول والتكتلات الدولية، بقيمها وواجباتها وحقوقها ومعاييرها وآلياتها. وهناك تكتلات صغرى، فرنكفونية وإسبانوفونية وإنجلوفونية وأندلسية وإفريقية، الخ تنضم إلى هذا التعدد الهوي. ديناميات الاختلاف والتعدد في تفاعل مع ديناميات التوحد والمراكمة، وقد تُفَرَّغُ الواحدة لفائدة الأخرى، بحسب المصلحة، والتدبير الناجع. وعليه، لا يمكن قبول هويات سكونية موغلة في التنوع، أو موغلة في الكونية، تنفي الواحدة الأخرى. لذلك وجب التوافق في التدبير، والاحتكام إلى إرادة الشعب في تحديد ما يراه مناسبا لخدمته محليا ودوليا. أكيد أن الاختلاف المفرط قد يؤدي إلى التشتت أو التسيب، وأن التجمع أو الوحدة المفرطان قد يؤديان إلى نبذ الاختلاف. فالهوية الجماعية يتحدد حجمها بقابلية المراكمة. الهوية المغربية أكبر حجما من هوية القبيلة أو الجهة، والعروبة والإسلام هويات إقليمية كبيرة، والهوية الإنسانية الحضارية والعالمية يشترك فيها الجميع. لقد ظلت العروبة منحسرة في عقر دارها في شبه الجزيرة العربية إلى أن أتيحت لها فرصة نشر الإسلام فاتسعت رقعتها ورقعته، وها هي ثورة تونس ومصر تتحول إلى منجز إقليمي يتسع إلى جل أقطار المنطقة، ثم قد يمتد إلى آسيا فأوروبا، لينال صفة الكونية. وبعبارة أخرى، إن حركية المراكمة مرتبطة بالفرص التي تزيد أو تنقص حسب مؤهلات الهوية وحركيتها. المسألة اللغوية وإذا عدنا إلى المسألة اللغوية، فإن ما نحتاج إليه في المغرب ليس إصلاحا، بل ثورة يحدد ملامحها الشعب فيما يخص اختياراته وحقوقه اللغوية، وكذلك واجباته في هذا الباب، وإقامة ديمقراطية لغوية شعبية يلتزم بممارستها الجميع. لقد تميزت الاختيارات اللغوية منذ الاستقلال إلى الآن بالحِجْر والوصاية التي تمارسها الدولة من فوق على المواطن، وكأنه يفتقد إلى الرشد اللغوي ولا يستطيع تحديد اختياراته. لقد تكونت للمغرب هوية لغوية مركبة مازجة بين العروبة والمزوغة، بعدما انتشرت العربية في المغرب بفعل انتشار الإسلام، ونزوح قبائل عربية مسلمة وافدة إلى المنطقة امتزجت بالقبائل المازيغية، فتعرب منها من الأمازيغ من تعرب، وتمزع من الأعراب من تمزغ، ونشأت لغة (أو لهجات) يغلب عليها النظام اللغوي العربي الهلالي، وإن تأثرت في نظامها النحوي والصرفي والمعجمي بالمازيغية، ولغة (أو لهجات) مازيغية جديدة داخلتها المفردات العربية، وبعض الخصائص النحوية والصرفية العربية، وإن ظلت مازيغية بالأساس. اللغة في المغرب إذن أساسا بغيلة، أو مركبة مازجة لعروبة اللغة ومزوغتها، مع غلبة لهذا العنصر أو ذاك. وعبر التاريخ، كان التداخل والتأثير اللغوي شعبيا بالأساس، أي بين اللهجات التي يتكلم بها الشعب، ولم تلعب العربية الفصيحة إلا دورا ثانيا، بل إنها اعتمدت نوعا من التدبير العفوي في هذا المضمار. ولم تكن للدولة من عهد المولى إدريس إلى الحماية أي خطة لغوية محددة فيما نعلم، ولم تتدخل الدولة لنصرة هذه اللغة على تلك، كما حدث في فرنساوإسبانيا، مثلا، حين تدخلت الدولة بقوة (وإرهاب أحيانا) لنشر لهجة "الأويل" oil، أو لهجة الكاستيان، على حساب لهجات أخرى. كان التدبير عفويا عمليا بالأساس. وفي عهد الحماية، نزل ليوطي بخطة لغوية متكاملة، مبنية على إضعاف اللغة العربية الفصيحة لصالح الفرنسية، وتشجيع اللهجات (العربية والمازيغية) على منازعتها، وتهديد بقائها. وبعد الاستقلال، أقامت الدولة مخططا للتعريب الفصيح (لا التعريب الشعبي الدارجي)، بغية التحرر من هيمنة الفرنسية، باعتبارها لغة المستعمر. إلا أن ضبابية الرؤية، وضعف التخطيط، وازدواجية التدبير، جعلت اللغة الفصيحة تحقق أهدافا محدودة، سرعان ما زادت في التسيب والفوضى التي تطبع المشهد اللغوي. وقد بزغ في المشهد ثلاث حركات لغوية. حركة مازيغبة مطالبة بحقوق لغوية جلها مشروعة، وحركة دارجية تؤطرها جهات خارجية فرنكفونية بالأساس، وحركة فرنكفونية شبه متطرفة، مضادة لألسن الهوية واللغات الكونية (مثل الإنجليزية والإسبانية على الخصوص). من الحِجْر إلى الرشد اللغوي وقد تميزت فترة ما بعد الاستقلال بممارسة الدولة للحجر اللغوي على المواطن، وهضم كثير من حقوقه اللغوية، بما فيها حقه في التحرر اللغوي، الذي حلت محله تبعية لغوية تريد في المجمل فرض الفرنسية في وظائف لا يمكن أن تكون فيها، ضدا على ما هو مدستر بخصوص رسمية اللغة العربية. وقد اقترنت الوصاية والتبعية بازدواجية في التعامل مع الرسمية: رسمية قانونية de jure (للغة العربية)، ورسمية فعلية de facto (للفرنسية). ومعلوم أن الدولة قد تدخلت لنبذ الإسبانية من التعليم في المناطق الشمالية، بهدف توحيد لغة التعليم والمعاملات بالأجنبية، مما أضاع فرصا على هذه المناطق، كما أنها حالت دون تطبيق مقتضيات ميثاق التربية والتكوين المتعلقة بسياسة اللغات الأجنبية، وخاصة للحد من انتشار الإنجليزية. فهذه الوصاية حالت دون تطبيق مبدأ التعدد اللغوي الذي تتغنى به. ومن مظاهر وصاية الدولة اللغوية على المواطنين عدم تطبيقها لقانون أكاديمية اللغة العربية، وعدم تطبيقها لمقتضيات ميثاق التربية والتكوين الخاصة باللغة العربية، إضافة إلى ما يتعلق بتعددية التعليم التأهيلي والتعليم العالي، الخ. لقد أضرت الدولة والحكومة فعلا باللغة العربية حين امتنعت عن تطبيق القانون المنظم لأكادميتها، الذي تم إنجازه قي سنة 1999، قبل نص الميثاق. وتم تعطيل صدور نص القانون أربع سنوات، ثم الامتناع عن تطبيقه ثمان سنوات أخرى، أي 12 سنة في المجموع. وفي مقابل هذا، لجأت الدولة إلى إصدار ظهير إنشاء المعهد الملكي للأمازيغية، وعملت على تطبيقه فورا. وليس هناك عيب في هذا الإجراء، بل إن العيب في ما يشم فيه من إذكاء النزاع بين العروبة والمزوغة، وكذلك تنزيل الظهير عمليا منزلة أعلى من القانون. لقد عانت العربية مدة طويلة من الحاجة إلى مأسسة في مستوى الرهانات، ولم يكن معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، الذي كانت أغلب أطره متوسطة، ومنها أطر ملتزمة وشريفة، ولكن الأغلبية الساحقة معادية للعربية وللعمل، وبميزانية سنوية تراوحت في أوجها بين مليون ومليوني درهم، لينهض النهوض المناسب باللغة العربية. ولقد قمت شخصيا، بمعية بعض الزملاء المخلصين، بإقناع لجنة التربية والتكوين أولا، ثم الحكومة والبرلمان، بإخراج نص هذه المؤسسة المتميزة التي ستخدم اللغة العربية في المستوى المطلوب. إلا أن لوبيات عديدة، بتواطؤ مع الدولة، حالت دون تحقيق هذا المنجز الكبير. إن المغاربة بحاجة إلى أن يتمتعوا بحقوقهم اللغوية كاملة دون ميز، وبحاجة إلى تطبيق القوانين الصادرة في شأنها، حتى تصبح الدولة دولة الحق والقانون، بل إنهم بحاجة إلى تغيير التبعية بالتحرر، والوصاية بالرشد والديمقراطية، ودولة الظهائر بدولة القوانين، والازدواجية بالشفافية، وقرن القول بالفعل. وبعبارة واحدة، إننا نحتاج إلى ديمقراطية لغوية وديمقراطيين لغويين يحترمون حقوق الشعب اللغوية واختياراته. هذه الأسس ضرورية للثورة اللغوية، المواكبة للثورة السياسية والثقافية والحضارية، ولثورة العلم والمعرفة، التي لن تقوم إلا بإصلاحات جذرية لأنظمة التعليم والبحث العلمي. لسانان وطنيان بتنوعات لهجية في المغرب لسانان وطنيان بتنوعاتهما اللهجية: اللسان العربي واللسان المازيغي. ونحتاج إلى دسترتهما معا كلسانيين وطنيين، والإقرار بتنوعاتهما دستوريا. اللغة العربية لم تدستر كلغة وطنية، ومن المهم أن تدستر كذلك، ويجب أن تتوقف الحملات ضد وطنيتها. ومن المهم أن تدستر المازيغية باعتبارها لغة وطنية، وهذا مهم جدا، خلافا لما ذهب إليه البعض. فوطْنَنَة اللغة في الدستور ليست شيئا تافها أو غير ذي جدوى، كما يقول بعض المزايدين. ومن أهميته الحفاظ على بقاء اللغة لسانا للوطن، وعدم انتشار العداء لها، أو إعاقة النهوض بها، الخ. ولقد عانت العربية في هذا الباب أكثر مما عانت المازيغية. وطننة اللغتين ستجعل من كل لسان رأسمالا للمغاربة، رمزيا وتواصليا. لقد وفق الخطاب الملكي بأجدير حين أكد أن المازيغية ملك للمغاربة جميعا. إلا أن هذه المقاربة الوطنية لم تواكبها إجراءات تجعل المغاربة يفتون فعلا في شؤونها، كما أفتوا في شؤون العربية. بل إنهم غيبوا حين اختير حرف تيفناغ، وحين أقر انفراد المعهد بتحديد شروط المعيرة، الخ. وينبغي الحفاظ على التنوع اللغوي (المتمثل في اللهجات العربية والمازيغية)، باعتباره مصدر غنى، لا إفقار، للهوية اللغوية الوطنية. ولابد من الإشارة إلى أن العربية والمازيغية، رغم تمايزهما، ينتميان إلى جذع لغوي واحد هو الجذع أو الفصيلة السامية الحامية، أو الأفروآسيوية كما يحلو للبعض أن يسميها. ونشير هنا إلى أن العلماء المغاربة متفقون على ترويج ودعم العربية (بتنوعاتها) والمازيغية (بتنوعاتها) في المؤتمرات والمنتديات الدولية، ولا خلاف بينهم في هذا الأمر. ولا بد أن تقترن وطننة اللغتين في الدستور بقانون لتجريم نشر الكراهية لألسن الهوية، واللغات بصفة أعم، وتجريم الكراهية بجميع تجلياتها بما فيها الكراهية العرقية، لإيقاف الحملات المتطرفة في هذا الباب. الحق في اللغة الأم وفي اللغات الكونية وينبغي التنصيص في الدستور على الحق في التعلم باللغة الأم، أي بما يجعل العربية والمازيغية لغات التعلم الأولى. ويدخل التنوع اللهجي في باب اللغة الأم، وكذلك الازدواجية اللغوية، ولا يمكن أن تُكَوِّن الصيغ اللهجية للغة لغات منفصلة، كما في التصور الكولونيالي. وينبغي التنصيص في الدستور على حق المواطن في تعلم اللغات الكونية التي تخدم تأهيله وفرصه. فهذا التعلم يتدرج من الطفولة الثانية أو الثالثة، ويكلل بتعدد لغوي في التأهيلي ومختلف مجزوءات التكوين. مجلس أعلى للغات ينبغي إقامة مجلس أعلى للغات ودسترته، دوره تحديد التوازنات اللغوية التي تخدم المواطن وتخدم التنمية، وإنضاج التفكير في القضايا اللغوية، والتهيئ لعرض الاختيارات اللغوية على الاستفتاء الشعبي، أو الهياكل التشريعية والتنفيذية للدولة، وتفادي الفوضى اللغوية التي تتسم بها البيئة اللغوية في البلاد. وبموازاة مع هذا المجلس، لا بد من أن تفكر الجامعات والوزارة الوصية في إقامة مراكز للسانيات من شأنها خدمة قضايا اللغة وتطوير البحوث فيها، لتنمو خبرتنا بالشؤون اللغوية. الترسيم تنفرد اللغة العربية بكونها اللغة الرسمية الوحيدة في المغرب، ويقصد هنا بالعربية الصيغة المعيرة للسان العربي. ورسمية اللغة العربية في هذه الصيغة تعود إلى تاريخ طويل، ابتدأ منذ الجاهلية، في الأسواق الأدبية والتجارية والملتقيات التي سادت فيها صيغ لهجية على أخرى، ثم نزل القرآن بلسان عربي مبين، لا باللهجة، كما ادعى المستشرق الألماني Vollers، إلى أن تعممت كلغة للمعاملات الرسمية في البلدان العربية أولا، وفي بعض البلدان الإسلامية مثل إيران وغيرها. وبعبارة، فإن إقرار اللغة العربية لغة رسمية بالمغرب ابتداء من دولة الأدارسة إلى اليوم لم يأت بعد الاستقلال، بل جاء نتيجة التوحيد في الاستعمال أولا، ثم المعيرة بناء على هذا التوحيد، ثم التطوير الذي حدث بفعل دخول الفرس والأتراك والهنود والأمازغ وغيرهم إلى الإسلام، وخدمتهم للغة القرآن، لتصبح لغة العلوم كلها، والآداب الراقية، الخ. فالترسيم جاء نتيجة طبيعية لهذه السيرورة التاريخية الطويلة. وبما أن العربية استفادت من فرص في التاريخ والجغرافيا والموارد، وفي نمو عدد المتكلمين، الخ، لم تتح للمازيغية، وبما أن هذه الفرص ما زالت تضفي بظلالها على الواقع الحالي، فإن التفكير في ترسيم المازيغية لا يمكن أن يكون إلا مغايرا ومبنيا على أسس أخرى غير تلك التي قامت عليها رسمية اللغة العربية. ففي صدد توحيد المازيغية من لهجات إلى صيغة لهجية تتصدر اللهجات الأخرى، ينبغي التساؤل هل التوحيد يتم في مختبر أو معهد، أم يجب أن يتم عبر حركية توحيدية تتاح للمازيغية، أو باختيار سياسي شعبي، الخ. وبصدد الترسيم، يمكن أن يطرح سؤال يتعلق بالعلاقة بين المحلية والوطنية. هل يجدر بالمازيغية أن ترسم بلهجاتها الثلاث، أم بصيغة لهجية واحدة؟ ويأخذ هذا السؤال أهميته حين يتعلق الأمر بإشكال تحديد اللغة الأم. لقد ركب عدد من النشطاء المازغيين موجة الحق في اللغة الأم في مرافعاتهم الدفاعية، وهذا حق مشروع. إلا أن بعضهم شككوا في كون اللغة العربية الفصيحة يمكن أن تصنف ضمن هذه الخانة، متبنين طرح المدافعين عن اللهجة الدارجة. وعليه، يجب التأكد من أن المازيغية الموحدة، بمعايير المعهد الأمازيغي، تم التوافق على صيغة توحيدها، وكذلك على ازدواجيتها في التعليم والإدارة، الخ. هناك دعاة لترسيم ثنائي بالتساوي بين العربية والمازيغية، ولنا أن نتساءل: أي نموذج لهذا الترسيم؟ هل هو الترسيم البلجيكي، أم الكندي، أم العراقي، الخ؟ ثم ما هي الكلفة الاقتصادية والسياسية لهذه الثنائية؟ وكيف يمكن أن نقفز إليها بحرق المراحل، دون تهيئ تقني، وتهيئ في الاستعمال، وتهيئ فرص هذا الترسيم، الخ؟ وهل الترسيم هدفه تمزيغ من الأعلى، أي تمزيغ عن طريق اللغة المعيرة، وهل ستكون في إطار التمازج مع العربية، بحرفها، أم يهدف إلى خلق كيانين مُفَدْرَلَيْن (نسبة على فيدرالية) يبتعدان الواحد عن الآخر، لغويا وثقافيا، وإن توحدا سياسيا؟ الخ. سيناريوهات الترسيم كثيرة، ينبغي أن تحدد معالمها، ويهيأ ملفها التقني، حتى لا تكون دعوة إلى مجهول. إن وطننة المازيغية في الوقت الحالي أهم من ترسيمها ترسيما غير معروف العواقب. الوطننة تنقلها من وضع لهجي إلى وضع لغة تمتد على التراب. وهي تتيح لها إمكانات الدعم وللنهوض، وتجعلها ضرة للعربية في هذا الباب. وأما الترسيم، فليس ضروريا للدعم والنهوض. فعدد من الدول لا لغة رسمية لها، بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي لا ينص دستورها على رسمية الإنجليزية. إن ترسيم اللغة قد يزول، والوطننة لا تزول. وما يخشى من ترسيم المازيغية، في هذا الوقت، في اتجاه التزام الدولة باستعمالها في مختلف مرافق الإدارة، علاوة على وجود ازدواجية رسمية حاليا، هو أن تتجه الدولة إلى ازدواجية أخرى جديدة، تفرغ ترسيم ألسن الهوية من كل محتوى، وتصبح اللغة الأجنبية فيها هي اللغة الرسمية الفعلية، وبأكثر قوة هذه المرة. المقاربة الشمولية وغير الميزية لإشكال اللغات من الأخطاء التي تتكرر عند الحكومات المتتالية، وعند الدولة بصفة أعم، أنها لم تقارب إشكال اللغات بصفة شمولية، ولجأت إلى التجزيء، وإلى الميز أحيانا، في هذه المقاربة. لقد اقترح ميثاق التربية والتكوين، مثلا، غلافا للاختيارات اللغوية، يغطي كثيرا من الاختلالات في تعليم اللغات. إلا أن هذا التطبيق جاء تجزيئيا، فأضر ببعض اللغات، وبالمقترحات الأصلية. ثم إن الحكومات فضلت المقاربة النزاعية لإشكال اللغة، التي تضرب هذه اللغة أو اللهجة بتلك، علاوة على الازدواجية في الفعل والقول. كيف يفهم مثلا أن أحد وزراء الشؤون الإسلامية يتهجم على اللغة العربية ويصفها بأنها ميتة، ويفعل ما يشبهه بعض وزراء التربية أو الثقافة الذين كرسوا مشوارهم لنشر العداء للعربية؟ هل يمكن أن يحصل هذا في دولة الحق والقانون؟ إن المقاربة الشمولية لمشكل اللغات في المغرب واجبة على كل مغربي، له أن يدلي برأيه في العربية والمازيغية واللغات الأجنبية، الخ، ثم يحترم ما تحدده إرادة الشعب وما يدستر ويقونن. إن ثقافة القوننة والحوققة والدمقرطة لهي السبيل الناجع إلى النهوض بالمواطن، ونمائه ورفاهه، بعيدا عن الضغوط أو الخوف. ولابد من فتح نقاش وطني فعلي يحدد أو يؤكد مختلف الاختيارات. ولابد من مجلس أعلى للغات تتوفر له الخبرة والمراكمة الكافيتين للبحث في مختلف الأمور التقنية والتوجهات، وعرضها على الشعب وممثليه. وما اجتمعت "أمتي" على ضلال. * رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب حلقة "اللغة العربية في بيئة التمكين والتعدد" 20 أبريل 2011 الرباط [email protected]